وتم تأسيس الجامعة في غياب اللورد لويد، ولما عاد إلى مصر ووجدها قائمة كان ينتفض غيظا وجزعا.
وكانت همة الإنجليز المشئومة في منع التعليم تتجه إلى البنات كما تتجه إلى الغلمان؛ فإنهم منعوا التعليم الثانوي للبنات ولم نستطع إيجاد مدرسة ثانوية للبنات إلا في 1925. وكانت وزارة المعارف ترسل بعثات إلى أوروبا وتشترط على أعضائها ألا يلتحقوا بأية جامعة، وإذا فعلوا فصلوا من البعثة وحرموا الإعانة المالية.
هذا من ناحية التعليم من حيث المنع أي من حيث تحديد الكم، ولكن حملتهم المشئومة كانت تتجه أيضا نحو الكيف. فكانوا مثلا يصرون على ألا تدخل بنت في المدرسة السنية الابتدائية - أكرر كلمة ابتدائية - إلا وهي مبرقعة. كما كانوا يصرون على أن يكون معلم اللغة العربية معمما؛ غيرة على التقاليد. حتى نبقى من دعاة الفعل الماضي نعيش في الأمس.
أما من ناحية الصناعة فقد عرفوا المصنع في عام 1904 بأنه: «محل مقلق بالراحة أو مضر بالصحة أو خطر.» ولا يزال هذا التعريف قائما إلى الآن. وهو يكفي لإقفال أي مصنع في العالم. ولذلك لم يجرؤ واحد على إنشاء مصنع إلى 1919، بل إني أنظر في جدول الصادرات والواردات في 1913 فأجد أن الواردات إلى مصر كلها من السلع الإنتاجية - أي الآلات - لا يزيد ثمنها على 1800 جنيه؛ أي أقل مما يحتاج إليه مصنع صغير في سنة واحدة.
واتجه الإنجليز إلى إحالة القطر المصري كله إلى عزبة للقطن، وانبعثت هممهم إلى زيادة محصوله بإيجاد المشروعات للري حتى يتوافر فيشترونه رخيصا ولا يخشون المزاحمة الأمريكية في الأسواق العالمية. ولم يكن الإنجليز قط أمة زراعية، فكان من العجب أن يفتونا هم في الزراعة ويتسلطوا على حظوظنا فيها. والمتأمل لتاريخ وزارة الأشغال ووزارة الزراعة يجد أنهما كانتا تعملان وتشتركان لهدف واحد. هدف واحد ليس له ثان هو زراعة القطن. الأولى تقيم القناطر وتخزن المياه وتشق القنوات، والثانية تقوم بالتجارب لإيجاد سلالات جديدة من القطن تمتاز بها صناعات لنكشير في إنجلترا.
أما كيف نصنع قطعة الجبن أو كيف نزرع التفاح أو كيف نربي الدجاج أو كيف نزيد ثروة الفلاح، فكل هذا لم يخطر قط بالأذهان المالية السياسية البريطانية. وقد أدى بنا هذا إلى أننا - ونحن أمة زراعية كما زعموا - كنا نشتري أقة التفاح بجنيه ونصف جنيه مدة الحرب الأخيرة.
والإنجليز في جنونهم بزراعة القطن لم يبالوا قط بما سوف يؤدي إليه خزن المياه في النيل، وتوفيرها في قنوات الريف من الأراضي. لم يبالوا أية مبالاة سواء بصحة التربة أو صحة الفلاحين أو الماشية أو النبات. فإن أي إنسان - مهما يكن جاهلا - كان يستطيع أن يفهم في 1900 مثلا أنه إذا استشبعت التربة بالمياه الوفيرة فإنها ستملح وتقل خصوبتها، كما أن الحشرات والديدان ستعيش فيها وتتكاثر. ولا بد أن تفشو ديدان البلهارسيا والأنكلستوما والأسكاريس.
وقد فشت كل هذه الديدان التي لم نكن نعرفها في 1900 إلا قليلا جدا. إذ لم يكن بين الفلاحين ممن يحملون هذه الديدان في أجسامهم تأكل لحومهم وتشرب دماءهم من 1890 إلى 1900 سوى 2 أو 3 في المائة فأصبحوا الآن - بفضل جنون الساسة التجاريين من الإنجليز - نحو 80 أو 90 في المائة. وأصبحنا أمة مريضة نحاول الآن أن نشفي فلاحينا من هذه الديدان.
ومحاولتنا إلى حد بعيد عقيمة؛ لأن أساس الري الذي وضعه الإنجليز في جنونهم بزراعة القطن وهم أمة غير زراعية، هذا الأساس لا يزال قائما. ومياه الري تعلو مستوى التربة.
وإني أذكر حين كنت صبيا بين 1895 و1900 أني كنت ألعب مع الصبيان الفلاحين في الريف فكنا نجد الأرض أيام الجفاف مشققة يبلغ عرض الشق فيها نحو ربع متر، وقد يطول إلى خمسة أمتار أو أكثر، ولا يقل عمقه عن نصف متر أو متر. وكانت الحشرات والديدان تموت في هذا الجفاف. وكان الفلاحون يستمتعون بصحة عجيبة. وكان الفدان يغل عشرة قناطير أو اثني عشر قنطارا من القطن. وهذا كلام يكاد الفلاحون أنفسهم لا يصدقونه. ولكني رأيته بعيني. وخصوبة الأرض متصلة - كما يعرف جميع الذين مارسوا الزراعة وفطنوا إلى الأمراض الريفية - بصحة الفلاح بل بصحة النبات والحيوان. ولكن طرق الري التي أفشاها الإنجليز في ريفنا أفسدتنا جميعا، ناسا وحيوانا ونباتا وتربة.
Неизвестная страница