Египетские и западные переводы
تراجم مصرية وغربية
Жанры
ذكر معه تحرير المرأة في مصر، فأول صيحة ارتفعت لهذا التحرير هي صيحة قاسم في كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، وعلى أثر هذه الصيحة قام جدل عظيم في الموضوع ما تزال حواشيه باقية إلى يومنا هذا، مع ذلك، ومع أن قاسما لم يمت إلا من عشرين سنة، فلو أنه بعث اليوم ورأى من آثار دعوته هذا التعليم الإجباري للبنين والبنات ، وهذه النهضة النسوية العظيمة في مختلف جوانب الحياة، وهذه الحرية النسبية التي تتمتع بها المرأة، وهذا الإصلاح في التشريع للأحوال الشخصية ما تم منه وما يوشك أن يتم، إذا لأخذته الدهشة، ثم لانقلبت دهشته اغتباطا أي اغتباط بهذه الآثار، ثم لعقب سروره أسف على ما اضطر إليه في كتبه من محافظة ألزمه إياها روح عصره الجامد، ثم لترك ميدان المرأة وتحريرها يسير في طريقه الطبيعي، ولفكر في ميدان آخر من ميادين الإصلاح الاجتماعي الخطير الذي تحتاج مصر اليوم إليه أشد الحاجة، ولعل الأدب القومي وخلقه وتوطيده والارتفاع به إلى سماوات الإنتاج الذاتي الخصيب يكون بعض الميادين التي يصرف إليها بطل الجامعة المصرية منذ تأسيسها وأحد واضعي أسس هذا الأدب القومي في كتبه الثلاثة كل ما يكون لديه بعد بعثه من نشاط وجهد.
ذلك بأن روح قاسم كانت روح أديب، كانت الروح العصبية الحساسة الثائرة التي لا تعرف الطمأنينة ولا تستريح إلى السكون، وكانت الروح المشوقة التي لا تعرف الانزواء في كن للبحث والتنقيب حيث تنسى نفسها وتستبدل بكنها ما في حياة الكون وحركته من نشاط وجمال، بل كانت عيونه الواسعة تريد أن ترى جدة الوجود الدائمة تتكرر مناظرها فتطبع على صفحات نفسه وحيا وإلهاما أكثر مما تؤدي إليهما المباحث الجافة منطقا وجدلا، وكانت هذه المناظر تذكي شعوره الحساس بجمال الحياة، وتدعوه إلى الحرص على متاعه بها وعلى دعوته غيره لهذا المتاع، وذلك لا يؤتاه إلا رجل فن جميل لا يقف عند التلذذ لنفسه بنعم الحياة، بل يعبر لغيره عن معاني هذه النعم، وكما يعبر الموسيقي بالنغم والمصور بالنقش والمثال بالنحت والشاعر بالوزن، كذلك الكاتب الأديب يجد في وصف ما في الحياة من مختلف ألوان الجمال ما يعبر عن شعوره به وما يدعو غيره إليه، وحياة قاسم كانت كلها متجهة إلى هذه الدعوة، وكانت متجهة إليها بقوة آخذة بنفسه متغلبة عليه حالة منه محل الإيمان بها إيمانا صادقا.
ولد قاسم مصريا يجري في عروقه دم كردي، أورثه إياه جده الأمير الكردي ، وولد في أسرة متوسطة اليسار لم يفسدها ترف الإكثار ولم تجن عليها آثار الحاجة، وتربى منذ نشأته تربية أمثاله، ثم سافر إلى فرنسا حيث درس الحقوق وعاد في سنة 1885، وليس في ظروف صباه شيء غير عادي إلا أنه كان جم الحظ من الحياء مما ألزمه العكوف على نفسه وعلى درسه، وليس في حياته بعد ذلك شيء من المجازفات التي تجذب لأصحابها أنظار الجماهير، بل ظل منذ أتم دراسته إلى أن عاجلته منيته سنة 1908 وهو في ريعان قوته قاضيا ثم مستشارا بمحكمة الاستئناف.
