يقول «علي صفا»: يا راجل تف من بقك، لسه بدري. أشعر بأبي يهز رأسه: أنا الوقت بتكعبل وأنا ماشي، عيني بتزغلل، ومعدتش بأسمع كويس، ضرسي وجعني ورحت للدكتور، قاللي اللحم بيكش. يقول «صفا»: المهم العصب. يأتيني صوت أبي كأنه من بعيد: عصب إيه؟ دول بقوا نقطتين. راح الرشاش بتاع زمان.
4
ينهض تلاميذ الصفوف الخلفية الكبار واقفين. صيحات في الحوش. نحمل حقائبنا ونغادر الفصل. ننضم إلى تلاميذ الفصول الأخرى. يردد الجميع: «اليوم حرام فيه العلم.» نتجمع في الفناء. الناظر يقف عند باب المدرسة المغلق. أصوات مظاهرة في الخارج. ينهال الطوب على باب المدرسة. ينسحب الناظر ويفتح البواب الباب. نتدفق إلى الشارع وننضم إلى تلاميذ المدارس المجاورة. تنطلق المظاهرة في اتجاه الشارع الرئيسي. نردد خلف التلاميذ المحمولين على الأعناق: «الله أكبر ولله الحمد.» «عاش الكفاح المشترك لشعوب وادي النيل.» «الجلاء بالدماء.» «النحاس زعيم الأمة.» ينتظرنا البوليس في نهاية الشارع. يسدون الطريق بصف من الجياد. يتقدمون نحونا فنجري.
أهرب من حارة جانبية. أقف أمام بائع صحف. أتأمل صور الممثلات فوق أغلفة مجلات «الكواكب» و«الاثنين» و«مسامرات الجيب». أتناول واحدة عليها صورة «طرزان». ينهرني البائع ويجذبها من يدي. أشتري كراسة أغاني بخمسة مليمات. أواصل السير. أعبث بقدمي في التراب. ألمح قطعة حديد مستديرة. أبتعد عنها. أتحاشي المرور أمام دكان شيخ الحارة. أبلغ المنزل. أدق الجرس. لا يستجيب أبي. أدق الجرس مرة أخرى. تفتح لي ست «تحية». تقول: «أبوك خرج. اقفل الباب وراك.» تتركني وتتجه إلى المطبخ. أغلق الباب الخارجي. أدفع باب الغرفة فأجده مغلقا. معي المفتاح. أدخل وأضع الشنطة فوق المكتب. أخلع ملابسي وأرتدي البيجامة ذات الزراير الصفيح. أعود إلى الباب. أقف في فتحته منصتا. أخرج إلى الصالة.
صوت وابور «البريموس» في المطبخ. أخطو في خفة نحو الطرقة. أتحاشى النظر إلى فتحة الكنيف. أقترب من باب المطبخ. ألتصق بالحائط. أمد رأسي في حذر. تجلس فوق مقعد المطبخ الواطئ. تقشر فصوص ثوم. بجوارها طبق فول مدمس. أتراجع نحو الصالة. أدور حول المائدة حتى باب غرفتها. مفتوح. أقترب منه. فوق السرير فستان أزرق مشجر وعلى الأرض حذاء أبيض بكعب عال. على الحائط صورة كبيرة في إطار مذهب للكونستابل في ملابسه العسكرية. وجهه باسم. طربوشه طويل ومائل ناحية اليسار. شوفينيرة على اليمين فوقها مرآة كبيرة في إطار معدني باهت اللون. المرآة مائلة مستندة على سطح الشوفينيرة. بها شق في أعلى زجاجها. فوق الشوفينيرة أشياء كثيرة بينها صندوق شكولاتة. هل تكتشف الأمر إذا أخذت قطعة؟ أرهف السمع. تغني في المطبخ: «يوم ما اتقابلنا إحنا الاتنين.» يقترب صوتها.
أبتعد عن باب الغرفة. أقف إلى جوار باب المنور. أتطلع إلى نافذة «أم زكية». مغلقة ومظلمة. تلج الصالة. في يدها كوب من الشاي. تتجه إلى غرفتها . تشير إلي أن أتبعها. تضع الكوب فوق الشوفينيرة. تفتح صندوق الشكولاتة وتتناول قطعة ملفوفة في ورق أصفر اللون. تقدمها إلي. تستفسر عن أمي. يحمر وجهي ولا أجيب. جالسة في مقعد وسط الصالة وقد تهدل شعرها الغزير على كتفيها. تولول: آه يا دماغي. وجهها متألم. يناولها أبي قطعا من الثلج. تضعها فوق رأسها وتضغطها بيدها.
تشعل سيجارة. تنحني أمام المرآة المائلة. تمشط شعرها وتتفرس في ملامحها. تلف خصلة فوق جبينها. تمر بإصبع الروج على شفتيها الممتلئتين. لأول مرة أشهد عملية وضع الألوان لأن أمي لم تكن تستخدمها. شفتها السفلى الممتلئة مشقوقة تنز منها الدماء.
أرقبها مبهورا. وجهها يزداد جمالا لحظة بعد أخرى. تلتقي عيناي بعينيها في المرآة. يتضرج وجهي. أندفع نحوها بغتة قائلا: ماما «تحية»، إنت حلوة قوي. تحتويني بين ساعديها وتضمني إلى صدرها. تتسلل إلى أنفي رائحتها النظيفة المختلطة برائحة صابون «اللوكس». تملأ وجهي بالقبل فوق عيني وخدي وفمي قائلة: وانت كمان حلو. تبعدني عن صدرها وتتأملني. تمد إصبعها إلى فمي فتفصل شفتي عن بعضهما ثم تجذب السفلى في رقة كأنها تداعب طفلا صغيرا. تبدو في عينيها ابتسامة ساهمة. تضمني من جديد. تقول في صوت خافت: أنا عندي ابن أصغر منك بسنتين. أسألها: هو فين؟ تقول: مع أبوه. تدمع عيناها. وفجأة تنفرج أساريرها وتضحك.
تبعدني عنها وتشير إلى خدي وشفتي: وشك اتملى أحمر. شوف. أقترب من الشوفينيرة. أتطلع في المرآة. تجذبني نحوها وتجلس فوق حافة السرير. تأخذني بين ساقيها. تتناول فوطة رطبة وتنظف لي وجهي. تتخلل شعر رأسي بأصابعها. تفليه لي وهي تغني. أقبلها في ساعدها الطري وفي رقبتها. أطلب منها أن تحكي لي حكاية.
تفكر قليلا ثم تقول: كان فيه راجل عجوز فقير وابنه. أنظر إليها في ارتياب. تواصل: كانوا قاعدين في شقة أول دور. أدرك أنها تقصدنا أنا وأبي. أتضايق لأنها تصفنا بالفقراء. أقرر أن أشكو لأبي عند عودته. أبتعد عنها. تحتضنني وهي تضحك: ما تزعلش. أتخلص من ذراعيها غاضبا. تربت علي وتصالحني. تقول يلا نخرج . أقول: وبابا ؟ - راجع متأخر. اخرج علشان ألبس.
Неизвестная страница