ولا نظن أن من له اختلاط بالدوائر الوطنية في مصر ينكر في قلبه أن الأمة قد تنبهت إلى وظيفتها الوطنية، ولا ينكر السرعة الشديدة التي ترسخ بها أقدام ذلك التنبه في قلوب الشبيبة المصرية، رب قائل يقول إنه من الممكن أن تكون فكرة «حق البقاء كأمة مستقلة» لم تتمكن من عقول المصريين ولم ترسخ في أفئدتهم بدرجة تضطرهم إلى المطالبة بحقوقهم حالا مهما كلفتهم تلك المطالبة، نقول: نحن لا نشك في أن كر الأيام ومر الأعوام يؤديان إلى إنماء تلك الفكرة في عقولهم، وذلك يصل بهم إلى النتيجة المقصودة على أن السياسي البارع هو ينتهز الفرصة ويقبض عليها من ناصيتها فلا يفوتها ولا يدعها تفر منه؛ لأنه لو تأنى لرأى ما لا يسره مع طول الزمن فيلتمس من ورطته مخرجا فلا يجد، فخير له أن ينظر بمنظار الحكمة إلى المستقبل فيرسم خطته وفقا لما يراه آتيا ... ولقد أظهرنا بكل ما في وسعنا بواسطة البحث المنطقي والأدلة القاطعة والبراهين الحاسمة أن الاحتلال البريطاني يضر بمصر في المستقبل كما نفعها في الماضي، وأن بريطانيا بعد تنازل فرنسا عن حقوقها فقدت كل حق في وادي النيل، وقد أظهرنا أن إبدال هذا الاحتلال بامتلاك دائم يضر بمصلحة إنكلترا لو أنها نجحت في ذلك. وعددنا الفوائد الجمة التي تستفيدها إنكلترا من انسحابها من ذلك المركز الكاذب الذي يستفحل خطبه يوما فيوما، ويلوح لنا أن الساعة التي تستطيع إنكلترا أن تنسحب فيها قد حانت، فإذا انسحبت بريطانيا العظمى بدون ضغط فيكون ذلك الانسحاب أكبر دليل على حسن نيتها نحو مصر قبل الاحتلال وبعده.
وسنبحث فيما بقي من هذا الفصل في الخطة التي تسير عليها مصر في المستقبل وسنستشهد بحوادث الأمم والممالك التي حدث لها ما حدث لمصر تماما، ونشرح الطرق التي حلت بها مسائل تلك الأمم، وبعد ذلك نكون قد حصلنا على قانون عام نستطيع أن نستخرج منه قاعدة خاصة نطبقها على الحال الحاضرة في مصر، وغني عن البيان أن بحثنا في هذا الموضوع سيكون بحثا تاريخيا، فنستميح القارئ عذرا إذا أتعبناه بذكر بعض المقدمات التاريخية ؛ لأنها هي الأساس الوحيد الذي يمكننا أن نبني عليه بناء متينا، وقد ابتعدنا عن تقرير الحقائق العقلية لأنها كثيرا ما لا تقنع القارئ ولا تترك في نفسه أثرا. ونحن نشاء أن نظهر بوضوح تام أنه لم يوجد للمسائل الأوروبية التي تشبه المسألة المصرية إلا حل واحد يمكن الاعتماد عليه. على أن هذا الحل الذي حلت به تلك المسائل لم يكن نتيجة بحث علمي؛ بل كان نتيجة الضرورة السياسية؛ ولذلك كان معقولا مقبولا أضف إلى ذلك أنه أدى إلى الغاية المطلوبة.
