والآخر: إنسانية نمت في جو مصري خالص.
وفي هذه الأثناء كان العالم خارج النظام المصري يتبدل على أيدي شعوب أخرى. •••
فماذا يكون حال النواة المصرية بإزاء المؤثرات المادية والأدبية الجديدة؟
وقبل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال يجب أن نلاحظ حقيقة طريفة، هي أن ما لدينا من معلومات عن حال مصر وموقف مصر إنما مصدرها جانب واحد، جانب أجنبي، فإن الإغريق واليهود، ومن إليهم من الغرباء، هم الذين رووا عن المصريين ما رووا، وهذا - في رأيي حقيقة - يجدر بنا أن نضعها موضع الاعتبار، وكانت الصورة التي رسموها صورة شعب متجهم عبوس عنيد محافظ، يكره كل ما هو غريب عنه.
ولكن أكان هؤلاء الإغريق وهؤلاء اليهود حقا أقل انطواء على أنفسهم؟
لقد نظر الأقدمون جميعا إلى كل شيء، بعين العصبية القومية، بل كان لكل قوم ربهم، الذي لا هم له إلا رعايتهم وتدليلهم، وماذا كان في استطاعة المصريين أن يفعلوه مع شعب الله المصطفى!
ترى كم من الناس مر في خاطره ذلك الحلم الذي داعب خيال «الإسكندر الأكبر» وحدا به إلى رؤيا عالم روحه الوئام، أو الإنسانية المنبثقة من أخوة بني الإنسان، وعلى كل حال فإن المصريين تعلقوا بالإسكندر، وضموه إلى أنفسهم، بيد أن خلفاء «الإسكندر» في مصر لم يثرهم شيء من ذلك الحلم الجميل، ولم يفعلوا شيئا لكي تتفاعل الروح المصرية بالروح الهيلينية، بل الأصح أنهم كرهوا هذا، وعملوا ضده.
فلا نعجب إذن إذا وجدنا عهد البطالمة عهد تهجين، وعهد استغلال نافذ شامل، وعهد كراهية، وحرب بين الأجناس، ونصل - على هذا النحو - إلى حقبة من التاريخ، لا تفيد الحكومة فيها إلا معنى واحدا هو كونها المالك الكبير ...
وخلف الرومان البطالمة، وساروا بمنهج سابقيهم إلى أبعد مدى يستطيعونه، فلا عجب أن صار المصريون أكثر تجهما، وأكثر عنادا وصلابة.
وجاءت المسيحية فخلصت الروح المصرية مما شابها من قتام وعبوس وصلابة، بيد أن اعتناق المصريين المسيحية، ثم الإسلام بعد ذلك، حدث في عالم مصري منشق على نفسه، ولقد تحرر الإنسان حقا بفضل المسيحية والإسلام التحرر الحقيقي من رق الخرافة والعبودية لغير الخالق، وتحرر الشعب من رق المقدونيين والرومان. ومع ذلك فإن الفرد المتحرر لم ينل الحرية التي تتيح له فرص اكتمال شخصيته، فقد بقي التمييز والتفرقة ما بين الحاكم والمحكوم قائما، وحال ذلك دون تمتع الفرد بنصيبه الكامل من الجزاء والمسئولية، ولكن التحرر الذي أتى بفضل الديانتين الجديدتين - المسيحية والإسلام - كان تحررا لا شك فيه ولا ريب. فلنتأمل مثلا مصر المسيحية تخلق فنا جديدا، وتقيم كنيسة قومية، وتصنع لنفسها أداة لغوية جديدة، ولنتأمل عمق حياتها الدينية وتنوعها، ولكنها - مع ذلك - شقيت بالنزاع مع «بيزنطة»، وقد كان هذا النزاع مبعث كثير من العداوة والجدب الفكري، والدمار الذي حل بالعصور البيزنطية المتأخرة.
Неизвестная страница