عرفنا أن القلب نقل حرف من موضعه إلى موضع آخر من الكلمة نفسها فتولد من ذلك كلمة أخرى جديدة، وبعبارة أخرى تصير الكلمة الواحدة كلمتين.
أما الإبدال فهو أن ترفع حرفا وتضع غيره موضعه، فتتولد من ذلك كلمة أخرى تدل على عين ما تدل عليه الأولى من المعنى، فهو أخو القلب من ناحية أثره في الثروة اللفظية للغة دون المعنوية منها.
وقد اختلفوا فيه كما اختلفوا في القلب، فقال فريق: المبدل والمبدل منه يقعان في لغة القبيلة الواحدة، فالقبيلة التي تقول «صراط» هي نفسها تقول «سراط». ويذهب المحققون إلى أن العرب لا تتعمد تعويض حرف من حرف، وإنما هي لغات مختلفة لفظا لقبائل مختلفة تدل على معان متفقة، بأن تتقارب اللفظتان في لغتين لمعنى واحد حتى إنهما لا يختلفان إلا في حرف واحد. وعلى هذا لا تتكلم القبيلة الواحدة بكلمة طورا بالصاد وطورا بالسين، إنما يقول هذا قوم وذاك قوم آخرون.
ومن أمثلة هذا الباب قولهم: ضربة لازب ولازم، وتلعثم وتلعذم، والقطر والقتر للناحية وجمعهما أقطار وأقتار. والحثالة والحفالة للرديء من كل شيء، والثوم والفوم وهو الحنطة. واللثام واللفام، وبعثر وبحثر، ومد الحرف ومطه، والثرى والبرى ... إلخ، والأمثلة كثيرة تكاد تفوت الحصر حتى قال بعض المحققين: قلما تجد حرفا إلا وقد جاء فيه البدل ولو نادرا، يريد به البدل السماعي، أما ما يذكره الصرفيون من أن حروف الإبدال تسعة «أ، ت، د، ط، م، ه، و، ي» فإنهم يريدون به الإبدال القياسي، وهو مفصل في كتبهم وليس من موضوعنا الإفاضة فيه. وللإبدال السماعي دواع كثيرة، منها: سهولة اللفظ بأحد الحرفين المبدل أو المبدل منه، ومنها - وهو أهمها - البيئة فإن لها الأثر البين في تنشئة الألسن؛ ولهذا تجد القبائل اليمانية مثلا تختلف في كثير من الألفاظ عن القبائل الحجازية، فإن هؤلاء ينطقون السين سينا فيقولون الناس مثلا، وأولئك يقلبونها تاء فيقولون النات، وهؤلاء يقولون لبيك وسعديك مثلا، وأولئك لبيش وسعديش بقلب الكاف شينا وهي شنشنتهم.
وسنعرض لهذا البحث في باب اختلاف لغات القبائل ونمنحه فضل إيضاح إن شاء الله تعالى. (4-5) الترادف
من الألفاظ ما يؤدي معنى واحدا كرجل وفرس وبغداد ومكة مثلا، ومنها ما يؤدي أكثر من معنى واحد على وجه الحقيقة مثل «خال»، فإنه موضوع لأخي الأم وللشامة المعروفة وللسحاب وللمتكبر ... إلخ. ومنها ما هو بالعكس معنى واحد يوضع للدلالة عليه أكثر من لفظ واحد، فإنهم مثلا وضعوا الحنطة والقمح والبر والفوم والثوم للحب المعروف، ووضعوا للسيف خمسين اسما، وللأسد مئات، وأكثر منها للجمل، وأمثلة هذا الباب كثيرة، وقد أفرده بالتأليف جماعة منهم: مجد الدين الفيروزبادي صاحب القاموس، وضع فيه كتابا أسماه «الروض المسلوف في ما له اسمان من المألوف»، وبعضهم أفرد بالتأليف أسماء بعض المعاني فألف ابن خالويه كتابا في أسماء الحية، وألف الفيروزبادي كتابا في أسماء العسل، وأفرد السيوطي كتابا في أسماء الأسد. ومن الناس من ينكر المترادف في اللغة العربية ويزعم أن كل ما يظن أنه من المترادف إنما هو من قبيل المتغايرات التي تختلف باختلاف الصفات، ومن ذهب إلى هذا أبو الحسين أحمد بن فارس، قال في كتابه فقه اللغة المعروف ب «الصاحبي»: «يسمى الشيء الواحد بالأسماء المختلفة نحو: السيف والمهند والحسام، والذي نقوله في هذا: إن الاسم واحد وهو السيف، وما بعده من الألقاب صفات، ومذهبنا أن كل صفة معناها غير معنى الأخرى.»
وهو مذهب ثعلب وجماعة من محققي اللغويين، وقد حكى بعضهم أن جماعة من أهل الفضل فيهم ابن خالويه وأبو علي الفارسي حضروا في مجلس سيف الدولة في حلب، فقال ابن خالويه: إني أحفظ للسيف خمسين اسما. فتبسم أبو علي الفارسي وقال: ما أحفظ له إلا اسما واحدا وهو السيف. قال ابن خالويه: فأين المهند والصارم وكذا وكذا ...؟ فقال أبو علي: هذه صفات. وكأن الشيخ لا يفرق بين الاسم والصفة.
ومن الواضح أن الترادف خلاف الأصل لأنه طريق إلى الإسراف في الألفاظ وهو خلاف المعقول؛ لأن الألفاظ محصورة والمعاني غير محصورة؛ إذ الألفاظ مركبة من الحروف الهجائية على أوضاع معينة فلا بد أن تقف عند رقم معين، أما المعاني فهي بنات المحسوس ونتاج العقول فلا يعقل أن تقف عند حد.
ومن ثم ينبغي أن يكون الأصل الاقتصاد في الألفاظ بقدر الطاقة، وعلى هذا ينبغي ألا نقول بالترادف إلا عندما يتعذر الحمل على غيره. والحق أن معظم الألفاظ التي يقال في بادئ الرأي إنها متوطئة على معنى واحد هي في الواقع ليست كذلك، فإذا أنت أنعمت النظر فيها تبين لك أن كل لفظ منها يدل على معنى يختلف ولو قليلا عما يدل عليه اللفظ الآخر، فإذا أخذنا لفظي الشك والريب مثلا نجد الجمهور يفسرون أحدهما بالآخر فيقولون في تفسير
لا ريب فيه : لا شك، مع أن بين معنييهما اختلافا بينا، فالشك يدل على مجرد التردد بين أمرين لا يترجح أحدهما على الآخر، مع أن الريب يدل على القلق والاضطراب في النفس متولدين من التردد الذي يدل عليه الشك فالريب شك مصحوب بقلق واضطراب، ومن ثم يقال: هو في شك مريب؛ أي مقلق مزعج، ولا يقال: هو في ريب مشكك، وعلى هذا لا بد أن يسبق الريب بالشك ولا عكس. ومثل ذلك الظن والوهم، فإن الفكر إذا تردد بين أمرين وكان أحدهما أرجح من الآخر فالجانب الراجح ظن والمرجوح وهم بسكون الهاء، أما المفتوح الهاء فهو الخطأ. وكذلك إذا أخذنا الشرق والغصص والشجا مثلا، نجد الأول يدل على انسداد مجرى التنفس بالماء وكل مائع، والثاني يدل على انسداده بالطعام، والثالث بالعظم وكل صلب، وبعض اللغويين يفسر بعض هذه الألفاظ ببعض.
Неизвестная страница