إن أول نظرة في ميدان تاريخ أوروبا تقنع الناظر بأنه ينظر إلى وادي التيه؛ لأنه يرى كل شيء مرتبكا مضطربا متناقضا متباينا ييأس من الخروج من هذا الوادي بفائدة تذكر لأنه لا يجد قاعدة يستطيع بها أن يحكم على الحوادث والحقائق، ولكن بعد زمن قليل تزول تلك الغشاوة عن ذلك المنظر التاريخي وتبتدئ عين الناظر ترى صورة واضحة فتختفي من أمامه المسائل الصغرى وتتوارى في أخريات الصورة، وتقف أمامه المسائل الأولية الكبرى بوضوح وجلاء يرى الناظر أن الجدير بالإمعان هو دولتان أو ثلاث، ليس إلا، وأن ما يطرأ على تلك الدول الثلاث من الجذب والدفع ليس إلا نتيجة التغير الذي يلم بها، فمنذ أوائل القرن السادس عشر كانت تلك الدول الثلاث؛ هي: فرنسا، وإمبراطورية ألمانيا، وإسبانيا وبعد ذلك بقليل بدأت روسيا بالظهور، ومن الغريب أنه مهما طرأ على تلك الدول من التغيير فإن عددها لا يقل، على أن تلك الدول دائما في حرب عوان لتزاحم منافعها واشتباك مطامعها، فترى مرة فرنسا تتحد مع إسبانيا على ألمانيا ثم ترى مرة أخرى إسبانيا وألمانيا متحدتين على فرنسا، وقد يظن غالبا أن الدولة الثالثة المهجورة التي تتحد عليها الدولتان الأخريان تئول إلى الفناء، ولكن هذا الظن لا يصدق أبدا، فإننا لم نر دولة أوروبية كبرى أثمر سعيها وتحققت أمانيها بسحق عدوتها.
فكانت النتيجة أن احتياج تلك الدول المتحاربة إلى السلام يشتد كثيرا لما يلحقها من الضعف، وإن لم يكن السلام سلاما نهائيا فإنه يكون على الأقل هدنة، ولم يكن يعقل حينئذ أن أحد المتحاربين يسلم لعدوه فيما كانا يتحاربان من أجله، وكان البعض يحسب أن هذه الحروب الأوروبية تدوم إلى الأبد حتى تفني الأمم بعضها بعضا، ولكن الزمان لم يحقق هذا الحسبان ولم تنجح أمة أوروبية في سحق أمة أخرى، ولم تجد أوروبا حينئذ لمسألة الحروب إلا حلا واحدا، وهو أن يتنازل المتحاربان عما سبب النزاع بينهما وتترك كل دولة حقها فيه لتضمن سلامة ذاتها وسلامة جارتها، وهذا هو تفسير ما نراه على الخريطة الأوروبية من الأسماء الصغيرة التي لا تعد شيئا، هذه الممالك الصغرى هي هياكل السلام والسكون التي كانت تحوم حولها عفاريت الشر وشياطين الحرب والنزاع، وكل ناظر إلى خريطة أوروبا يرى أنه بين كل دولتين أو ثلاث من الدول الكبرى «منطقة على الحياد» مثل سويسرا وبلجيكا وغيرها، وتستفيد الدول من تلك المناطق فائدتين: الأولى أنها تحتمي بها من الاحتكاك ببعضها، والثانية أن في تلك المناطق المحايدة من المواقع الحربية ما لو كان في يد دولة لجعل جاراتها في هلع وفزع، ويعجز القلم عن عدد الحروب التي قامت للحصول على هذه المناطق، ولكن بعد أن أنفقت كل دولة مالها وقدمت رجالها للموت في ميدان الوغى واقتنعت باستحالة الحصول على الأرض المتنازع عليها رأت أن تغمد الحسام ليسود السلام.
وليس تاريخ أوروبا إلا صحيفتين: صحيفة كتبت بدماء الأبطال، وصحيفة كتبت بحكمة الحكماء الذين نصحوا إلى دولهم فكفت عن حروب لم يكن وراءها إلا الخراب. ولنتقدم الآن إلى الاستشهاد بالحوادث التاريخية، فنقول: لو نظر القارئ معنا لحظة في سياسة فرنسا من أوائل القرن السادس عشر إلى يوم عقد معاهدة فينا سنة 1815، يرى أن السياسة الفرنسوية لم تكن تسعى إلا إلى غرض واحد، وهذا الغرض هو الذي وضعه لويس الرابع عشر، وهو أنه يجب على الفرنسويين أن يبسطوا فرنسا إلى حدودها الطبيعية، وهي الحدود التي وضعها لها يوليوس قيصر. ولا ينقص فرنسا من تلك الحدود إلا أنها تمتد إلى نهر الرين شرقا ومن ينظر في الخريطة لا يرى أن هذا العمل شاق أو صعب التنفيذ؛ لأن المساحة المطلوبة ليست عظيمة جدا، ولكن فاتت ثلاثمائة سنة طويلة لم يقف فيها العمل نحو هذا الغرض يوما واحدا ولا تزال الأمنية بلا تحقيق، ولم يكن هذا الفشل لاحتياج فرنسا لكبار العقول؛ لأن ساستها في ذلك العهد كانوا من أكبر وأبرع ساسة العالم، ومن منا لا يحفظ اسم «ريشيلو» و«مازاران» ومن جاء بعدهم من الذين رفعوا شأن فرنسا وجعلوا سياستها نموذجا لسياسة العالم، حتى إننا لا نزال حتى الساعة نرى في السياسة الأوروبية آثار عقول جيانين وديافوكس وليون.
