الفصل الخامس
المدحلة البخارية
يسوي الغسق بلطف الشوارع المتعرجة. ويضغط الظلام بإحكام المدينة الأسفلتية التي تفوح بالأدخنة ، ويجوس خلال الحليات الشبكية للنوافذ، واللافتات الكتابية، والمداخن، وخزانات المياه، ومنافذ التهوية، وسلالم الطوارئ، وزخارف الأسقف، وأنماط البناء، والتمويجات، والعيون، والأيدي، وربطات العنق، محولا كل ذلك إلى شقفات زرقاء، إلى كتل سوداء ضخمة. تحت وقع الضغط المتزايد لدحرجة المدحلة، تومض النوافذ بالضوء. ويعتصر الليل المصابيح القوسية لتشع ضوءا صافيا كصفاء الحليب، ويدك كتلها الكئيبة حتى تقطر بالأحمر، والأصفر، والأخضر، في شوارع تطن بوقع الأقدام. كل ما على الأسفلت ينضح بالضوء. فينبثق الضوء من الكلمات فوق الأسقف، ويخفق متخبطا بين إطارات العربات، ويلطخ الأفق الضخم المتماوج.
كانت ثمة مدحلة بخارية تقعقع ذهابا وإيابا فوق سطح الطريق المقطرن لتوه عند بوابة المقبرة. فاحت منها رائحة شحم محترق، وبخار، وطلاء ساخن. مشى جيمي هيرف الهوينى بمحاذاة حافة الطريق؛ حيث شعر بالحجارة حادة أسفل قدميه عبر نعل حذائه المتآكل. مر بعمال داكني الأعناق، وواصل المشي على الطريق الجديد حيث اخترقت فتحتي أنفه نفحة من رائحة الثوم والعرق المنبعثة منهم. توقف بعد 100 ياردة فوق طريق الضاحية الرمادي، الذي يبدو وكأنه مربوط بإحكام من كلا جانبيه بأعمدة البرق وأسلاكه، وفوق المنازل الرمادية الشبيهة بالصناديق الورقية والرقع المتعرجة بشواهد القبور، كانت السماء بلون بيض طير أبو الحناء. شعر كما لو أن ديدان ربيع صغيرة تتلوى في عروقه. خلع ربطة عنقه السوداء ووضعها في جيبه. ودق لحن بجنون في رأسه:
لقد سئمت أزهار البنفسج
خذها جميعها بعيدا.
ثمة توهج للشمس، وآخر للقمر، وآخر للنجوم، ولكل نجم توهج يختلف عن الآخر. كذلك الأمر في بعث الموتى ... واصل السير مسرعا وهو يطرطش في برك مليئة بانعكاسات السماء، محاولا أن ينفض عن أذنيه الكلمات المطنطنة المنصبة صبا فيهما، وأن يتخلص من ملمس نسيج الكريب الأسود، وأن ينسى رائحة الزنابق.
لقد سئمت أزهار البنفسج
خذها جميعها بعيدا.
أسرع الخطى. ارتفع الطريق بتل. وكان ثمة غدير ماء براق في المجرى، ينساب عبر رقع العشب والهندباء. قلت البيوت، وعلى جوانب الحظائر كلمات مكشوطة: «مجمع خضراوات ليديا بنكهام، جعة بدويايزر، دجاج أحمر، كلاب نابحة ...»، وقد أصيبت أمي بسكتة دماغية ودفنت. لم يستطع أن يتذكر شكلها، لقد ماتت وانتهى الأمر. من عمود السياج، سمع الصافرة الرقراقة لعصفور دوري مغرد. طار أمامه العصفور الصغير الشاحب وجثم فوق أحد أسلاك البرق وغنى، وطار أمامه إلى حافة مرجل مهجور وغنى، وطار أمامه وغنى. كانت السماء تستحيل إلى لون أزرق أكثر دكنة، ممتلئة بسحب كعرق اللؤلؤ المتقشر. شعر لمرة أخيرة بهفهفة الحرير بجواره، وبيد في كم متحرك مزركش بالدانتيل تحيط برفق بيده. شعر بنفسه كطفل مستلق في مهده وقدماه مسحوبتان لأعلى وباردتان تحت وطأة الخوف من الظلال الرابضة المتشعبة، وتسرع الظلال لتذوب في الأركان بينما تنحني هي فوقه بالتجعدات حول جبهتها، وبكميها الحريريين المنفوخين، وبرقعة سوداء صغيرة في جانب فمها الذي قبل فمه. أسرع الخطى. تدفق الدم ساخنا، وفي تتابع مستمر داخل عروقه. كانت السحب المتقشرة تذوب متحولة إلى رغوة وردية اللون. سمع وقع أقدامه على حصى الرصيف المتآكل. ومض ضوء الشمس في تقاطع طرق على براعم شجيرات الزان المدببة الدبقة. كانت هناك في الجهة المقابلة لافتة مكتوب عليها «يونكيرس». تأرجحت في منتصف الطريق علبة طماطم منبعجة. ركلها بقوة أمامه وواصل السير. ثمة توهج للشمس، وآخر للقمر، وآخر للنجوم ... واصل السير. ••• «مرحبا يا إميل!» أومأ إميل دون أن يلتفت برأسه. ركضت الفتاة خلفه وأمسكت بكم معطفه. «أتلك هي الطريقة التي تعامل بها أصدقاءك القدامى؟ الآن وقد رافقت ملكة بقالة ...»
Неизвестная страница