وأرسلت إلي مي عقب التعطيل خطابا تطلب مني أن أحرر «المحروسة» وكانت جريدة يومية قليلة الانتشار يصدرها والدها، فقبلت، وبقيت أحررها جملة أشهر سئمت بعدها الكتابة مع المراقبة الصارمة التي كانت تفرضها إدارة المطبوعات على الصحف. ولم يكن يخفف من هذا السأم سوى زيارات مي ومؤانستها لنا من وقت لآخر؛ فقد كانت حلاوتها تمتزج بظرف ورقة.
وبقيت طوال الحرب الكبرى الأولى وأنا معطل. وقد قضيت معظم سني هذه الحرب في الريف في عزبتنا بالقرب من الزقازيق ... وكانت تلك الأيام بمثابة الحضانة. فقد أكببت على القراءة الجدية في الآداب والعلوم واستوعبت منها كثيرا. وكنت من وقت لآخر أقصد إلى مأمور المركز في الزقازيق كي أرجوه في الإفراج عن أحد الذين قبض عليهم من الفلاحين. وكانت الحكومة تنفذ شرطتها إلى الأسواق الريفية العامة فتقبض على من تستطيع من هؤلاء المساكين وتربطهم بالحبال الغليظة كما لو كانوا أسرى حرب. ثم يبعثهم الإنجليز إلى فلسطين وكانوا يموتون بالمئات والألوف. ولم أكن أنجح في تخليصهم إلا بالرشوة.
وسئمت الركود الريفي، فاشتغلت بالتعليم فترة. ثم هبت الثورة في 1919 ورأيت أن أقصد إلى القاهرة حتى أكون على صلة بالحوادث وحتى أجد منفذا جديدا إلى الصحافة. وتحقق لي ذلك؛ فإني بعد أن اشتغلت بالتعليم في مدرسة التوفيق قليلا اشتركت في تحرير «الهلال» واشتركت أيضا في تحرير «البلاغ».
وانغمست في السياسة مع المرحوم عبد القادر حمزة. وكنت أزور معه سعدا. وكان عبد القادر حمزة من الكتاب الأفذاذ إذا نشب في موضوع لم يترك الجدل فيه حتى يستقصيه ويخرج منه منتصرا. وكان نزيها في حكمه حتى حين كان يختلف. فإنه بعد أن ترك الوفد في 1931 بقي على صداقته السابقة مع كثير من الوفديين.
وأصدرت «المجلة الجديدة» في أواخر 1929. وأصدرت «المصري» في السنة التالية. وكانت الأولى شهرية والثاني أسبوعيا. وكانت الدعوة في كليهما تحريرية في الثقافة والسياسة. وعصفت بنا في 1930 عاصفة سياسية في وزارة إسماعيل صدقي باشا، فألغى الدستور واستبدل به آخر بعيدا عن الديمقراطية. وألغيت مجلتاي. وكان قد شرط في قانون النشر الجديد أن من يطلب امتيازا لجريدة أو مجلة جديدة يجب أن يؤدي تأمينا قدره 150 جنيها. فأديت التأمين نقدا، ولكنه رفض. وبعد ثلاث سنوات أي في 1934 جاءت وزارة عبد الفتاح يحيى باشا، فاستطعت أن أعيد إصدار «المجلة الجديدة» بضمان عامل في المطبعة عندي ... وهذه هي حالنا في مصر: في وزارة يرفض التأمين النقدي وفي وزارة أخرى يقبل ضمان العامل الذي لا يملك شيئا.
وفي بداية الحرب الكبرى الثانية أنشئت وزارة الشئون الاجتماعية، فاستدعتني كي أحرر مجلتها. وقبلت لأني وجدت أن الفرصة تتيح لي الإرشاد العصري والتوجيه الاجتماعي. وبقيت أكتب في هذه المجلة نحو سنتين. وكانت مقالاتي يوقع عليها بإمضائي أو تنشر بلا إمضاء. فإذا راقت المشرفين على المجلة وضع لها إمضاء غيري حتى ولو لم تكن له علاقة بالوزارة. وقد كان هذا العمل مثارا للسخرية أحيانا وللأسف أحيانا.
وكنت أتناول عشرين جنيها راتبا شهريا على التحرير دون أي اشتراط على القدر الذي أكتب أو على مواظبة الحضور. فكان يمضي الشهر دون أن أحضر للوزارة، وكنت أكتب أي قدر شئت من الصفحات. ولكن الوزارة ضنت علي بهذه الحرية مع صغر الراتب. فألغته وعينت أربعين قرشا للصفحة الواحدة. ورأيت آخر الشهر بعد هذا النظام أن كل ما حصلت عليه هو جنيهان فقط، فتركت التحرير.
وكنت طوال عملي بالوزارة أصدر «المجلة الجديدة» أيضا. وبقيت على ذلك إلى 1942 حين سلمتها لبعض الإخوان الأصدقاء كي يقوموا بنشرها وكي أختص أنا في التحرير السياسي. ولكنهم نزعوا نزعة ديمقراطية يسارية مسرفة لم ترض الاستعمار، فألغيت في تلك السنة بأمر عسكري.
وفي السنة التالية اشتريت امتياز جريدة يومية. وقبلت إدارة المطبوعات نقل الامتياز الذي أثبت فيه أنها «يومية» وذكر فيه الضمان بأنه 300 جنيه أي ضمان جريدة يومية. وبعد أن قبل كل هذا وبعد أن استعددت لإصدار هذه الجريدة اليومية أقيلت وزارة الوفد. وفي اليوم التالي للإقالة في أكتوبر من 1944 أبلغتني إدارة المطبوعات أن الجريدة شهرية وأنه لا يجوز لي أن أصدرها يومية.
وعندما أقارن بين صحافة الجيل الماضي - من 1900 إلى 1920 - وصحافة الجيل الحاضر! أجد أننا قد تقدمنا وتأخرنا. أجل! تقدمنا في فن الطبع والإخراج تقدما عظيما جدا؛ فإن جرائدنا ومجلاتنا تدل على رقي فني يضارع أعلى المستويات الصحفية في أوروبا. ولكننا من حيث التحرير تأخرنا؛ إذ ليس عندنا الآن من المحررين من يضارعون مصطفى كامل أو علي يوسف أو لطفي السيد. وقد مات عبد القادر حمزة وهو آخر هذا الجيل المنقرض.
Неизвестная страница