(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
١ - (١ / أ) الْحَمد لله على نعمه الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة، وآلائه الوافية الوافرة، وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد الْمَبْعُوث بِالْآيَاتِ الباهرة وَالْأَحْكَام الزاهرة، صَلَاة وَسلَامًا دائمين بدوام الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَبعد ... . .
فأحق من أهديت إِلَيْهِ أَنْوَاع الحكم والعلوم، وَوَجَبَت لَهُ النَّصِيحَة على الْخُصُوص والعموم: من ولاه الله أُمُور الْإِسْلَام، فنظم أَحْكَامه على أوفق مُرَاد، وَأحسن نظام، وسعى السَّعْي الْجَمِيل فِي مصَالح رَعيته، وشكر نعم الله تَعَالَى عَلَيْهِ فِي سَرِيرَته وعلانيته.
٢ - وَهَذَا مُخْتَصر فِي جمل (١ / ب) من الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة، ونبذ من الْقَوَاعِد الإسلامية، وَذكر أَمْوَال بَيت المَال وجهاته، وَمَا يَصح من عطائه وإقطاعاته، وَمَا يسْتَحقّهُ المرصدون للغزو وَالْجهَاد، وَذكر أكَابِر الْأُمَرَاء والأجناد، وآلات الْقِتَال من السِّلَاح والأعتاد، وَكَيْفِيَّة الْقِتَال، وَمن الْمُخَاطب من أَهله، وتفصيل أَمْوَال الْفَيْء والغنائم وأقسامها، وَمَا يخْتَص بهَا من تَفْصِيل أَحْكَامهَا، وَذكر هدنة الْمُشْركين، وَأَحْكَام أهل الذِّمَّة والمستأمنين.
1 / 45
٣ - واستندت فِيهِ إِلَى السّنَن والْآثَار، وأقوال عُلَمَاء الْأَمْصَار، فَهُوَ سهل المطالعة لتقرير فهمه، قريب الْمُرَاجَعَة لصِغَر حجمه، وقصدت فِيهِ غَايَة الِاخْتِصَار مَخَافَة الْملَل من الْإِكْثَار، والمرجو من الله تَعَالَى قبُول حسن مقاصده وَحُصُول النَّفْع بفوائده، إِنَّه أكْرم مسؤول (٢ / أ)، وَخير مأمول.
وَقد سميته بِمَا يشْعر بِمَعْنَاهُ، ويسفر عَن مُقْتَضَاهُ وَهُوَ " تَحْرِير الْأَحْكَام فِي تَدْبِير أهل الْإِسْلَام ".
ورتبته على أَبْوَاب تجمع مَقْصُود الْكتاب:
الْبَاب الأول: فِي وجوب الْإِمَامَة، وشروط الإِمَام وَأَحْكَامه.
الْبَاب الثَّانِي: فِيمَا للْإِمَام وَالسُّلْطَان وَمَا عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ مفوض إِلَيْهِ.
الْبَاب الثَّالِث: فِي تَقْلِيد الوزراء وَمَا يحملونه من الأعباء.
الْبَاب الرَّابِع: فِي اتِّخَاذ الامراء عدَّة لجهاد الْأَعْدَاء.
الْبَاب الْخَامِس: فِي حفظ الأوضاع الشَّرْعِيَّة وقواعد مناصبها المرضية.
الْبَاب السَّادِس: (٢ / ب) فِي اتِّخَاذ الأجناد والأعتاد لقيامهم بفريضة الْجِهَاد.
1 / 46
الْبَاب السَّابِع: فِي عَطاء السُّلْطَان وجهاته، وأنواع إقطاعاته.
الْبَاب الثَّامِن: فِي تَقْدِير عَطاء الأجناد وَمَا يسْتَحقّهُ أهل الْجِهَاد.
الْبَاب التَّاسِع: فِي اتِّخَاذ الْخَيل وَالسِّلَاح والأعتاد للقائمين بِفَرْض الْجِهَاد.
الْبَاب الْعَاشِر: فِي وضع الدِّيوَان، وأقسام ديوَان السُّلْطَان.
الْبَاب الْحَادِي عشر: فِي فضل الْجِهَاد ومقدماته، وَمن يتأهل لَهُ من حماته.
الْبَاب الثَّانِي عشر: فِي كَيْفيَّة الْجِهَاد والقتال وَالصَّبْر على مكافحة الْأَبْطَال.
(٣ / أ) الْبَاب الثَّالِث عشر: فِي الْغَنِيمَة وأقسامها وتفاصيل أَحْكَامهَا.
الْبَاب الرَّابِع عشر: فِي قسْمَة الْغَنِيمَة ومستحقيها وَمَا يجب على الْحُكَّام فِيهَا.