ولسنا في مقام يسمح لنا بذكر النظام العجيب الذي سارت عليه جندية فرنسا وجيوشها، وهل على ذلك دليل أكبر من أن الاصطلاحات الحربية الفرنسوية لا تزال مستعملة في الجيوش الأوروبية إلى يومنا هذا؟ ولسنا في حاجة إلى ذكر أسماء أبطال فرنسا وقادة جيوشها العظام؛ أمثال كونديه، ولوكسمبرج، وفيلارس، وكايتنان، وفندوم وغيرهم ممن يعطر ذكرهم صحف التاريخ، وبهذه العقول وهذا الترتيب وهؤلاء القواد مع ما يتبع ذلك من النفقات لم تستطع فرنسا أن تصل إلى حدها الطبيعي، فكانت إذا دنت من الرين من جهة أقصاها أعداؤها عنه من جهة أخرى ولم يظهر للعدوين المتحاربين أن مسألة الرين تحل حلا يرضيهما كليهما، ولم يهدأ روع فرنسا ساعة لأنها لم تكن لتقنع بحد غير نهر الرين؛ لأن ذلك كان يجعلها دائما في خوف وقلق من عدو مهاجم يلحق بها ضررا قبل أن تتنبه لأمرها. وهكذا استمرت الحرب وكانت إذا انقطعت يوما دامت عاما، ولم يكن هذا الانقطاع إلا ليتنفس المتحاربان الصعداء، ويأخذان أهبتهما لما تأتي به الأيام، وبعد أن كانت الأرض المتنازع عليها طيبة خصبة أصبحت قاحلة جدبة بعد أن أنهكها مرور الجنود وحرق الشجر واستقت أرضها دماء البشر.
ولم تأت أمة قوية تستطيع أن تسحق فرنسا فتتخلى عن أغراضها، ولم تكن فرنسا بما لديها من الحول والطول قادرة على أن تسحق عدوها فلا يبقى على إضراره في مقاومتها وعنادها. واستمرت الحال على ذلك حتى جاء نابوليون بونابرت. ومن الغريب أن نابوليون بقوته وقدرته وعزمه وحزمه لم يستطع أن يستولي على البلاد المتنازع عليها إلا أمدا قصيرا، ففي عام 1810 كانت هولاندا وبلجيكا كلتاهما تابعتين لفرنسا، ولكن معاهدات 1814 و1815 حلت ما ربطه نابوليون وقلعت ما زرعه ولم تحل هذه المشكلة المعضلة إلا في سنة 1831؛ لأنه في هذه السنة انتهى الزمن الذي كانت فيه تخوم فرنسا ملاصقة لحدود ألمانيا تمام الملاصقة، وما كان أحوج هاتين الدولتين العظيمين إلى مملكة صغيرة بينهما تمنعهما من الالتصاق والاحتكاك؟ ففي عام 1831 باتفاق الخمس دول العظام (النمسا، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، وبروسيا) منحت بلجيكا حريتها وصارت مملكة محايدة. وبهذه الوسيلة سد باب كبير في وجه من يود مهاجمة فرنسا. وفي عام 1839 قبلت هولاندا بحياد بلجيكا وصادقت عليه بعد أن اعترفت به.
