الأحلام السابحة في جمال أنا بيل لي،
ولا من نجمة تسطع في السماء
إلا وتكشف لعيني جمال حبيبتي أنا بيل لي.
وفي كل ليلة أرقد بهدوء،
بجوار حبيبتي المزدانة بإكليل العروس،
حتى في القبر أقبلها، حتى في القبر أعانقها بالقبلات.
ولن يدهشنا إزاء هذا الحب الجارف لأدب «بو» أن نجده يقول في إحدى رسائله، وفي عيد الميلاد لسنة 1924م، إلى حبيبته وزوجته مريت، التي أهدته بهذه المناسبة أحد كتب الشاعر الأمريكي: «أشكرك على الكتاب! كم من ملمح وجدته فيه يهز كياني، ويذكرني بحياتي الخاصة، ويكشف لي مدى ضعفي وعجزي عن التعبير عن حبي بكل عمقه وجديته، حتى لأحس بالنزعات الشديدة إلى الموت تتولد من تلقاء نفسها من هذا الصراع، وتتملكني في قبضتها ...»
18
والواقع أن هذا النزوع إلى الموت كان يدفعه في بعض الأحيان إلى التفكير في الانتحار، بل كان مجرد التفكير في تقصيره نحو الذين أحبهم من كل قلبهم لا ينفصل عن شعوره المزمن بالذنب والعجز والاكتئاب. وما أكثر ما نصحه الأطباء الذين تحيروا في أمره بالكف عن التدخين؛ رحمة بعضلة قلبه التي يستحيل أن تتحمل من ستين إلى ثمانين سيجارة في اليوم الواحد! وأنى له أن يكف عن التدخين، أو يلتزم في حياته وعمله بالاعتدال، أو يتجنب «الاحتراق» الذي دأب عليه حتى تحول في وهجه وعنفوانه إلى حطام؟ وهل يدهشنا بعد ذلك أن يديم التفكير في الموت خلال السنوات التي قضاها في كولونيا (وتشهد على هذا محاضرة شهيرة عن الموت، ألقاها سنة 1923م في هذه المدينة)؟ وهل نبالغ في القول لو زعمنا أن موته المبكر والمفاجئ في مدينة فرانكفورت ربما لم يكن مفاجأة له؟! صحيح أنه كان قد تصالح مع الموت، بل عشقه أيضا قبل أن يداهمه في ذلك اليوم الحزين (كما تشهد على هذا رسالة كتبها إلى مريت في السابع من شهر مارس سنة 1927م)، ولكن المؤكد أن حزنه وهمه كان مصدرهما الأعمق هو قلقه ويأسه من التمكن من تدوين كل ما يتدفق على عقله وقلبه، من أفكار وطموحات ومشروعات فلسفية كان يعي تمام الوعي أن العمر القصير، مهما طال في حساب الأيام والسنين، لن يتسع لتسجيلها على الورق؛ ومن ثم لم يتسن لهذا القلق الممزق على نفسه أن يجد الراحة في دنياه، أو يكمل ميتافيزيقاه وأنثروبولوجياه الفلسفية على النحو الذي خطط له وتمناه. هكذا تعرضت شجرة حياته، خلال السنوات التي قضاها في كولونيا، لشتى الرياح والأعاصير التي هبت عليها من كل ناحية، ولكنها ظلت تحمل من الثمار الفلسفية أكثر مما تستطيع أي شجرة حية. هاجمته الكنيسة الكاثوليكية التي أعلن انفصاله عنها، وسخطت عليه الإدارة المحلية التي لم تستدعه إلى العمل بجامعتها إلا بصفة فيلسوف الكاثوليكية، وانتشرت الشائعات المسمومة في المجتمع بسبب طلاقه وزواجه، وسائر علاقاته النسائية القديمة والجديدة.
وفكر جديا في مغادرة بلاده، كما سبق القول، للعمل في اليابان أو في مصر؛ ليتفرغ للكتابة بعيدا عن الجو الموبوء الذي أطبق على أنفاسه، فلم يتحقق من ذلك شيء. وعبثا حاول الحصول على إجازة تفرغ من التدريس، فلم يوافق أديناور الذي كان غاضبا عليه. ومع ذلك وجد نفسه يندفع إلى العمل بصورة مذهلة، كأنما يحركه هاجس غامض بقرب انتهاء أجله. وبينما هو مستغرق في إعداد مقالاته ودراساته - لا سيما عن الميتافيزيقا والأنثروبولوجيا الفلسفية - إذ فاجأته الدعوة الموجهة إليه للعمل في جامعة فرانكفورت؛ أي في المدينة التي مات فيها بالسكتة القلبية بعد تلبية الدعوة بشهور قليلة؛ أي في اليوم التاسع عشر من شهر مايو سنة 1928م، وفي الوقت الذي كانت فيه الحياة الفلسفية تنتظر إنتاجه، كما كان طفله الذي حلم به يتخلق في رحم زوجته الثالثة.
Неизвестная страница