وقد يسأل القارئ: لماذا لم أعد إلى باريس بعد أن قضيت فيها نحو سنتين كانت بالطبع لا تكفي للتعلم؟
وللإجابة أقول إن باريس بعد أن بسطت لي آفاق الثقافة الأوروبية حملتني على أن أسرف في الطموح. فقد كنت في مصر أعيش في عزوبة ثقافية لا أقرأ غير اللغة العربية ولا أستنير عن شئون هذا العالم حتى بقراءة الجريدة العربية. وكان تعلمي للفرنسية بمثابة التزوج من الثقافة الأوروبية. وخشيت إن أنا بقيت في باريس أن أنسى اللغة الإنجليزية التي تعلمتها بمصر. فأضمرت برنامجا لتربيتي الذاتية، برنامج الحياة، هو أن أعيش في لندن سنة أو أكثر ثم أقصد إلى برلين فأتعلم الألمانية. وامتلاك هذه اللغات الثلاث يكفل الاتصال بالعالم المتمدن كله جملة وتفصيلا من حيث الوقوف على معارفه واتجاهاته. وقد اختل هذا البرنامج فيما بعد؛ فإني وأنا في لندن شرعت في تعلم الألمانية، ولكن صعوبة هذه اللغة، وأيضا سوء الطريقة التي اتبعها المعلم معي، كلاهما جعلني أكف عن الاستمرار في تعلمها. وبدلا من أن أبقى في لندن سنة بقيت نحو أربع سنوات.
ورأيت وأنا بلندن أن أتخذ دراسة نظامية إلى جنب دراساتي الأخرى الاختيارية. ولم يكن لي من قصد في هذه الدراسة النظامية سوى الحصول على الشهادة للوجاهة لا للكسب؛ ولذلك لم أبال أية دراسة. والتحقت بلنكولنز إن، وهي أشبه بهيئة نقابية للمحامين في لندن تجهز الطلبة الملتحقين بها بدراسات قانونية ينتهي من يجتاز الامتحان فيها بالحصول على شهادة هي في الحقيقة رخصة بأن يكون محاميا أو وكيل دعاوى. وقد كان اختياري لهذه الدراسة كارثة؛ فإني بعد أن درست الدستور البريطاني بشيء من الحماسة والتوسع وجدت سائر القوانين الإنجليزية لا تطاق ولا تستحق العناء، وخاصة تلك القوانين التي تعالج مشكلات التجارة البحرية؛ ولذلك شملني فتور حال دون الاستمرار في الدراسة.
ولكن هذا الفتور في دراسة القوانين الإنجليزية كان يصحبه نشاط محموم في دراسات أخرى كنت أتهجد لها في الليل. كما كانت هناك فترات تطول أياما بلا دراسة ولكن في تأمل وفي امتحان ذاتي حين كنت أبحث عن مراسي في هذه الدنيا المبلبلة. وأذكر أني - في إحدى هذه الفترات - وجدتني قاعدا على الكرسي كأني قد سمرت به، وكأني نويت أني لن أبرح هذا الكرسي حتى أصل إلى قرار حاسم. ماذا أنا عامل في هذه الدنيا؟ من هم خصومي الذين يجب أن أكافحهم؟ من هم أصدقائي الذين يجب أن أؤيدهم؟
ووجدتني أفكر وأجيب. وأحيانا يحتد تفكيري فأسمعه كلاما أنطق به. أجل، ليس لي مأرب في هذه الدنيا، فلست أبالي أن أكون ثريا، لا بل لست أبالي أيضا أن تكون لي زوجة وأطفال. وإنما قصدي أن أفهم، أن أعرف كل شيء وآكل المعرفة أكلا.
ثم عدت فقلت: ولكن لماذا؟ وأجبت: لأكافح.
أكافح الإنجليز حتى يجلوا عن وطننا، وأيضا أكافح تاريخنا.
أكافح هذا الشرق المتعفن الذي تنغل فيه ديدان التقاليد. وأكافح هذا الهوان الذي يعيش فيه أبناء وطني: هوان الجهل وهوان الفقر. أجل إني عدو للإنجليز وعدو لآلاف من أبناء وطني، لهؤلاء الرجعيين الذين يعارضون العلم والحضارة العصرية وحرية المرأة، ويؤمنون بالغيبيات، وصارت هذه الأفكار هما يؤرق.
وعقب مقامي في لندن بأربعة أشهر فقط أصبت بنزلة شعبية فنهضت منها منهوكا حتى نصح لي الطبيب المعالج بأن أعود إلى مصر كي أنتفع بشمسها، فوجدت أن العودة إلى مصر بعد شهور فقط قد تحدث ارتباكا كبيرا في برنامجي. ولما كان الغرض هو ترك جو لندن أي الضباب والبرودة فإني فكرت في مراكش لقربها من إنجلترا. وقلت: أقضي بضعة أسابيع هناك وأعود في مارس حين يكون قد خف البرد. وتجهزت للسفر. وكانت الرحلة من لندن إلى جبل طارق حافلة بعناء الأمواج المضطربة في خليج بسكاي ونغاصة الإقامة مع الموظفين الإنجليز العائدين إلى مصر والهند وسائر الإمبراطورية. وكان هؤلاء ينظرون إلينا كأننا كلاب بل أشنع. ونزلت في جبل طارق حيث طاب لي أن أتردد على المراكشيين التجار وأتحدث معهم بالإنجليزية والعربية.
وقصدت إلى طنجة مدينة ابن بطوطة، وهناك قضيت نحو عشرين يوما كان أعظم وقعها في نفسي أني اقتنعت بأن الشرق مفلس وأن طراز الثقافة الذي يعيش به ويسترشد بقواعده يجب أن يتغير. فقد كانت الحكومة المراكشية تبيع الحشيش للأهالي وتحتكر الاتجار به تؤثر بذلك ربحها على صحة السكان . وقد حدث أني خرجت مع الدليل لرؤية بعض الآثار الرومانية التي تبعد أميالا عن طنجة. وكان كل منا على بغلة، ولما وصلنا إلى سفح تل نزلنا للاستراحة، فانطلقت بغلة الدليل وفرت فوق التل، فلما طلبت إليه أن ينهض ويدركها أجابني في برود وطمأنينة بأن الحشيش «قطع» قلبه، وأني يجب أن أنهض أنا وأعدو وراء البغلة حتى أمسكها وأعود بها إليه. ونظرت إلى وجهه وتأملت شحوبه وتحقق لي أنه ليس هناك مفر من أن أستمع لكلامه. وقمت أجري خلف البغلة على التل. وقد احتجت إلى نحو نصف ساعة وأنا ألهث جهدا حتى قبضت عليها وعدت بها لهذا الدليل الحشاش.
Неизвестная страница