ولندع هذا وذاك، ونقول مع المؤرخ «تارن»: إن «الهيلينية» ما هي إلا وصف موجز لمدنية القرون الثلاثة التي بدأت بفتوحات الإسكندر الأكبر، والتي انتشرت فيها الثقافة الإغريقية بعيدا عن موطنها الأصلي، ولهذا الرأي ميزته، وهي تناول الموضوع موحدا، ولكن ينبغي علينا أن نتذكر دائما أن القرون الثلاثة التي حددها الدكتور «تارن»، كانت اتصالا لحركة توسع واسعة النطاق، لا من جانب إغريق بحر إيجه فحسب، بل من جانب أقوام آخرين اتصفوا بالإقدام والمخاطرة، وبخاصة الفينيقيين والأتروريين، كما يجب علينا أن نستذكر أنه حدث بعد تلك القرون الثلاثة أحداث تكون جزءا لا يتجزأ من قصة الحضارة الهيلينية، ألا وهي: إنشاء الإمبراطورية الرومانية، ونشر الديانة المسيحية.
أما الشطر الثاني من تعريف الدكتور «تارن»، وهو إشعاع الحضارة الإغريقية من موطنها الأصلي، فهذا أيضا مما يجب إدراكه جليا، وأود أن أشرح في هذا الحديث حقيقة ما كان من أمر هذا الإشعاع واتجاهاته وحدوده. وفي الحق سوف نلاحظ أن إشعاع الحضارة الهيلينية كان أبلغ أثرا وأجدى ثمرة، بعد انقضاء القرون الثلاثة للعصر الهيليني بأمد طويل، وفي أوضاع لم تخطر على بال الأسرات اليونانية المالكة التي ورثت الإسكندر، وكذلك لم تخطر على بال الأباطرة الرومانيين، ولا في مواطن لم تصل إليها جيوشهم: لا في فارس تحت حكم الساسانيين، ولا في العراق تحت حكم الخلفاء العباسيين، ولا في ظل مدارس التفكير الإسلامية والمسيحية، ولا في فنون الساسانيين والشرق الأقصى والفنون القبطية، كما لم ينبعث هذا الإشعاع المثمر من الإسكندرية أو أنطاكية، اللتين ظلتا تحت سلطان الإغريق والرومان قرابة ألف سنة، بل انبعث من مدن غير مطروقة لا تخطر على بال، كجنديسابور في غربي فارس، أو واحة مرو في حوض نهري سيحون وجيحون، أو من حران مدينة الصابئة في الجزيرة.
وأدوار الحضارة الهيلينية الأولى - كما حددتها - تتوافق مع زوال عصر الإمبراطوريات القديمة، إن لم تكن قد ترتبت عليه، أفلت فيه نجوم وبزغت أخرى، ودرست الإمبراطوريات المصرية والأشورية والبابلية الجديدة، ودخلت في خبر كان، وعلا شأن شعوب فتية، هم الإغريق، والفينيقيون، والأتروريون، والميديون، واليهود، والآراميون، والرومان. وقد امتد نشاط هذه الشعوب إلى ميادين أوسع وأرحب من تلك الإمبراطوريات القديمة، وانطلقوا في البحر والبر على السواء، ولم يقفوا عند حد إقامة دولة قوية فحسب، ولم تكن فتوحاتهم عملا حربيا صرفا، بل أضافوا إلى تاريخ الإنسانية فصلا أكثر غنى بحوادثه، وأكثر إثارة للتأمل مما سبقه من الفصول.
إلى جانب هؤلاء أتى قومنا المصريون، وقد تقدمت بهم السنون، وأثقلت كواهلهم أحداث الماضي، ولم يبدءوا حياة جديدة قادرة على الخلق والابتكار، ولم يتلقوا رسالة من الأمل إلا عند مقدم المسيحية وظهور الإسلام.