لكنه كان مع حيائه الجم عيوفا يحترم نفسه وكرامته كما يحترم الغير وحريته، فلم يجرب عليه أحد ضعة ولا ضعفا، ولعل أقدس ما كان يجله من مظاهر الحرية حرية الرأي، وتلك ظاهرة كثيرا ما تلقاها في ذوي الحياء، فهم مع احترامهم لغيرهم ولحريته ومع مبالغتهم في هذا الاحترام إلى حد يهون معه عليهم أحيانا أن يتحملوا سوء استعمال الغير لهذه الحرية إلى حد يضايقهم، تراهم إذا أراد مريد حبس رأيهم أو محاربته توترت كل أعصابهم وانتفضوا انتفاضة الليث تبدو أنيابه ومخالبه ووقفوا مستميتين يذودون عن رأيهم ويستهينون في سبيل ذلك بالمال والجاه وبالحرية والحياة وذلك سر نجاحهم دائما، على أنهم لذلك لا يصدرون عن الرأي إلا بعد تمحيصه وتقليبه على مختلف وجوهه والاقتناع به اقتناعا يحل منهم مكان الإيمان، وهذا ما عبر عنه قاسم في مقدمة كتابه «تحرير المرأة» حين قال: «هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة كنت في خلالها أقلبها وأمتحنها وأحللها، حتى إذا تجردت من كل ما كان يختلط بها من الخطأ استولت على مكان عظيم من موضع الفكر مني، وصارت تشغلني بورودها وتنبهني إلى مزاياها وتنبهني بالحاجة إليها، فرأيت أن لا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر.»
وهذا الخلق فيه هو الذي جعله منذ عودته من دراسة الحقوق بفرنسا إلى خاتمة حياته قاضيا ممتازا، فهو لم يقض يوما لينال حظوة عند أحد أو ليصفق الجمهور له، ولم يكن من بين القضاة الذين قال عنهم: «أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل.» ولم يتقيد في قضائه بآراء الفقهاء أو أحكام المحاكم مما يعتبره أكثر القضاة حجة لا محيد عنها، بل لم يتقيد بنص القانون إذا لم يصادف هذا النص مكان الاقتناع منه، وهذا هو ما جعله ميالا للرأفة في قضائه نافرا أشد النفور من حكم الإعدام، فقد كان يرى «أن العفو هو الوسيلة الوحيدة التي ربما تنفع لإصلاح الذنب»، وأن «معاقبة الشر بالشر إضافة شر إلى شر»، وأن «التسامح والعفو عن كل شيء وعن كل شخص هما أحسن ما يعالج به السوء ويفيد في إصلاح فاعله»، وأن «الخطيئة هي الشيء المعتاد الذي لا محل للاستغراب منه، والحال الطبيعية الملازمة لغريزة الإنسان»، فإذا كانت الجماعة لم توفق بعد لإدراك هذه الأفكار وكانت قوانينها التي وكل إليه تطبيقها كقاض ما تزال تجري على سنة القصاص والانتقام وما تزال دموية متوحشة، فلا أقل من أن يتحاشى الإعدام وهو أشد ما فيها وحشية، وهو العقوبة الوحيدة التي لا سبيل لعلاجها إذا ظهر خطأ القاضي أو ثابت الجماعة إلى رشدها ورأت تعديل أساس عقوباتها بجعل العقوبة للإصلاح لا للقصاص أو أخذت بمذهب العفو والتسامح.
وكذلك كان رأيه في قضائه المدني، لم يكن يتقيد بالإجراءات إذا رأى العدالة توشك أن تهدر لأن واحدا من هذه الإجراءات لم يراع المراعاة الواجبة، ثم كان أشد القضاة ميلا لمصالحة المتخاصمين ولإحلال التسامح محل النضال والحسنى مكان الشر والسوء، وهو في هذا ككثير من القضاة والمفكرين الذين أحدثوا بأحكامهم جديدا في العدالة وفي التشريع، والذين خطوا بنصوص القوانين إلى معان تتفق مع الرقي الإنساني الذي يصبون إليه ويودون لو يتحقق، وأنت إذ تقرأ أحكامه تشعر فيها بهذه المعاني التي ربما خيل إلى رجال القضاء بالمهنة أنها إلى الأدب والخيال أقرب منها إلى النصوص المقدسة، والتي كانت مع ذلك وسيلة التطور التشريعي في سبيل بلوغ العدالة منازل الكمال.
