إن منا من كان شغله حماما يستطيره على سطح بيته أو ديكة يربيها ليضارب عليها ويراهن حتى محا الله آيات تلك المشاغل ووقع من دعاواه في حرج فخرجت آلاف الدنانير من كفه ربحا حلالا لكل طامع وكاسب، وإن منا من يذهب إلى منت كرلو فيخسر في المقامرة خمسة وعشرين ألف جنيه لا يبالي فقدها ولا يجد لها وجدا، ثم يحاسب سائقه على قليل من طعام، وإن منا من يقيم له حكومة في داره مع كاتبه وخادمه ويقضي حياته بمعزل عن واجب الرجل الحر، كل هؤلاء لا يفرحهم إلا اللهو ولا يحزنهم إلا موت ديك أو حمامة ، أو ضياع صيد يفلت من أيديهم.
وإبراهيم الذي هجر راحته وباع حياته في خدمة وطنه وأقام بين أغوار اليمن وأنجادها يشتم روائح الشيح والقيصوم لا تبقى له باقية ذكر، ولا يسطر له في تاريخ الناس سطر، نحب التراث ولا نحب مستخلفه، كذا يكون الإنصاف؟
على أنني سأستوفي الكلام في فصول آتية فلينتظره القراء في مشارق الأرض ومغاربها، دعاني إلى هذا الكلام ما يقع باليمن: إن بها لداء عقاما أعيى الأطباء دواؤه، وإنها لكما قال الثقفي في غابرات العصور: «أرى رءوسا حان اقتطافها وأرى الدماء تموج بين الغلاصم واللحى.» وا حر قلباه على تلك الرءوس وتلك الدماء الغالية! وإن لأهل اليمن عندي لودا مكينا تورثته من أب بعد أب، يعرف ذلك من يعرف إبراهيم، الذي ولي أمورهم حينا من الدهر، وما كاتب هذه السطور إلا حفيده وأحد الذين ورثوا حبه لليمانيين.
ولقد عثرت على أوراق هي محفوظة عند أحد أبناء الأسرة اليكنية، عليها ختم محمد علي الكبير، وهي مقيدة بأرقامها بالدفترخانة الخديوية، عرفت بها كيف ساس اليمن ذلك الفاتح، وأي طريق سلك حتى راض شامسها وكبح جامحها، وكانت هذه الأوراق إلى اليوم تحت حجب النسيان، ولولا انتباه صاحبها إلى ما حوت لذهب بأمانتها، ولم يلتفت إليها أحد ملوك الديكة وسواس منت كارلو.
أدع الآن ذلك جانبا، وأنادي حكومتنا العثمانية بمشهد من أبنائها: على رسلك، احبسي اليوم جنودك واستبقي دماء أبنائك، إن الحكمة تبلغ ما لا تبلغ القوة، وأنا أقف اليوم على تلك التهائم وأخاطب لك أبناءك العاصين، فإن أفلح فرمية من غير رام وإن تبلغ الشقوة حدها ففقد مثلي أخف من فقد أحقر من في أولئك الجنود.
نعم، عندي لليمانيين كلام يسمعونه في حينه، فلئن ذهبت إليهم لأذهبن أعزل غير مستصحب أحدا ولأنازلن قرومهم بالحجة ولأخاطبنهم بلسان عربي يهز المعاطف من نسل الأقيال وأبناء الملوك الحميرية.
ما أنا برجل الدهاء ولا من حجاجح الرأي، ولكن لدي تدبيرا أحكمته وأمرا استجمعته، ولن أسير إلا مستوثقا بعهود لا تخان، أن لا يخيبوا لمتظلم أملا وأن لا يؤخروا إصلاحا يراد، وأن لا يولوا تلك البلاد من لا يعرف لغتها ولا يدري أهواء أهلها ولا يقدر على أن يستصفي موداتهم ويسترضي قلوبهم، فإلا تفعل الحكومة ما تطالب به من العدل والإنصاف فلا نصير لها إلا السيف، والسيف يحز الرقاب ويخلي الربوع ويقري الوحوش والنسور أجساد الناس ويرفع استغاثات الأرامل واليتامى إلى ملك الملوك، إلى من لا تخفى عليه خافية.
فلتسألني الحكومة عما أريد أن أعمله أجبها بما يزيل الشكوك ولا يدع لريبة مستقرا، ما في الوقت من سعة ولا في الإهمال من خير، هذا رأي رأيته وعقول الناس تستولد الآراء، ثم هو إحدى التجاريب، والتجاريب أمهات الحقائق، والله بيده عواقب الأمور.
الفصل السابع
كيف يموت الأدباء في الشرق
Неизвестная страница