وهذا الطريق في اكتساب المقدمات والمقاييس على المطلوبات هو عام في جميع الصنائع وفي كل تعليم كان حقيقيا أو مشهورا، لأنه تؤخذ اللواحق والموضوعات في الحقيقي حقيقية وفي المشهور مشهورة. وبين أن هذا الطريق نافع لنا معرفته في اكتساب المقدمات في جميع المطالب، وإلا كنا جدرا متى لم تكن عندنا هذا الطريق أن نقصد في استنباط أي مطلوب اتفق إلى أي شيء اتفق من المقدمات وإلى مقدمات واحدة بعينها في المطلوبات الموجبة والمطلوبات السالبة. وليس هذا فقط، بل وكان يمكن أن يعرض لنا أن نروم استنباط جميع أنواع المطالب الأربعة- أعني الإيجاب الكلي والسالب الكلي والموجب الجزئي- بطريق واحد من مقدمات واحدة بأعيانها. وأما متى كان عندنا هذا الطريق كان قصدنا في مطلوب مطلوب من أشياء محدودة معروفة قليلة العدد.
وينبغي إذا استعملنا هذا الطريق أن نختار في كل مطلوب المقدمات الخاصة بالجنس الذي فيه ذلك المطلوب المناسبة له- مثل أنه إن كان المطلوب عمليا أن نختار المقدمات المناسبة للأمور الإرادية، وإن كان علميا اخترنا الأشياء المناسبة للأمور النظرية الخاصة بذلك الجنس الذي تنظر فيه تلك الصناعة النظرية. ولذلك ما يحتاج في معرفة المقدمات الأوائل في كل جنس- أعني الخاصة به المناسبة له- إلى التجربة. مثال ذلك أنه يحتاج في علم النجوم- أعني علم الهيئة- إلى التجربة الموقفة على حركات النجوم. ولذلك لما علمت بالتجربة والرصد حركات الكواكب المتحيرة، أمكن أن توجد البراهين على معرفة أفلاكها. وكذلك الأمر في كل صناعة وفي كل علم الحاجة فيه إلى التجربة ضرورية. فإنه إذا اكتسبنا بالتجربة جميع الأوائل والمقدمات الموجودة في ذلك الجنس، أمكننا بسهولة أن نجد البراهين على جميع الأشياء المطلوبة في ذلك الجنس وأن نعرف ما يمكن أن يبرهن في ذلك الجنس مما لا يمكن.
فقد قلنا على العموم كيف ينبغي أن نكتسب المقاييس والمقدمات. وأما القول على الاستقصاء والخصوص بجنس جنس من أجناس المطالب فسيقال فيه في كتاب الجدل.
قال: وأما طريق القسمة فأنه جزء صغير من هذا النحو من النظر، لأنه قد يعين في اكتساب المقدمات التي تكون من الفصول اللاحقة. والسبب في أنه جزء صغير كون القسمة كأنها قياس ضعيف لا قياس حقيقي، لأن الذي يقيس بطريق القسمة يضع فيها ما ينبغي أن يبرهن بالقياس وينتج فيها أبدا شيئا خارجا عن المقدمات غير منطو فيها، وذلك بخلاف ما عليه الأمر في القياس.
قال: والقدماء لما كانوا يظنون بطريق القسمة أنه قياس تبرهن به حدود الأشياء كان غلطهم في طريق القسمة في موضعين، أحدهما في ظنهم أن الحد يبرهن، والثاني في ظنهم أن طريق القسمة قياس. فإذن لم يعلموا ما يمكن أن يبرهن مما لا يمكن أن يبرهن، ولا علموا أن ما تبين بالقياس فإنما تبين بهذه المقاييس التي ذكرناها. وإنما كانت القسمة ليست قياسا في الحقيقة لأن الحد الأوسط في القياس يكون أبدا أخص من الطرف الأول، والطرف الأول- الذي هو محمول المطلوب- أعم منه، وفي القسمة الأمر بالعكس- أعني أن الحد الأوسط أعم من الطرف الأعظم الذي هو محمول المطلوب. مثال ذلك إذا كان عندنا مجهولا أن الإنسان مائت أو غير مائت وكان معلوما عندنا بمقدمتين إحداهما أن الإنسان حيوان والمقدمة الثانية أن الحيوان إما مائت أو غير مائت، وأردنا أن نبين من هاتين المقدمتين أن الإنسان إما حيوان مائت وإما غير مائت- أعني أحد هذين المتقابلين- ليحصل لنا من ذلك حده- وهو أنه حيوان مائت- فألفنا القول هكذا: الإنسان حيوان والحيوان إما مائت أو غير مائت، لا أنه أحدهما على التحصيل- الذي كان مطلوبا لنا- إلا أن كان بينا بنفسه أو معلوما بقياس من الأقيسة المذكورة. فإذن الحد الأوسط في هذا القياس- الذي هو الحيوان- أعم من المطلوب- الذي هو المائت أوغير المائت. وكذلك إن كان معلوما عندنا أن الإنسان حيوان مائت وأن المائت منه ذو رجلين ومنه ذو أرجل كثيرة وأردنا أن نعرف أي هو الإنسان من هذين، لم نستفد ذلك عن طريق القسمة بوجه من الوجوه. فإذن القسمة ليست قياسا بوجه من الوجوه، لا في مطلوب مطلق- مثل أن الشيء موجود أو غير موجود- ولا في مطلوب مقيد- مثل أن يطلب هو الشيء عرض أو جنس أو خاصة أو حد- ولكنها نافعة في القياس.
1 / 52