بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما.
قال الشيخ القدوة العالم العلامة، سيدي عبد السلام القدسي، رحمه الله تعالى، ونفعنا ببركاته. الحمد لله الذي أودع الحكمة أهلها، وعلم آدم الأسماء كلها، وأوقفه على المقصود من دائرة الوجود، فحل شكلها، وبين لنبيه حروف صروفها، ووسم اسمها، ورسم فعلها، فمنهم من شمر لوابل الغنيمة وما رضي طلها، ومنهم من رضي بالهزيمة، فكلما عقد عقدة العزيمة حلها. فزمرة أقبلت على إصلاح اللسان، لتظهر فضلها، وزمرة تجاوزت على جنان الجنان، فرأت أغصان العصيان، من شجرة الطغيان، فقطعت أصلها، ثم نحت نحو من أعلها، فعساها تظفر بشفاها، ولعلها إن يخاطبُها شفاها ومن لها.
1 / 19
نحمده على نعمه التي هدى إليها قلوب العارفين، وعلى وجود فضله أداها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، الذي أرسله على جيوش الطغيان، ففلها، وإلى ليوث الأوثان فذلها.
صلى الله وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم تضع كل ذات حمل حملها.
وبعد فإنّ النحو عبارة عن القصد، والناس مختلفون في المقاصد والموارد، فواحد كان تقويم لسانه مبلغ علمه، وواحد كان تقويم جنانه أكبر همه، فذكرت في كتابي هذا ما يفرق بين الفريقين، ويوضح كلا الطرفين، وفرقت بين اللحن واللحن، ليعلم أي الفريقين أحق بالأمن.
وسميته: (تلخيص العبارة في نحو أهل الإشارة).
والله ولي الاستخارة، ومجير من استجاره، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما.
1 / 20
باب الكلام وأقسامه وعلامة العلم وأعلامه
أعلم - وفقنا الله وإياك ﵇ أنه لما كان لأهل العبارة نحو لتقويم اللسان، كان لأهل الإشارة نحو لتقويم الجنان، فقال أهل العبارة: نحونا مفصل على ثلاثة فصول:
أسماء، وأفعال، وحروف.
وقال أهل الإشارة: نحونا محصل من ثلاثة أصول: أقوال، وأحوال، وأفعال.
فبدأ أهل العبارة بالأسماء، وقدموها على الأفعال، لأنها الأصل في الكلام، لشيوعها، وعمومها، وكذلك القوم، بدؤوا بالأقوال، وهي العلوم؛ لأنها مقدمة على العمل، بدليل قوله ﷺ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فأول ما أمرهم بالقول، وقال الله ﷾ لنبيه ﷺ: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾، فأول ما أمره بالعلم، وقال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، فأول ما أقرأه اسمه. ثم أثمر لهم العلم بالعمل، الذي هو رتبة الفعل من النحو. ثم أثمر لهم العلم الحال الذي هو في رتبة الحرف الذي جاء لمعنى في غيره.
1 / 21
ولما كان الحرف جاء لمعنى في الاسم والفعل، كذلك الحال، إنما ورد بأمر من الله تعالى، لمعنى في العلم والعمل، فذلك فضلة في الكلام، وهذا فضل من الملك العلام. وهو مبني على قوله ﷺ: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم.
باب الاسم واشتقاقه
أعلم أن الاسم مشتق من السمو عند قوم، ومن السمة، وهي العلامة، عند قوم.
وكذلك أسماء الخلق مشتقة من: السمة وهي العلامة؛ لأن الله تعالى وسمهم بذلك، وأسماء الحق مشتقة من السمو، وهو العلو والرفعة؛ لأنه علا وسما بأسمائه وصفاته، فلا نظير له في أسمائه، كما لا نظير له في صفاته. قال الله تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾.
فلما أدخل الحق ﷾ عباده مكتب التعليم، فطالع آدم لوح الوجود، فقرأ: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾، وطالع محمد (صلى الله
1 / 22
عليه وسلم) لوح الشهود فقيل له: يا محمد، نحن نظن بك على كل موجود: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾.