وهذه الآراء المتقدمة التي اعتنقها قاسم في نظره إلى الإنسان وفي تحليله نفسيته، وهذه الأعصاب الثائرة التي تهتز لكل ما في الحياة من جمال وترجو لو يستمتع الناس به، وتربية قاسم في وسط فرنسا الحر الذي كان متأثرا بالثورة الكبرى وبثورات سنة 1830 وسنة 1848 وسنة 1870، ذلك كله هو الذي دفعه ليعلن رأيه في تحرير المرأة مع علمه بما يثيره إعلان هذا الرأي عليه من حملات شعواء، فقد شعر قاسم بما شعر به كثيرون من الشبان الذين درسوا في أوربا من ألم لما يرونه حين مقارنة الوسط الذي كانوا فيه بالوسط الذي عادوا إليه، بل لعل هذه الحال على حد تعبير الأستاذ لطفي السيد «اعترته على نوع أشد مناسب لمقدار أطماعه الواسعة ومداركه القوية ومشاعره الرقيقة، وربما استحالت هذه الحال بمساعدة ما به من الوقار الجنسي إلى ملكة ينم عنها سكونه وإطراقه ويفسرها كثير من كلماته إلى حد يجعل المرء يراه متطيرا أكثر منه متفائلا»، وكثيرون ممن تعتريهم هذه الحال يثورون ثم ما يلبثون أن يهدءوا إذ يرون أنفسهم عاجزين عن أن يهزوا الوسط الذي هم فيه أو يبدعوا فيه جديدا، ولعل قاسما حدثته نفسه غير مرة بالسكوت والاكتفاء بجاهه العريض وبمنصبه العظيم، ولعله كان يصف نفسه أيضا حين كان يقول عن الشيخ محمد عبده: «كم من مرة سمعته يؤكد أنه صمم على ألا يتداخل في شيء من هذا القبيل، ثم رأيته في الغد منغمسا فيه أكثر مما كان، ذلك لأنه - بعكس ما يراه عموم المصريين في أنفسهم - كان عنده أمل لا يزعزعه شيء في إصلاح أمته، كان عنده اعتقاد متين بأن البذرة الطيبة متى ألقيت في أرض بلادنا الخصبة نبتت وأزهرت وأثمرت كما نبتت وأزهرت وأثمرت بذور الفساد فيها؛ لهذا كان يلقي بملء يديه كل ما جمعه في حياته من الأفكار الصالحة والعواطف الشريفة والتعاليم المفيدة، كأنه كان يشعر أن حياته ليست طويلة فكان يعجل ببذل جميع ما كان عنده.»
2
وكذلك لم يستطع هو أن يسمع لداعي الطمأنينة إلى منصبه وجاهه بعدما رأى أن لا مناص من إبراز دعوته من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر .
وفي ظننا أن الدعوة إلى تحرير المرأة من رق الجهل ورق الحجاب لم تكن كل برنامج قاسم الاجتماعي، وإنما كانت حلقة منه هي أعسر حلقاته وأعقدها، ذلك بأنه لم يقصر عليها كل جهد حياته، بل اشتغل منذ سنة 1906 بالدعوة لإنشاء الجامعة مع صديقه سعد زغلول وشغل بهذه الجامعة وبتوطيد أركانها إلى أن وافته منيته بعدما أعد كل العدة لافتتاحها وقبيل هذا الافتتاح بأشهر معدودة، وتدل كلماته على أن برنامجه كان أوسع من مجرد تأسيس الجامعة وتركها تسير حسب ما توجهها الرياح، وعلى أنه كان يريد أن يجعل من الجامعة خطوة لبرنامج أوسع نطاقا يتناول ثورة في اللغة والأدب كالثورة التي أحدثها كتاباه في تعليم المرأة وفي رفع الحجاب.
Неизвестная страница