وقد تشعبت فكرة التطور عندي فأصبحت إيمانا بالارتقاء واتجاها نحو المستقبل وبحثا بل أبحاثا متكررة في معاني الحضارة والثقافة والعلم.
نحن المؤلفين نتجاوب مع مؤلفاتنا نؤثر فيها ونتأثر بها. وهي - كما توجه القراء - توجهنا نحن أيضا. وبالطبع أعني المؤلفات التي تتصل بالأخلاق والحياة العامة والمذاهب والسلوك؛ إذ ليس من المعقول أن مؤلفا يؤلف كتابا في صناعة الصابون أو القيم الصحية في بعض الأغذية تتأثر حياته به. وإن كنت أظن أن اهتمامه بمثل هذه الموضوعات سيربطه - ثقافيا وعلميا - بها طيلة حياته. ولكن العبرة الكبرى بالكتب التي نؤلفها في الأخلاق والمذاهب والسياسة والاجتماع.
وبكلمة أخرى أستطيع أن أقول للقارىء: إذا شئت أن تتعرف إلى مؤلف وتقف على منهجه في الحياة واتجاهه الفلسفي فإنه يكفيك أن تقرأ عناوين مؤلفاته.
ذلك لأن مؤلفاته هي حياته.
ومؤلفاته الأولى على الأخص؛ إذ هي مؤلفاته التي ألفها عفو ميله واتجاهه، وقصد منها إلى البوح والاعتراف عما كان يكظم في نفسه من أفكار.
والأغلب أنه لم يكسب منها بل لعله خسر فيها؛ إذ هو ألفها دون أن يهدف إلى كسب وإنما إلى إشباع شهوة ذهنية.
فيما بين 1909 و1914 ألفت «مقدمة السبرمان» و«نشوء فكرة الله» و«الاشتراكية» وجميعها خسرت فيها بل لم أكد أجمع جنيها كاملا منها كلها. ولكني سعدت بها؛ لأني بحت بالمكتوم في نفسي واسترحت بالبوح.
وليس عجيبا بعد ذلك أن أعظم مؤلفاتي انتشارا وهو كتاب «نظرية التطور وأصل الإنسان»، الذي ألفته منذ ثلاثين سنة، كان أقلها كسبا لي. فقد بعت حقوق الطبع الكاملة فيه بعشرين جنيها فقط، مع أنه الآن في الطبعة الرابعة.
وقد يظن القارئ أني أبتئس بذلك، ولكن العكس هو الصحيح؛ فإني سعيد بانتشاره لأنه يعالج نظرية حبيبة إلى نفسي أحب أن تنغرس مبادئها في قلوب القراء العرب حتى يسترشدوا بها في السياسة والاجتماع والأخلاق ...
هو هزيمة مالية فاضحة ولكنه انتصار ذهني رائع.
Неизвестная страница