فلما أدب وهذب قيل له: يا محمد، قد عرفت بالأسماء. والصفات، فتعرف. إلينا بالذات: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾، قل الله.
ثم ﴿ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾. فلما غاب عن الاسم، وجد المسمى، ولما أعرض عن الفعل، قرأ الحرف المغمى، ورأى المعنى الذي لا يسمى.
باب الاسم وأقسامه
أعلم أن الاسم ينقسم إلى صحيح ومعتل، ومعرب ومبني، ومنصرف وغير منصرف.
كذلك الأقوال؛ التي هي العلوم في نحو القوم، متقسمة إلى صحيح ومعتل. فالصحيح منها ما سلم من حروف العلة الثلاثة التي هي: الواو، والياء، والألف.
فإذا سلم لك القول من واو الوسواس، وياء الياس، وألف الالتباس فقد صح قولك،
1 / 23
والصحيح من حق الإعراب، وهو عند أهل العبارة عبارة عن البيان، وعند أهل الإشارة عبارة عن الكشف والعيان.
فإذا صحت أقوالك من الاعتلال، فقد علمت علم اليقين، وأعطيت حكم الإعراب، ثم كشف لك الحجاب، فشهدت عين اليقين.
والمعتل شبيه بالمبني.
فمن ألحق علمه علة الفخار، فقد أسس بنيانه على شفا جرف هار.
فصل فيما ينصرف وما لا ينصرف
فالمنصرف ما قبل الإعراب من كل وجه، وغير المنصرف من صرف عن القبول.
والعلل المانعة من الصرف تسعة، جمعها بعضهم في بيتين، فقال:
جمع ووصف وتأنيث ومعرفة ... وعجمة ثم العدل ثم تركيب
والنون زائدة من قبلها ألف ... ووزن فعل فهذا القول تقريب
فهذا عند أهل العبارة. وأما معنى هذه العلل عند أهل هذه الإشارة، فالجمع أن يريد العالم جمع الدنيا، واجتماع الناس عليهن وصرف وجوهم إليه. والوصف أن يكون واصفًا لا متصفًا، يجب بعلمه أن
1 / 24
يوصف، ويقال عنه، فيعرف، والتأنيث أن يكون ساقطا، مؤنث العزيمة، أكثر همه ما يأكله بعلمه. والمعرفة أن يعرف نعمة الله عليه، ثم ينكرها بمعصيته، فتكون معرفته معرفة الكفار.
قال الله ﵎: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾. والعجمة هو أن يتعلم علما فيكتمه، قال رسول الله ﷺ: من علم علما فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار. والعدل عدوله عن الطريق القويم، والصراط المستقيم. والتركيب هو شائبة علمه بجهله، وجده بهزله، والتباس حقه بباطله، قال الله ﵎: ﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾. والنون والألف الزائدتان هي أخطر العلل، وأعظم الزلل، فالنون نون العظمة، والألف ألف الأنانية، وهو أن يقول: أنا ونحن. ووزن الفعل هو أن يزن فعله، يعتقد أن له حاصلًا، وهو بعلمه إليه واصل.
1 / 25
ومن اعتقد أن له حاصلًا، فهو غير واصل.
وهذه العلل متى وجدت في العلم؛ الذي هو نظير الاسم، منعته من الصرف للقبول، وأصرفته عن باب الوصل.
باب الإعراب والبناء
أعلم أن حكم الإعراب دائر على الحركات الأربع، وهو الرفع، والنصب، والجر، والجزم.
ولما كان حكم الإعراب دائرًا على الحركات الأربع، كان مدار حركات القوم على هذه الأربع، فكان حكم العارفين رفع هممهم إلى الله، وكان حكم العابدين نصب أبدانهم في طاعة الله، وكان حكم الزاهدين خفض نفوسهم تواضعًا لله، وكان حكم المحبين جزم قلوبهم عن ما غير الله، وسكونهم مع الله.
أعلم أن الإعراب ملحق بأهل البدايات؛ لأنه يقتضي التغيير والتنقل من حال إلى حال. والبناء ملحق بأهل النهايات؛ لثبوته ولزومه حالة واحدة، فالأول لأهل التلوين، والثاني لأهل التمكين.
