أجل كيف يوجد نظام قانون يقنع المصريين والإنكليز والفرنسويين والطليان والأتراك والسوريين واليهود واليونان وكثيرين غيرهم؟ وإذا فرضنا وجود مثل هذا النظام فمن يستطيع أن يقدم ذلك النظام للتصديق عليه وقبوله، ولو فرضنا زوال كل تلك العقبات، فإن إلغاء المحاكم القنصلية
2
يكون من المصائب الكبرى من الوجهة السياسية على مصر.
ولقد رأينا فيما مضى أن تنظيم المالية المصرية لم يسبب أتعابا وصعوبات كثيرة؛ لأن أغلب أوراق الديون المصرية كانت في أيدي الإنكليز والفرنسويين، وبهذا تحول الأمر إلى مسألة فرنسوية إنكليزية، ولكن مسألة القضاء تختلف كثيرا عن المسألة المالية فإن حقوق القضاء التي في يد كل دولة أجنبية يرجع أصلها إلى ما يسمى بالامتيازات، وهذه الامتيازات هي عبارة عن معاهدات معقودة بين كل دولة أجنبية وبين الدولة العلية التي لا تزال تعتبر صاحبة السيادة الحقيقية على مصر.
نقول وللأسف إن هذه المعاهدات لا تحتوي تفويضا تاما ممنوحا من قبل السلطان للدول في بعض الأعمال القضائية فقط؛ بل إنها أيضا مملوءة بجمل معقدة ومعاني ملتبسة ومحشوة بالألغاز السياسية التي تعجز الجن عن حلها، ومكتظة بالتلميحات والإشارات، ولكن على هذه المعاهدات يتوقف حل مسائل الشرق الأدنى، فإذا حاولت إنكلترا أن تمس تلك المعاهدات هبت الدول المختلفة في وجهها كما يهب النحل من خليته في وجه من يجني الشهد. وما أغنى إنكلترا عن تلك اللذعات إذا كانت لا تحتاج إلى الشهد؟ ولكن بدون إلغاء هذه الامتيازات لا يمكن حل عويصة القضاء المصري، ولو فرضنا أن هذه الامتيازات ألغيت ففي يد من توضع قوة القانون والقضاء؟ مع العلم بأن إنكلترا إذا طالبت بهذا الحق فإنها لا تلقي إلا مقاومة وإباء، ويرى القارئ مما تقدم أن المسألة القضائية أكثر تعقيدا من المسألة المالية، ولا يمكننا أن نفكر بأنها تحل بعقد مؤتمر دولي يجتمع فيه مندوبو الدول ويقررون بشأن القضاء المصري ما يريدون، فيسعى هذا المؤتمر لتوحيد القانون بأن يضع قانونا رسميا يطابق أغراض الجميع وينفذ على رعايا الجميع، ولكن عقد مثل هذا المؤتمر بعيد الحصول جدا لأنه لو اجتمع لاختلف أعضاؤه اختلافات شتى؛ لأن لكل طائفة دينا ولغة ومبادئ تخالف دين ولغة ومبادئ غيرها، ولا يغالي من يقول إن مثل هذا المؤتمر لا يوشك أن يجتمع حتى يفترق، على أننا لا نرى لهذه المسألة إلا حلا واحدا فقط، وهذا الحل هو أنه ينبغي لمصر أن تأخذ عدالتها في يدها، يجب عليها أن تسأل الدول أن يسمحن لها بالدخول في صفوفهن وأن يعددنها منهن لتستطيع أن تنفذ عدالتها بيدها. أليس من العجيب أن تبقى مصر كل هذا الزمن محرومة من الحقوق التي منحت لجمهورية سان دومنجو وجمهورية سان سلفادور، وكلتاهما حكومتان حقيرتان سادت فيهما الفوضى؟! أليست مصر قادرة على القيام بما تقوم به هاتان الحكومتان الصغيرتان اللتان يحكمهما العبيد؟!
هل ينكر علينا أحد أن أهل مصر تعلموا في مدارسهم المنتظمة التي تفوق بعض المدارس الأوروبية كل ما يتعلمه الغربيون في مدارسهم؟ فلماذا إذن يحرمون من التمتع بالحقوق المتمتع بها العبيد السود في جمهوريتهم الحقيرة؟ عندما كنا نبحث في المسائل المهمة التي نريد بعد البحث فيها الوصول إلى حكم على مستقبل مصر أغفلنا رأينا في مسألة من أهم المسائل التي يجب حلها قبل تغيير المركز السياسي في مصر، وقد نظرنا إلى المسائل المصرية التي بحثنا فيها بنظر السياسي إلى السياسة الأوروبية، وقد رأى القارئ كيف أن الدول جمعاء لا يهمها حل المسألة المصرية لأنهن رأين أن حلها لا يؤثر في مستقبلهن الحاضر مباشرة، على أننا لم نذكر شيئا واحدا عن المصريين الوطنيين أنفسهم، ونرجو أن لا يظن أحد أننا أغفلنا ذكرهم لعدم اهتمامنا بمستقبلهم.
