أعدل وضع نظارتي وأضيق من حدقتي عيني لكني لا أميز تلك الأشياء السوداء. يقترح أبي أن ألمع زجاج نظارتي. أدخل الغرفة وأدعكها في ملاءة السرير. أعود إلى البلكونة. الرجل ما زال جالسا يتأمل الأشياء الصغيرة. يمد أبي يده إلي دون أن يلتفت نحوي. يهمس: وريني نضارتك. أخلعها وأعطيها له. يقربها من عينيه دون أن يرتديها. يهز رأسه. يعيد إلي النظارة قائلا: مفيش فايدة.
6
يصلي العصر. يجلسني أمامه فوق السرير. يضع نظارته فوق أنفه. يشرح لي من كتاب الجغرافيا الفرق بين البوغاز والخليج والبرزخ. يوبخني لأني أنسي. ضيق الصدر. يعطيني واجبا للحفظ. يرتدي ملابسه ويخرج. أسمعه يرجو «ماما تحية» أن تأخذ بالها مني. يقول إنه ربما يتأخر في العودة.
أنصت لوقع خطواته على السلم. أنتظر حتى يخرج إلى الحارة. أغادر الغرفة. «ماما تحية» تنشر غسيلها على الحبال الممدودة بين باب حجرة الصالون وباب غرفتها. تحضر جردل مياه. تنظف الغرفة وتغسل بابها بالصابون. أناولها أكواز ماء من الحنفية. تمسح أرض الصالة. تغني: «حاقابله بكره وبعد بكره.» تحضر موقد البريموس ومقعد المطبخ الخشبي الصغير الذي يعلو شبرا عن الأرض. تضعهما وسط حجرة الضيوف بجوار حوض الزنك. تجلب نصف كوب سكر من غرفتها. تضيف إليه نصف كوب من الماء. تقلبهما جيدا. تصب الخليط في حلة معدنية صغيرة. تضعها على النار. تجمع رداءها بين ساقيها. تجلس على كرسي المطبخ. ضوء الشمس الغاربة يأتي من نافذة المنور. يقع على ركبتيها العاريتين.
أدخل وأجلس على الكنبة. تبدأ المياه المسكرة في الغليان. تعصر فوقها ليمونة. وتواصل التقليب. أسألها ماذا تصنع ؟ تقول: حلاوة. تعطيني «أم إبراهيم» قطعة ثم تحمل الإناء إلى أمي في الحمام. يغلقان الباب عليهما.
تواصل التقليب حتى يصبح الخليط عجينة شفافة لينة. ترفع الإناء من فوق الموقد وتضعه على الأرض. تغادر الغرفة وأنا خلفها. تملأ صفيحة المياه وتحملها عائدة. تضعها فوق الموقد. تجس حرارة العجينة. تناولني نتفة منها. أضعها في فمي وأستحلبها. تطوي العجينة وتشدها بيديها الاثنتين. تكرر ذلك حتى تزداد العجينة لينا ويعتم لونها. تبسطها. تقتطع قطعة صغيرة وتفردها فوق ساعدها عند الكتف ثم تشدها بقوة مرة واحدة. تضغط عليها بين أصابعها لتلينها. تكرر ذلك حتى تصل إلى يدها. ترمي القطعة جانبا وتتناول قطعة أخرى. ترفع ساعدها إلى أعلى وتضعها فوق إبطها. تجذبها في قوة. تكرر ذلك حتى يصبح إبطها أبيض ناعما. تنتقل إلى ذراعها الآخر.
يدق جرس الباب الخارجي. أقف خلف الباب وأزعق: مين؟ يرد علي صوت أنثوي: أنا «عطيات»، «تحية» هنا؟ أجري عائدا إلى الغرفة لأخبر «ماما تحية». تقول لي: افتح لها، دي بنت خالتي.
أفتح الباب. سمراء طويلة في الملاءة اللف. تتبعني إلى الصالون. تخبط على صدرها قائلة: يا خبر. قدام الواد؟ ترد عليها «ماما تحية» في غير مبالاة وهي تمر بيدها في خفة فوق ذراعها العارية: وإيه يعني؟! تجلس. تسأل عن موعد عودة الكونستابل. تقول «ماما تحية»: يمكن بكره. ابعتيلي الأولاد يباتوا معايا الليلة. خلي «راجي» يجيب الطبلة معاه. تقف «عطيات» وتضم الملاءة حولها. تنقل البصر بيني وبين «ماما تحية». تنصرف.
تنتقل «ماما تحية» إلى الإبط الثاني. تدير رأسها لتتأمله. تتحسسه بأصابعها. تنهض واقفة. تقول لي وهي تمسكني برقة من أذني: على أوضتك، تقعد فيها متخرجش منها. أمسك بيدها في رجاء: لا والنبي يا ماما بلاش لوحدي. تتأملني باسمة: طيب تقعد في الصالة بشرط متبصش علي. تشعل النور. أحضر كتاب الجغرافيا. أجلس إلى المائدة قرب الباب الخارجي.
أضع الكتاب أمامي. أفتحه على كراسة الأغاني المدسوسة بين صفحاته. تنتقل بنشاط بين غرفتها وغرفة الصالون حاملة بعض الملابس على ساعدها. في يدها صابونة لوكس وليفة ومرآة في حجم الكف. تملأ صفيحة من الحوض وتحملها بالماء إلى الغرفة. تعود إلى باب حجرتها فتغلقه. تقول لي وهي تهز إصبعها محذرة: متقومش من مكانك لغاية ما أخلص. - ولو الباب خبط؟
Неизвестная страница