وما لهم ألا يماروا وقد خسروا بانتصار مصر طريقهم إلى خراب مصر.
استعاد حلمي ابني نفسه وأحس أنه إنسان مكتمل، وفي يوم وقف إطلاق النار فوجئنا به على المائدة يقف والدمع في عينيه ويصيح بأعلى صوته: أنا مصري، بابا أنا مصري، نينا أنا مصري، ماما أنا مصري.
كانت بداية مشرقة لعامه المدرسي، فقد كان في الثانوية العامة، وقد اختار هو دون أي تدخل من أحد أن يكون في القسم العلمي. وكانت درجاته العلمية تتيح لي أن أستبشر خيرا باختياره هذا.
وكان حلمي في الإجازة قد وثق صلته بقريتنا الرمايحة، وقد أغراه فريد بن الحاج سعدون الذي أصبح يشرف على أرضنا بعد أبيه أن يربي بعض عجول بدلا من أن يترك العزبة خالية من البهائم تماما، وقد أحببت أن يرتبط عدلي بالرمايحة وشجعت تحمسه المراهق، وفرح وبدأ مشروعه، وقد كان الفتى يعرف حقوقه وواجباته، وكنت واثقا أن اشتغاله بالعجول لن يشغله عن الدروس، وكنت أمزح معه قائلا: يا عدلي يا بني العجول لا تغني عن العقول.
ويبتسم في ثقة ويقول: لا تخف. •••
انتهى شهر رمضان وعدت إلى الكويت لأقضي بها أسبوعين. لقد عادت مصر إلى مكانها، بل إنها عادت إلى أرفع مكان تبوأته في تاريخها ، وما لها ألا تعود وقد حققت النصر الوحيد في العصر الحديث؟ ولكن عجيبة! أم تراها ليست عجيبة؟ لقد كانت الهزيمة هزيمة مصر وحدها، ولكن وبقدرة قادر - أم تراني يجب أن أقول بقدرة ظالم - أصبح النصر نصر العرب أجمعين! لا بأس فليكن كذلك، وهل مصر والعرب إلا كما قال الشاعر:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
وانتهى الأسبوعان. وركبت الطائرة عائدا إلى القاهرة. شعور عجيب يتولاني كلما عدت من الخارج إلى مصر. مهما يكن المكان الذي كنت فيه والذي أعود منه إلى مصر. أنا دائما مشوق إليها بكل حال هي عليه. أنا مشوق إليها والظلم يتغشاها ويتغشاني معها، ومشوق إليها وحقي وحقوق المصريين مكفولة. ومشوق إليها حتى بعد أن خامرها ما خامرها من طريق غير سوي وماء متفجر وكهرباء مقطوعة وتليفون لا ينطق، بل ربما أنا أشد شوقا إليها وهي في تلك الحال من شوقي إليها وهي لا تعاني. وهل نعرف قيمة الأم إلا إذا مرضت الأم. وهل نحبها في مألوف أيامنا قدر ما نحبها وهي تعاني. وأمنا الخالدة تعاني، فنحن أبناءها أعظم لها حبا، وأكثر إليها لهفة، وأشد عليها حرصا.
لقيني حلمي في البيت، وما هدأ بي المقام حتى وجدته ينتهز فرصة صمت ويسارع قائلا في لهفة، وقد وضح لي أنه كان يختزن ما يقوله منذ أيام، وينتظرني متعجلا عودتي ليعرض علي ما يعرض. - يا بابا من المفروض أن يأتي إلى العجول طبيب بيطري ليرى إن كانت قد بلغت الحجم الذي تستحق معه الحصة المخصصة لها من العلف أم لا، وقد جاء الطبيب ورأى العجول وقرر أنها لا تستحق بعد تلك الحصة، وقبلت رأيه كأمر مقرر ولم أناقشه، وخرج الطبيب من المنزل هو والتمورجي الذي يعمل معه، ولكن ما هي إلا دقائق حتى عاد التمورجي ليهمس في أذني: إذا كنت تريد أن يقرر الدكتور حصة العلف فادفع خمسة جنيهات عن كل رأس. وسألته: لمن؟ قال للدكتور. قلت: أهي تمغة أو ضريبة حكومية مثلا ؟ قال : لا، وإنما هي إكرامية للدكتور. قلت: ولك؟ قال: اللي تشوفه. قلت: ولكن الإكرامية من الإكرام، والإكرام لا يكون بالعافية. قال: والله أمرك. قلت: اتركني أفكر في الأمر. والحقيقة أن المبلغ بسيط لا يستحق التفكير، ولكنني يا بابا لا أتصور أن أبدأ حياتي بالرشوة، وفي نفس الوقت أرفض أن يقع علي ظلم لأنني رفضت أن أقدم رشوة. ماذا أفعل؟
Неизвестная страница