هكذا يتبين لنا أن التناقض وحدة صراع متفاعلة بين ضدين متلازمين، يشرط أحدهما الآخر ويستبعده في وقت واحد. ولا بد من أن نستحضر في أذهاننا فكرتي الوحدة والصراع أو الخاصتين الأساسيتين في كل أشكال التناقض وتشكيلاته المتعددة، التي لم يخل منها ماضي الفكر الفلسفي ولن يخلو منها مستقبله. فبقدر ما تختلف طبيعة الأضداد (منطقية ومعرفية كانت أو موضوعية وواقعية)، ونوع العلاقة الجدلية (في وحدة واقعية وتاريخية، أو في ترابط فكري محض)، تختلف كذلك طبيعة التناقض الجدلي الكامن في الأشياء والعمليات والأنساق الحية المتطورة، عن طبيعة التناقض المنطقي الذي يتم في مجال الفكر الخالص. وإذا كنا قد قصرنا جهدنا في هذا المقام على «منطق» التناقض الذي ينعكس فيه الفكر على نفسه في نوع من التأمل الذاتي في مرآته، وحاولنا أن نحصر حديثنا في «الأزمة» التي أدت بالفلاسفة السابقين إلى الخروج منها بإبداع منهج (أصبح كذلك نقطة انطلاق جديدة لأزمات منهجية عند فلاسفة آخرين!) فإن ذلك لا يمنع القول بوجود أشكال أخرى للتناقضات الأساسية التي عرفناها (ولصورتها الهيجلية بوجه خاص)، وهي أشكال أو تشكيلات انعكس فيها تفكير الفيلسوف حينا على صراعاته وتناقضاته العاطفية والباطنية، التي كابدها في سبيل الوصول إلى المطلق الديني (كما عند كيركجارد)، أو اتجه بوعيه حينا آخر إلى واقع الصراعات والتناقضات المادية، التي فسرها تفسيرا «علميا» بتطور الطبيعة والعمل والاجتماع البشري في ماضيه وحاضره، كما حدد بها منهج الممارسة والتغيير الثوري على طريق مستقبله (كما هو الحال عند ماركوز وأصحاب المادية الجدلية)، أو ركز تفكيره حينا ثالثا على صراعات أخرى تمخضت عن تشكيلات جدلية يصعب حصرها والوفاء بحقها.
45
والمهم في هذا السياق أن التناقض المنطقي الذي يتحتم على كل فكر صادق وعلم دقيق أن يستبعده ويقضي عليه، لا ينفي وجود التناقض أو التناقضات الجدلية في الواقع والمعرفة السائدة؛ ذلك أن التناقض الأول لا يقول شيئا عن أشكال التناقض الثاني (اللهم إلا بصورة ضمنية وميتافيزيقية أو أنطولوجية، ومن خلال فهم وتحليل لا يقوم بهما إلا أصحاب النزعات النفسية والإنسانية- العملية للمنطق الخالص)، ولكنه مع ذلك شرط لا غنى للأخير عنه، بحيث يمكن القول بأننا لا نستطيع أن ندرك التناقضات الجدلية التاريخية على الوجه الصحيح بغير التسليم بمبدأ التناقض المنطقي، وعدم تزييفه أو الخروج عليه؛ حتى يستقيم كل فكر وعلم صحيح، كما سبق القول، كما يمكن تمثل التناقضات الجدلية للطبيعة والواقع الاجتماعي تمثلا موضوعيا خاليا من التناقض، والتماس حلول منهجية لها خالية كذلك من التناقض.
