أغادر الغرفة وأغلق بابها. أخرج من باب الصالة. أعبر الردهة إلى الطرقة المجاورة للمطبخ . الثلاجة الخشبية التي تغلق في الشتاء ويوضع الثلج فوق أنابيبها في الصيف. أتجاوزها وأمر بالحمام الأفرنجي. في نهايتها الحمام البلدي. أفتح بابه. أقف فوق القدمين الرخاميتين البارزتين بجوار فتحته. أتبول. أغادر الحمام. أغلق بابه خلفي. أدخل الحمام الآخر الكبير. تواليت أفرنجي ودوش أعلى البلاعة. أغسل يدي وأتأمل محتويات رف المرآة. صابون «سلكت». علبة أمواس «جيليت». أنبوبة. «كولينوس». مرهم «زامبوك» للبشرة وإزالة الشعر. «نولين» لفرد الشعر. برطمان «بريلكريم». أنزع غطاءه. أزيل قطعة بإصبعي. أدعك بها شعري. أعيد الغطاء مكانه. أتأمل شعري في المرآة. أكرت كما هو بلا تغيير. أغادر الحمام. أتوقف قرب غرفة الترسينة.
صوت أبي: بتشوفي أخوك؟ صوت أختي: قليل، وأنت؟ - لسه مقاطعني من ساعة ما ماتت المرحومة وعرف إني متجوز. - و«روحية» عاملة إيه؟ صوت أبي: زي ما هي. - والتركية؟ اسمها إيه؟ بسيمة؟ متربعة فوق كنبة مغطاة بقماش ملون وأنا إلى جوارها. بيضاء سمينة. ترتدي فستانا أحمر لامعا وتغطي رأسها بطرحة بيضاء. على الجدار صورة ضابط كبير ذي شارب ضخم فوق جواد وسيفه مرفوع في يده. تعطيني قطعة كبيرة الحجم من الشوكولاتة. أمزق غلافها الأحمر المذهب من جانب وأقضم قطعة ثم أعيد الغلاف مكانه. أضعها في جيب سترتي. بعد قليل أخرجها وأقضم قطعة أخرى. همهمة أصوات في حجرة المسافرين المجاورة. أميز صوت أبي وصوت رجل آخر. السيدة السمينة تصغي للأصوات في اهتمام. تكتشف أني أرقبها. تنادي على الخادمة وتأمرها بفتح الراديو. موضوع فوق رف صغير على الحائط المواجه. مغطى بغلاف من القماش الأبيض. تسألني عن سني. أقول: تسعة. تنصت للراديو. حوار ثم موسيقى. أتجرأ وأسألها: إيه ده؟ تقول: فيلم. - فيلم إيه؟ - الماضي المجهول. أتعرف على صوت «ليلى مراد» تغني: «منايا في قربك أشوفك بعيني.» أنهض وأقترب من حجرة المسافرين. الباب ذو المربعات الزجاجية موارب. أنصت للحديث. صوت الرجل: الولد كبير. صوت أبي: لكن مجتهد في دروسه ويسمع الكلام. يخرج. يأخذني من يدي ونتجه نحو باب المسكن. السيدة السمينة اختفت لكن «ليلى مراد» ما زالت تغني.
صوت أبي: بريتني وكل واحد راح لحاله.
أختي: بطل بأه يا بابا.
والله أنا اتجوزتها لما غلبت مع الخدامات والطباخات. - إنت يا بابا محدش يقدر يتحملك.
يسأل أبي عن «سميرة» أخت عمو «فهمي». تقول إنها مشغولة بتجهيز ابنتها من موبيليات «السمري». تسأله عن عمي. تقول إنه لم يظهر منذ العيد الماضي. يتوقف الحديث ويتردد صوت الزهر وهو يصطدم بقاع الطاولة. صوت عمو «فهمي»: الظاهر إنهم حيقفلوا بيوت الدعارة. صوت أختي: والبنات تروح فين؟ - ينزلوا الشوارع بأه.
أدخل غرفة الترسينة. يتوقف الحديث. أقف إلى جوار أبي. يلعب بغير حماس. ينتهي الدور بانتصار زوج أختي. يغلق أبي الطاولة قائلا إن الدنيا ليلت ويتعين أن نذهب. يغادر عمو «فهمي» الغرفة ليحضر علبة سجائر جديدة. يميل أبي ناحية «نبيلة» ويهمس لها بشيء. تهز رأسها بالرفض. ينهض أبي واقفا. يعود عمو «فهمي». يحلف علينا بالبقاء. تنضم إليه أختي: باتوا هنا. العشا جاهز. تفرش لنا مرتبة وثيرة على الأرض تغطيها ملاءة نظيفة لها رائحة مميزة. ربما زهرة الغسيل مع الديتول. المخدات طرية ونظيفة وليست متعجنة متخشبة كمخداتنا. اللحاف أيضا نظيف ورائحته حلوة. يرتدي أبي جلبابا مخصصا له. أبيض زي الفل. يظل النور مضاء وتأتيني أصوات زهر الطاولة.
يصر على موقفه. تحضر أختي بنطلون بيجامة صغيرا وردي اللون. - فاكر يا بابا البيجامة دي. إنت جبتهالي وأنا في الابتدائية. كنت حارميها وبعدين قلت تنفع. تقربها مني وتقيس طولها على ساقي. تلفها في صحيفة. يأخذها أبي صامتا. يشعل عمو «فهمي» نور السلم. - ما تغيبش علينا يا بابا. - تصبحوا على خير.
السلم يضيئه مصباح في كل طابق، لكن مصباح الطابق الأرضي مطفأ. نتقدم في الظلام حتى الباب الخارجي. أنصت لصوت الكلاب. أتعلق بيد أبي. نخرج إلى الشارع. رائحة الزهور من حدائق الفيلات. نقف عند محطة الترام. تمر سيارة على مهل. يميل سائقها على امرأة بجانبه ويقبلها في فمها. أضع ذراعي على ساعد أبي لألفت نظره إلى الأمر. - في إيه؟ لا أرد.
نسمع صوت الترام قبل أن يظهر. ينطلق بنا في سرعة هائلة. تتأرجح العربة يمينا ويسارا. أبي متجهم. أسمعه يغمغم: قلبي على ابني انفطر وقلب ابني علي حجر. المحطات خالية فنجتازها دون توقف.
Неизвестная страница