وفي سنة 1867 اتفقت الدول العظام السابق ذكرها ومعها إيطاليا ومنحت الحرية والحياد لدوقية لوكسمبرج. فسد باب ثان في وجه أعداء فرنسا، وغني عن البيان أن هولاندا ممنوحة حق الحرية والحياد إن لم يكن رسميا فعرفيا. على أن إنكلترا على أهبة الاستعداد لمحاربة من يحاول سلب حرية هذه المملكة أو يمس حيادها، وما حدث في حدود فرنسا الشمالية حدث في أمكنة أخرى، ولا يخفى أن حول هولاندا وبلجيكا ولوكسمبرج توجد إنكلترا وفرنسا وألمانيا، وبحيادها سلمت تلك الدول الصغرى وسلم ما حولها من الدول الكبرى. وكأن هذه القاعدة قد صارت من قواعد السياسة الطبيعية، فإنك حيث ترى ثلاث دول كبرى ترى أنه من الضروري وجود مملكة حرة محايدة بينهن لولاها لاستمر النزاع والعراك بين دول أوروبا وبقي سلامها مهددا. وسنشرح فيما يأتي معنى حياد هذه الممالك. ومن أهم تلك الممالك المحايدة في أواسط أوروبا جمهورية سويسرا، وقد منحت هذه الجمهورية حريتها وحيادها في أواسط القرن السابع عشر تقريبا، وصودق على معاهدة حيادها أخيرا في معاهدة فينا سنة 1815، وقد جاءت سويسرا فاصلا بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ومما يدل على احترام هذه الدول الكبرى لحياد تلك الجمهورية الصغيرة أن القائد بورباكي لما عاد ببقية الجيش الفرنسوي في عام 1871 لم يمر بسويسرا وفي جيشه سيف مجرد أو رمح مشروع.
لا يخفى على القارئ أنه بموت تشارل الثاني ملك إسبانيا وارتقاء أسرة بوربون إلى العرش انحلت عروة الاتحاد التي كانت تربط إسبانيا بالإمبراطورية الرومانية المقدسة ضد أسرة الهابسبرج وحل البغض محل العداء بينهما. وكان شمال إيطاليا بين الدولتين فكانت أملاك إسبانيا الإيطالية عرضة لضربات الإمبراطورية الرومانية كما كانت أملاك الإمبراطورية الرومانية تحت رحمة إسبانيا، وكما أن فرنسا والإمبراطورية عجزتا كلتاهما عن الحصول على هولاندا وبلجيكا، كذلك عجزت إسبانيا والإمبراطورية الرومانية المقدسة كل عن وضع يدها على الأرض المتنازع بشأنها في شمال إيطاليا. فكانت النتيجة من هذا النزاع تشبه كل الشبه النتيجة التي حدثت عن النزاع الذي قام بين فرنسا والإمبراطورية فساد، الصلح بعد أن تنازلت الدولتان عن حقوقهما وتركتا مكان النزاع حرا محايدا.
وهنا لا نغفل ذكر جمهورية البندقية، فإن هذه كانت أيضا سببا للنزاع بين إسبانيا والإمبراطورية؛ لأن مركزها الحربي كان لا يترك إسبانيا في مأمن من الأذى إذا كانت فينيسيا في أيدي الإمبراطورية والعكس بالعكس. ويجدر بنا في هذا المقام أن نذكر الدنمرك وما أشيع بشأن منحها الحرية والحياد قريبا. فإن هذه المملكة الصغيرة هي في الحقيقة مفتاح بحر البلطيق فهي تصلح قاعدة حربية للدخول إلى هذا البحر من بابه الخلفي المسمى «قنال كيال»، ولا يخفى أنه ما دامت الدنمرك قادرة على العمل بمفردها فإنها تكون أبدا من أسباب قلق ألمانيا وفزعها، فإن أي دولة تفوز بالاتفاق مع الدنمرك تستطيع في الحال أن تضع يدها على مدخل «بوغاز الكاتيجات» فتصير على قيد ذراع من مدخل قنال كيال وحينئذ تستطيع أن تقطع المراسلات الألمانية البحرية بين بحر الشمال وبحر البلطيق.
Неизвестная страница