وغني عن البيان أن أوروبا لا تعترف بحقوق المصريين ولا تنيلهم إياها إلا إذا علمت أن الاعتراف بتلك الحقوق وإعطاءها لأصحابها لا يضر بمصالحها ومنافعها، وقد أظهرنا للقارئ سياسيا أنه لا توجد دولة أوروبية تستفيد مباشرة من بقاء الحال على ما هي عليه في مصر، وأظهرنا أيضا أن إنكلترا لا تستفيد من احتلال نتيجته إخماد أنفاس استقلال مصر والمصريين، وذكرنا أيضا المصاعب والمتاعب والمشاق التي تصادف إنكلترا في مصر، ووصفنا العقبات التي تقف في طريقها وتنغص عليها سياستها، وتحرج عليها مركزها المقلقل في وادي النيل. وبرهنا على أن الجلاء لا يكون مناسبا لسياسة إنكلترا فقط؛ بل إنه يكون جديرا بشرفها ويقوي مركزها السياسي الذي أصبح ضعيفا مراعاة لمركزها الكاذب في مصر، وقد آن لنا أن نبحث في المسائل المالية المصرية التي تهم المصريين الوطنيين مباشرة، على أننا لم نغفل ذكر المصريين عند بحثنا في السياسة الدولية إلا لعلمنا بأنهم لا يؤثرون في هذه السياسة تأثيرا محسوسا، ولكننا في بحثنا في المالية المصرية نستطيع أن نذكر الوطنيين ونذكر منافعهم فيكون ذكرهم بفائدة لهم. وأول ما نبتدئ بالبحث فيه هو صندوق الدين، ولكن القارئ بلا ريب يعلم أنه بعد التغييرات التي تمت بناء على الاتفاقية الأخيرة بين إنكلترا وفرنسا أصبح حال صندوق الدين مخالفة بالمرة لما كانت عليه منذ أشهر قليلة، وأحسن ما يمكننا أن نشرح به هذا التغيير هو أن نستشهد بكلام المركيز لانسدون - وزير خارجية - إنكلترا في كتاب بعث به إلى سفير إنكلترا في باريس ملحقا باتفاقية 8 أبريل سنة 1904؛ قال بعد أن ذكر الأعمال التي قامت بها إنكلترا في مصر:
ورغما عن تلك الأعمال التي غيرت السياسة الدولية في مصر بسرعة فإن نظام المالية والإدارة السائد ليس إلا أثار نظام طال عليه القدم.
دع ما فيه من الارتباك والاضطراب والخلل، وهذا النظام مبني على قانون التصفية (1880) ومعاهدة لندن (1885)، وناهيك بشرط هذا القانون وتلك المعاهدة وما فيهما من التعقيد والالتباس، وإنا نرى أن تلك القوانين في عهد الإصلاح الحديث تضر أكثر مما تنفع وتعطل إنماء ثروة البلاد بدل أن تساعد، وكثيرا ما ذكر اللورد كرومر الارتباكات والمتاعب بل الخسارة المالية التي تعود على مصر من هذا النظام في تقاريره السنوية، وما أحسن وصف هذا النظام بقلم اللورد ملنر في كتابه العظيم عن مصر، فإنه يقول:
إنه من المضحك المبكي أن يرى الإنسان خزائن مصر مملوءة بالذهب والبلاد محرومة من أن تمد يدها إليه لتستعمله فيما يضيف إلى ثروتها وأرباحها، وكل سنة تزيدنا علما بأنه من الظلم بقاء ذلك الضغط على الحرية المالية في مصر، فإننا إذا فهمنا سبب ذلك الضغط في الزمن الغابر زمن إملاق الحكومة المصرية وإفلاسها، فإننا لا نفهمه في الأيام الحاضرة التي أصبح سداد الديون المصرية فيها مضمونا. إنا لا نعارض في بقاء النظام الذي بمقتضاه يدفع بعض الدخل إلى صندوق الدين مباشرة؛ وحيث إن ما يدفع بهذه الطريقة يكفي لتغطية أرباح الدين ويكفي لدفع المال الذي تراه الدول كافيا لاستهلاك الدين؛ فيجب أن تمنح الدول الحكومة المصرية حق التصرف فيما بقي كما تشاء، ويجب إلغاء قانون «المصروفات المصرح بها والمصروفات غير المصرح بها»، وأرى أن مصر في حاجة ماسة جدا إلى هذا الإصلاح، فإنها بلاه لا تستطيع أن تستفيد من إصلاح ماليتها التي لم تصلح إلا بعد مشاق شديدة. ا.ه. (كلام ملنر).
Неизвестная страница