وكان أول ما تلاقت مصر بالهيلينية عندما قدم المغامرون الإغريق إلى مصر، تجارا وملاحين، وجنودا مرتزقة، وقد استخدمهم الفرعون «بساماتيك» وحلفاؤه برا وبحرا في قتال الأشوريين والفرس وحلفائهم من بعدهم، وفي قتال الفينيقيين، وفي فتنهم وحروبهم الداخلية، وقد استقر هؤلاء الإغريق في مدن عسكرية، وفي مدينة «نوقراطس»، وفي بعض أحيان المدن المصرية الصميمة، ومنحوا حرية تنظيم مدنهم وأحيائهم وفقا لأسلوب معاشهم الخاص، وفي ظل قوانينهم وأنظمتهم، وكانوا تجارا - أو على الأصح وسطاء - كما كانوا جندا وملاحين، وكانوا يمارسون مختلف الصناعات، ولم يكن بينهم وبين المصريين ود موصول، بل كانت تثور العداوة بينهم أحيانا، ولا عجب، فالإغريق في نظر المصريين لا يكادون يستقرون على حال، أطفال قلقلون، وليسوا - في الغالب - رجالا يمكن الوثوق بهم أو الاعتماد عليهم، والمصريون في نظر الإغريق يرزحون تحت عبء الكهولة والوقار والخزعبلات الموروثة، وكان شعور الإغريق نحو مضيفيهم الذين لم يرحبوا بهم ترحيبا كثيرا، هو شعور التطلع والاستغراب المتفكه الذي لا يخلو من الاحتقار، وقد زار مصر مشاهير الإغريق، كأفلاطون، وسولون، وهيرودوت، ولكن يجدر بنا ألا نغالي فيما أثمره هذا اللقاء، من أثر ثقافي متبادل.
وفي هذه الأثناء كان سلطان فارس يمتد سريعا، وهكذا بينما نشهد انتشار الهيلينية من الغرب نحو مهاد المدنيات القديمة، كان الفرس بنو عمومة الإغريق الأباعد، يبسطون سلطانهم على ما يقع غربي بلادهم. وقد كان هذا التوسع الفارسي نقطة البداية للتبادل الثقافي المثمر مع شتى الشعوب في سوريا، فعاد اليهود إلى أوطانهم من المنفى، واتسع المجال لانتشار الثقافة الآرامية، وزاول الفينيقيون نشاطهم التجاري في إمبراطورية فارس، ثم حدث أن إمبراطورية فارس جاورت المدن الإغريقية في آسيا الصغرى، ولم ترتح لجوارها، فكان أن تشعبت الحروب المشهورة بين الفرس والإغريق. في الوقت نفسه كان حلفاء فارس - وهم الفينيقيون - يشنون حربا شعواء، ويصارعون الإغريق صراع حياة أو موت، وذلك في أنحاء حوض البحر الأبيض المتوسط كافة، وكانوا في ذلك الصراع متحالفين مع الأتروريين.
وقد أدى ذلك كله إلى امتلاك فارس لمصر، ولكنها أخفقت في إخضاع المدن اليونانية ، بينما اضطر الإغريق إلى الانسحاب من غربي البحر الأبيض، وتركه لسيادة قرطاجنة، وهي المستعمرة الفينيقية الذائعة الصيت.
ولكن الآية لم تلبث أن انعكست تماما، واستطاع الإسكندر الأكبر في خمس سنوات فقط أن يحطم إمبراطورية فارس، وأن يقود جحافله إلى الهند، وكان هذا إيذانا بفتح صفحة جديدة في قصة الحضارة الهيلينية، وفي تاريخ مصر. وآن لمصر أن تعرف الإغريق حكاما عليها، لا جندا مرتزقة أو تجارا صغارا، بيد أن الحضارة الهيلينية التي دخلت مصر تحت حكم البطالمة وخلفائهم الرومان، لم تكن الحضارة الأصيلة التي ترد على خاطرنا كلما ذكرنا تلك الأسماء الخالدة: بركليس وأفلاطون وسوفوكليس. لا، لم يكن شيء من هذا، فالبطالمة لم يسمحوا بإنشاء النظم الحرة بين رعاياهم الإغريق، ولم يتيحوا لرعاياهم المصريين فرصة المواطنة الحقة في دولة ذات قومية حقيقية، بل على العكس من ذلك، بقي الإغريق منعزلين وظلوا طائفة مميزة، وهو أسوأ ما يمكن أن يحيق - آخر الأمر - بأية طبقة من طبقات الشعوب.
وظل المصريون يعملون - كما في التعبير الإنجليزي - «حطابين محتطبين ومالئي الدلاء»، يعاملون معاملة الأجناس المستعبدة، يكدون ويكدحون حتى يسقطوا من الإعياء، حرموا من أن ينهض بينهم زعماء منهم، وتركوا نهبا لقساوستهم المتعصبين، وقد أبقى الملوك البطالمة وقياصرة روما على السخافات والمساخر الدينية، عن سوء قصد ونية، وأصروا على الإمعان فيها، وهم في قرارة أنفسهم يحتقرونها بكل جوارحهم.
وماذا كانت نتيجة هذا كله؟
Неизвестная страница