باب المبتدأ والخبر
أعلم أن الاسم المبتدأ أعطي رتبة التقدم، لتجرده عن العوامل
1 / 26
اللفظية، فاستحق أن يبتدأ به، فأعطي من الإعراب حكم الرفع؛ لأنه مقدم على النصب والجر، فأعطي الأعلى للأعلى.
وكذلك أسماؤه ﷾، لما كانت مجردة، مقدسة عن الحادثات الخلقية، وكانت أزلية قديمة، استحقت رتبة الأولية، فكان هو الأول. ولما كانت أبدية؛ كما كانت أزلية؛ استحقت رتبة الآخرية، فكان هو الآخر.
فالمبتدأ والخبر كلاهما في الحقيقة واحد.
كذلك هو ﷾، هو أول في آخريته، وآخر في أوليته.
ولما كان الاسم ينقسم إلى معرفة ونكرة، فالمعرفة ظاهرة بما استدل عليها بعلامتها، والنكرة باطنة بما أبهم من خفي مشكلاتها.
فكذلك الحق ﷾ تعرف إلى خلقه بآياته، ومصنوعاته، فكان هو الظاهر. ثم تنكر بعزيز ذاته، فكان هو الباطن.
ولما عُلمت رتبة المبتدأ بتقديمه، أعطي رتبة الرفع لتعظيمه.
كذلك الحق ﷾، استحق القدم؛ لأنه أحدث الكل من العدم، فاستحق أن يرفع اسمه، قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾. وهو مذكور في الفرش، وهو رفيع الدرجات ذو العرش.
1 / 27
باب الأفعال وأقسامها
أعلم أن الفعل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: ماض، وحال، ومستقبل.
فالماضي ملحق بأمس، والحال ملحق باليوم، والمستقبل ملحق بغد.
فقوم همهم ما كان لهم في السابقة، فعملوا على الخوف، وقوم همهم ما يكون لهم في الخاتمة، فعملوا على الرجاء. وقوم علموا أن الاشتغال بما مضى، وبما يأتي، تضييع لحال الوقت، فخافوا من المقت، فعملوا على إصلاح الحال في الحال.
ثم علموا أن المقصود من الأفعال، إنما هو استعمال فعل الأمر، فلزموا من الفعل اللازم، والوقوف على أمره الجازم؛ لأن ما كان، وما يكون، مستخرج من نون: ﴿كُن فَيَكُونُ﴾.
ثم نظروا إلى فعل الماضي، فإذا هو ملحق بالعدم، فقالوا: من نظر إلى فعله، وقع في الندم.
ثم نظروا إلى فعل الحال والاستقبال، فوجدوه تدخله الزوائد الأربع، وهي: الألف، والنون، والياء، والتاء. ففروا من اثنين، ولجؤوا
1 / 28
إلى اثنين، فلا يدخلون ألفًا ولا نونًا أفعالهم، ولا يقولون: أفعل:، ولا نفعل ﴿يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾، وفي الحكم: ﴿يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾، وفي التاء: ﴿أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ﴾.
﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء﴾، و﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾.
ولما كان الماضي حكمه النصب، علموا أن ماضي أفعالهم منتصب بين كفتي عدله وفضله. فإما أن تميل به كفة الفضل، فيرجح، وإما أن يحرر بكفة العدل، فبعيد أن يفلح. وأما فعل الحال والاستقبال، فإذا سلم من ناصب أو جازم، فحكمه الرفع على كل حال.
كذلك القوم، علموا أن أفعال أحوالهم، متى دخلها عامل من عوامل نفوسهم، علموا أنها عاملة ناصبة، ومتى اعترضها جازم من محسوسهم، علموا أنها للشيطان ناصبة، ومتى سلمت من ناصب الوسواس، وجازم الخناس، بقيت على حكم
الرفع، فرفعته طيبة الأنفاس،
1 / 29
قال الله ﵎ وهو أصدق القائلين -: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾.
باب الفاعل والمفعول
أعلم أن الفاعل من حدث منه فعل، والمفعول من وقع عليه فعل فاعل.
والفاعل حكمه الرفع؛ لأنه أول، فأعطي الأول للأول، والمفعول حكمه النصب؛ لأنه آخر، فأعطي الآخر للآخر.