ربما أمكننا الآن أن نجتهد في استخلاص بعض السمات العامة التي تطبع المنهج على اختلاف أنواعه وتطبيقاته وغاياته: (أ)
ليس ثمة منهج واحد، بل مناهج متعددة؛ فدائما ما تتعاصر المناهج الفلسفية - وإن لم تتعايش في سلام! - مهما زعم أحدها أنه هو المنهج العلمي الأوحد. (ب)
وليس ثمة منهج كامل مكتمل ونهائي ؛ فهو في الحقيقة «مشروع» يجرب إمكاناته - على يد مؤسسه أو تلاميذه وتابعيه - ويحاولها بصورة مستمرة على مجالات تطبيقه المختلفة؛ وبذلك ينمو ويزداد ثراء وتأكيدا لأسسه ومبادئه النظرية، أو يعدل فيها، أو ينقح بعضها خلال حركته الحية (كما حدث - على سبيل المثال لا الحصر - مع المنهج الشارطي أو الترنسندنتالي بعد كانط، من بقية المثاليين الألمان إلى الكانطيين الجدد، ومع المنهج الهيجلي المثالي مع كثير من المثاليين، ومع المنهج الجدلي المادي مع أصحاب الماركسية الجديدة في العقود الأخيرة، والمنهج الظاهراتي مع كثير من أتباع هسرل المباشرين وغير المباشرين، والمنهج البنيوي الذي تفرغ إلى بنيويات مختلفة وأحيانا متعارضة ... إلخ). (ج)
يبدأ المنهج ويظل في حالة ابتداء لا تنتهي؛ فهو ينقد نفسه باستمرار، ويضع نفسه موضع السؤال الذي لا يتوقف، ولولا هذا النقد والتساؤل الدائب لما أمكن أن يتجدد ويتحول. وحتى لو تعصب مؤسسه لمبادئه، وشجب أي خروج على قواعده، فلا يلبث اللاحقون أن يأخذوا منه شيئا قد لا يزيد عن روحه العامة، ويتخلوا عن أشياء (والأمثلة السابقة توضح هذا). (د)
ليس المنهج مجرد حدس إبداعي، حتى لو اهتدى صاحبه إلى نقطة بدايته في لحظة كشف مفاجئة (كما حدث مع ديكارت). إنه ثمرة جهد صبور، قد يستغرق عمرا بأكمله، أو عمر أجيال لا تنفك تجدده وتدعمه بالنظر والممارسة، وتجرب مدى إنتاجيته وفاعليته واستجابته أو عدم استجابته للظروف المعرفية والعملية المتغيرة. لا عجب إذن أن تصبح بعض المناهج التي أثبتت صلاحيتها في عصرها وفي نسقها المذهبي الخاص، مجرد أثر تاريخي دارس (كما حدث للمنهج الغائي الأرسطي منذ عصر النهضة إلى اليوم، بعد تخلي المناهج العلمية الدقيقة عن البحث عن الغاية، واستعاضتها ب «الكيف» عن «اللماذا»، وإن لم يعدم الأمر قلة قليلة من الفلاسفة الذين حاولوا إحياءه في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، من ليبنتز وكانط إلى الفيلسوف الحيوي هانز دريش). على أن نسبية المناهج الفلسفية وتحددها بظروفها المكانية والزمانية والثقافية والحضارية لا يمنع القول بأن «المنهجية» نفسها ملزمة لكل من يتفلسف، وفي كل الأوقات والظروف. (ه)
قد يمتزج المنهج بالمذهب، بحيث يصبح من المحال الفصل بينهما (كما نجد عند هيجل وبرجسون). وقد تكون فلسفة الفيلسوف هي المنهج الذي يصعب أن نحدد له مذهبا أو رؤية أو «أيديولوجية» (كما هو الحال عند هسرل مثلا). وقد تتحدد معالم المنهج وخطواته قبل تطبيقه أو بعده. وقد لا تتبلور بصورة محددة، أو لا يهتم صاحب المنهج نفسه ببلورتها، فيحاول ذلك غيره (كما نرى مع المنهج التحليلي عند رائده جورج مور)، دون أن يقلل هذا من أصالته وإبداعه عند تطبيقه على مشكلات ميتافيزيقية ومثالية عدة، ليثبت بالتحليل اللغوي والمنطقي لعباراتها أنها ليست مشكلات على الإطلاق. ولأن «الموضوع» في الفلسفة كلي وشامل وغير محدود، فلا يستطيع أي منهج أن يستوعبه من جميع أطرافه، وكل منهج حاول هذا أو ادعاه قد جنى على ذلك «الموضوع»، وأضاع الروح الأصلية للمنهج نفسه. فموضوع الفلسفة، إذا صح تسميته بهذا الاسم، لا يحدد المنهج ويتحدد به كما هو الحال في العلوم الجزئية، وإنما يقع قبل المنهج وبعده، ولا يسمح بأن يقتنص في شبكة منهج واحد أبدا؛ ومن ثم تتعدد المناهج في الفلسفة وتتجدد، أو تنسخ وتنتهي كأي مشروع ثبت عجزه عن تفسير «الواقع الكلي» مع تغير الظروف والأدوات والغايات وصيغ السؤال الفلسفي ومحاولات الجوانب المنتجة والمغيرة لبناء المعرفة والوعي والوجود. (و)
وأخيرا فلا يمكن فصل المنهج عن الحضارة، سواء في سقوطها وانحدارها أو في بعثها ونهضتها، ولعل الانعطافات الحضارية الكبرى أن تكون انعطافات في طرق النظر المنهجي (ومن أشهر الأمثلة المتكررة على ذلك أفول منهج النظر العقلي اليوناني في العصر الهللينستي، وقيام عصر النهضة مع ظهور المنهج العلمي والطبيعي والرياضي الدقيق، وتدعيمه على يد علمائه الكبار).
Неизвестная страница