رأيت رجالا كان الناس يطاردونهم في العهد الحميدي، فإذا هم اليوم موضع لرحمة الناس، لا أسميهم - والناس يعرفون من أريد - سلبتهم الدولة ألقابهم وردتهم إلى أصولهم، ولكن الأمة لم تبرح حافظة لهم ألقابهم، مؤثرة لهم على سواهم. بمن استعان عبد الحميد إذا بطش؟ وبمن استهدى إلى مكان الأرواح المظلومة إذا استنفرها؟ ألم يكن هؤلاء المرحومون اليوم أعوان نقمته وأهل مشورته؟ ألم يسلب الأمة لكي يمنحهم؟ ألم يضعها لكي يرفعهم؟ ما أشد جهل الأمة بما لها وبما عليها! ولو رثت لهؤلاء المطرودين نخوة منها ونجدة لكان ذلك منها تكرما، ولكنها تنظر إلى ما بقى بأيديهم من الغنائم فتعظمهم لتشاركهم في بعضها، على أنها خاطئة؛ لأن الكاسبين في ظل عبد الحميد كسبوا ما كسبوا ببيع أغلى ما يملكه الإنسان، وهو الشرف، ومن يجعل الشرف فداء المال كيف يجود بذلك المال لمن يملقه؟
هذا خطأ، غير أنه خطأ لا يرجى إصلاحه، الناس مغرمون بأولي الجاه، ومغرمون بمن كانوا أولي الجاه، إذا ساير رجل رجلا من أولئك الواقعين التفت يمنة ويسرة ليرى كيف تجول الأبصار فيه، ولقد يهز منكبيه ويتأود في مشيته زهوا؛ لأنه يساير من كان له لقب أو قدر في دولة عبد الحميد، وبهذا القدر من الرأي ومن الحرية تريد الأمة أن تنتفض في أغلال الأسر فتكسر حلقاتها.
هيهات ثم هيهات! عرف أعوان عبد الحميد ذنوبهم وخافوا أن تتناولهم الأمة خفافا وأن تعبث بهم أهوانا، فوجدوا عند الأمة خلاف ما خافوا، وهذا من أكبر دواعي الأمان لمن أتوا بعد عبد الحميد وسلكوا طريقه، هم يقولون نربح اليوم ولن نخسر غدا، إذا أسقطنا الحكومة تلقتنا الأمة بأكفها، وفيما ندخر من المال سبيل إلى حياة طيبة وذكر جميل، وإن أمة لا تعرف الجميل من القبيح لتعجز عن مقاضاة أمثالنا.
إيه يا أهل الشرق، ويا بني العثمانية! يتعاقبكم المتحكمون يجزون نواصيكم، ويسلون أرواحكم من أجسادكم، وأنتم حامدون شاكرون كأن الله لم يخلق أناسا لغفران الإساءة ونسيان الجميل سواكم!
إذا فذوقوا ولا تشتكوا، إن أعداءكم اليوم من أولي الحكم أحبتكم غدا، ولكني كنت أقنع منكم، أن يبقى في فكر بعضكم شيء من هذه الإساءات تعاتبون عليها إخوان الغد عتابا إذا مالوا بآثامهم عن تلك المقاعد، ولكنكم لن تفعلوا. وا رحمتا عليكم! لم أجد أمة أولى منكم بالرحمة، أحسن الله عزاءكم في عبد الحميد، وأحسن الله عزاءنا فيكم.
الفصل السابع عشر
بين أنقاض الوطن
ديار الحمى حيث القنا والصوارم
تحييك من عيني الدموع السواجم
لقد طرقتك الحادثات فجأة
Неизвестная страница