ثم الفاعل واحد، ومفعولاته متعددة.
فنظر القوم إلى المفعولات كلها، فعلموا أن لابد لها من فاعل.
ثم الفاعل لا ينبغي له أن يكون إلا واحدًا؛ إذ لو كان اثنين لاختلفا، قال الله ﵎: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾.
ثم المفعولات كلها منتصبة في مناصبها التي نصبها فاعلها فيها، مستعملة بعامل: كل ميسر لما خلف له.
فما دام المفعول به في رتبته: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾،
1 / 30
كان من شأن المفعول له أن يعطيه حكمه، ويوفر له من رسمه قسمه.
باب الحال
وصف هيئة الفاعل والمفعول، ومن شرطه أن يكون نكرة، وأن يكون منصوبًا.
فلما علم القوم أن الحال هي وصف هيئة الفاعل من حسن أو قبيح، فهموا من ذلك إشارة: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾. فعمدوا إلى أنفسهم، فأبرزوها في أحسن الهيئة، وجعلوها في أجمل الصفات. ثم إنهم نكروها كي لا تعرف، وأبهموا كي لا تشتهر وتوصف.
فأحوالهم أبدا في إصلاحها منتصبة، ومعارفهم أبدا بستر النكرة محتجبة، قال الله ﵎: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾.
باب التمييز
التمييز هو تفسير النكرة المبهمة، ومن شرطه أن تكون نكرة، وأن تكون منصوبة كالحال.
فلما علم القوم أن التمييز هو تفسير ما أبهم، وتبين ما لم يكن
1 / 31
يفهم، عمدوا إلى نفوسهم، فميزوا طيبها من خبيثها، وما فيها من كدرها، ونفعها من ضرها.
ثم عمدوا إلى علومهم، فميزوا حقها من باطلها، ومحكمها من مشتبهها.
فلما حققوا ذلك وميزوه، تميزوا، وعلموا منه التخليط، وتحيزوا.
وعلموا أن التمييز لا يكون إلا بعد تمام الكلام، فما تحيزوا وتميزوا إلا بعد تمام العلم، قال رسول الله ﷺ: تفقهوا واعتدلوا.
فلما تمت لهم رتبة التمييز، نصبهم الله لإصلاح عباده، وميزهم باستخلاص لوائه، قال الله ﵎: ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾.
باب البدل
البدل عبارة عن الإيضاح، ورفع الالتباس، وحكمه حكم المبدل منه.
وهو على أربعة أضرب: بدل الكل من الكل، وبدل البعض من الكل، وبدل الاشتمال، وبدل الغلط.
وهو عند أهل الإشارة، إشارة إلى تبديل الصفات المذمومة
1 / 32
بالصفات المحمودة، وهو على أربعة أضرب:
قوم أبدلوا الكل بالكل، وما رضوا من الكل إلا بالكل. فأولئك عوضوا عن الكل بالكل: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾. فهم الذين ﴿صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.
وقوم بدلوا البعض من الكل، فبدلوا معاصيهم بطاعتهم.
وقوم بدلوا لذاتهم بمجاهداتهم.
وقوم بدلوا غفلاتهم بمراقباتهم، فعوضوا عن ما بدلوا بحسن ما أبدلوا، فقال لقوم: ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾. وقال لقوم: ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾.
وقوم عبدوا الله، فكانت عبادتهم مشتملة على خوف ورجاء، وكانت رغباتهم في الجنة، ورهباتهم من النار. فكان هذا بدل الاشتمال.
1 / 33
فعوضوا على ما اشتملت عليه عباداتهم ببلوغ مراداتهم.
فلما علموا أنهم لم يريدوا بالجنة بدلا، ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾.
وأما بدل الغلط، فذلك بدل الكفار، ومن سخط عليه الجبار، فقال في حقهم: ﴿وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾.
فأبدل لهم جزاء ما أبدلوا: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾. ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾.
باب الصفة
الصفة معنى الموصوف، والمراد بها التخصيص والتفضيل. ومن حكمها أنها تتبع الموصوف في سائر الأحوال لا تفارقه.
