في أن يجعل الخطوط الممتدة من المركز إلى المحيط متساوية، وزوايا المثلث الثلاث مساوية قائمتين، مثلما كان حرا في ألا يخلق العالم، فلما اختار، غدا اختياره حقًّا؛ ولما كان الله ثابتًا، فلا خوف أن يتغير الحق. والنصوص الواردة بهذا المعنى كثيرة صريحة، تدل على شدة تعلق ديكارت بنظريته هذه؛ وهي واردة في رسائله الخاصة منذ سنة ١٦٢٩، وفي ردوده على الاعتراضات، دون الكتب التي أعلن فيها مذهبه كاملًا منظمًا، وقبل نشره للكتاب الأول من هذه الكتب "وهو "المقال"" بثماني سنين. وفي سنة ١٦٣٠ ظهر كتاب يدور على هذه المسألة لقسيس صديق لديكارت من قساوسة "الأوراتوار" هو الأب Gibicof. والنظرية على كل حال قديمة، نجدها بارزة في القرن الرابع عشر عند دونس سكوت ونقولا دوتركور، ونجدها تولد الشك. وديكارت نفسه يدلنا على أثرها في المعرفة حيث يقول "في التأمل الثالث": "إذا كنت حكمت أن بالاستطاعة الشك في هذه الأشياء، فما كان ذلك لسبب غير أنه كان يخطر ببالي أن إلهًا قد يكون أعطاني طبيعة هي بحيث أخطئ حتى فيما يبدو لي أوضح ما يكون. وكلما عرض لفكري هذا الرأي المتصور آنفًا في إله كلي القدرة، رأيتني مرغمًا على الاعتراف بأن من الميسور له، إن شاء، أن يجعلني أخطئ حتى فيما أعتقد أني أدركه ببيان عظيم جدا؛ وعلى العكس كلما توجهت صوب الأشياء التي أعتقد أني أتصورها بغاية الوضوح، رأيتها تقنعني ... ".
ح- وعلى ذلك نرى أن لهذه النظرية أثرًا كبيرًا في تركيب المذهب، إذا كانت الحقيقة خلقًا حرًّا، فلم يعد لها قيمة بالذات، وإنما قيمتها آتية من أمر الله، وقد كان في مقدور الله أن يقرر نقيضها كما يقول ديكارت ويكرر القول، وإذن فباستطاعتنا أن نشك فيها مهما بدت ضرورية؛ لأنها ضرورية بالإضافة إلينا، ولكنها ممكنة في نفسها وبالإضافة إلى الله. فالشك الكلي المؤيد بفرض الروح الخبيث يتناول ماهية الحقيقة وصدق الفكر، وليس يشك ديكارت في صدق الفكر إلا لأنه يشك في الحقيقة. فكان محتومًا عليه أن يستبعد كل حقيقة حتى يبلغ إلى الفكر الخالص، لكي يقف نفس موقف الله وهو يقرر الحقيقة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا كانت الحقيقة وضعية، فليس يعتبر الوضوح علامة حاسمة لتصديقها، ولكنه شعور ذاتي يميل بنا إلى التصديق،
1 / 78