فلما علم القوم أن صفاته ﷾ قديمة بقدمه، أزلية بأزليته، لا تفارقه، وأن صفته كذاته، لا تشبه الذوات، وصفاته لا تشبه الصفات، فوصفوه بما يجب له من الصفات، ونفوا عنه ما يستحيل عليه منها. فلما وصفوه بما يليق بالربوبية، اتصفوا بما يليق بالعبودية.
1 / 34
فاصطفاهم، وصفاهم، ثم أخذهم عنهم، وسلبهم منهم، فقام بنفسه مقام صفاتهم، وفاءوا لموافاتهم، فقال: لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت له سمعًا وبصرا، فبي يسمع، وبي يبصر.
باب العطف
الأصل في حروف العطف الواو. والمراد به إلحاق ما بعد حرف العطف بما قبله في الحكم.
فتمسك القوم بأذيال حروف العطف، وتوسلوا بشفيع الألطاف إلى واو الاستعطاف، ليتعطف عليهم، وينظر إليهم.
فوسطت واو العطف بين المحب ومحبوبه، حتى جمعت بينهما على بلوغ مطلوبه، وبه كتبت بينهما بالعهود المصونة عقدا يتضمن: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾، وخلعت عليهم خلع الأنعام المستمدة منه، من خزائن الله: ﴿رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾.
1 / 35
باب التوكيد
التوكيد عبارة عن التحقيق، وإزالة التجوز.
وألفاظه عندهم تسعة، وهي: نفسه، وعينه، وكله، وأجمع، وجُمَع، وجمعاء، وكلا، وكلتا، وعامة.
فلما كان التوكيد محققًا للشيء، مزيلًا للتجوز، أكدوا إيمانهم بالتصديق، وإخلاصهم بالتوفيق، وآدابهم بلزوم الطريق، ودنياهم بالتطليق، وجمعهم بالتفريق، وخلقانهم بالتمزيق، ودموعهم بالتدفيق، فقال فيهم: ﴿فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾.
باب حروف الجر
وهي التي تدخل على الأسماء فتخفضها، مثل: من، وإلى، وعن، وما أشبهها.
1 / 36
فأضافها القوم كلها إلى الله، فقالوا: بسم الله، وبالله، ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ﴾. ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ﴾. ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ﴾.
فكان عملها فيهم أن خفضت نفوسهم، فوضعتها مواضع التواضع.
فلما خفضوا جناح الذل، خفضت لهم الملائكة أجنحة التواضع، قال رسول الله ﷺ: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم.
باب لا النافية وما فيها من الأسرار الخافية
أعلم أن حكم لا النافية نفي ما دخلت عليه.
فأدخلها القوم على صفاتهم المذمومة فنفتها، ومروا بها على أفعالهم المحمودة فمحتها. فلما محوا أفعالهم، أثبت الله لهم أحوالهم. فهم بين محو نفوسهم، وطمس رسومهم، ومحوا أفعالهم. فنفوا عن أنفسهم الحول والقوة، وأثبتوها لله، فقالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله.
1 / 37
ثم نظروا إلى أصل ما بني عليه التوحيد، فإذا هو حرف النفي. فعلموا أنه بالنفي يثبت التوحيد، وبالمحو يرسخ التفريد. فدخلت كلمة لا على إله، فنفتها فقالوا: لا إله. ثم طولبوا بالإثبات، فقالوا: كيف السبيل إلى الإثبات، ولا سبيل إليه إلا بدخول حرف النفي عليه؟ وكيف يثبت الشيء بالحرف النافي، وهذا متناف؟ فقيل: ها هنا معنى خافٍ، وسر شافٍ، وهو أن تأتوا إليه بألف التوحيد، فتدخلوها عليه، وتتوسلوا بها إليه.
فلما دخلوا بالألف على حرف لا، صح لهم التوحيد، وثبت لهم التفريد، فقالوا: لا إله إلا الله.
وكان توسط الألف بين كلمتي النفي والإثبات هو طريق الخلاص إلى كلمة الإخلاص.
وإنما قلنا: إن الألف هي ألف التوحيد؛ لأن فيها معاني
1 / 38