الْبَاب الْخَامِس عشر: فِي الْهُدْنَة والأمان وَأَحْكَام الاستئمان.
الْبَاب السَّادِس عشر: فِي قتال أهل الْبَغي من أهل الْإِسْلَام.
الْبَاب السَّابِع عشر: فِي عقد الذِّمَّة وَأَحْكَامه وَمَا يجب الْتِزَامه.
1 / 47
(الْبَاب الأول)
(فِي وجوب الْإِمَامَة وشروط الإِمَام وَأَحْكَامه)
٤ - قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله﴾ (٣ / ب) .
وَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿الَّذين إِن مكناهم فِي الأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر وَللَّه عَاقِبَة الْأُمُور﴾ .
ضمن سُبْحَانَهُ نصْرَة الْمُلُوك بِهَذِهِ الشُّرُوط الْأَرْبَعَة، فَإِذا قَامُوا بِهَذِهِ الشُّرُوط تحقق لَهُم النَّصْر الْمَشْرُوط.
٥ - وَيجب نصب إِمَام بحراسة الدّين، وسياسة أُمُور الْمُسلمين، وكف أَيدي الْمُعْتَدِينَ، وإنصاف المظلومين من الظَّالِمين، وَيَأْخُذ الْحُقُوق من مواقعها، ويضعها جمعا وصرفًا فِي موَاضعهَا، فَإِن بذلك صَلَاح الْبِلَاد وَأمن الْعباد، وَقطع مواد الْفساد، لِأَن الْخلق لَا تصلح أَحْوَالهم إِلَّا بسُلْطَان يقوم بسياستهم، ويتجرد لحراستهم؛ وَلذَلِك قَالَ بعض
1 / 48
الْحُكَمَاء: جور (٤ / أ) السُّلْطَان أَرْبَعِينَ سنة خير من رعية مُهْملَة سَاعَة وَاحِدَة.
وَنقل الطرطوشي. ﵀ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض﴾ قيل فِي مَعْنَاهُ: لَوْلَا أَن الله تَعَالَى أَقَامَ السُّلْطَان فِي الأَرْض يدْفع الْقوي عَن الضَّعِيف، وينصف الْمَظْلُوم من ظالمه؛ لتواثب النَّاس بَعضهم على بعض، ثمَّ امتن الله تَعَالَى على عباده بِإِقَامَة السُّلْطَان لَهُم بقوله تَعَالَى: ﴿وَلَكِن الله ذُو فضل على الْعَالمين﴾ .
1 / 49
وَرُوِيَ فِي الحَدِيث: " السُّلْطَان ظلّ الله فِي الأَرْض يأوي إِلَيْهِ كل مظلوم من عباده، فَإِذا عدل كَانَ لَهُ الْأجر وعَلى الرّعية الشُّكْر، وَإِن جَار كَانَ عَلَيْهِ الإصر وعَلى الرّعية الصَّبْر ".
وَعَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِمَام عَادل خير من مطر وابل. وَذَلِكَ لِأَن النَّاس على دين الْملك، فَإِذا عدل لَزِمت الرّعية الْعدْل وقوانينه، (٤ / ب) فانتعش الْحق، وتناصف النَّاس، وَذهب الْجور، فترسل السَّمَاء بركاتها، وَتخرج الأَرْض نباتها، وتكثر الْخيرَات وتنمو التِّجَارَات.
وَقيل: لَيْسَ فَوق رُتْبَة السُّلْطَان الْعَادِل رُتْبَة إِلَّا نَبِي مُرْسل أَو ملك مقرب. وَعَن أَحْمد بن حَنْبَل ﵁: لَو كَانَت لي دَعْوَة
1 / 50
مستجابة لَدَعَوْت بهَا إِلَى السُّلْطَان، لِأَن فِي صَلَاحه صَلَاح الْبِلَاد والعباد، وَفِي فَسَاده فسادهما.
وَقيل: السُّلْطَان من الرّعية كالروح من الْجَسَد، فَإِن استقام مزاجها استقام مزاج جَمِيع أَعْضَائِهِ وحواسه، وَإِن فَسدتْ فسد مزاج الْأَعْضَاء بفسادها، وتعطلت أَحْوَال الْجَسَد.
فصل (١)
٦ - الْإِمَامَة ضَرْبَان: اختيارية وقهرية:
٧ - أما الاختيارية: فلأهليتها عشر شُرُوط وَهِي: أَن يكون الإِمَام ذكرا، حرا، بَالغا، عَاقِلا، مُسلما، عدلا، شجاعًا، قرشيًا، عَالما، كَافِيا (٥ / أ) لما يَتَوَلَّاهُ من سياسة الْأمة ومصالحها،
1 / 51
فَمَتَى عقدت الْبيعَة لمن هَذِه صفته - وَلم يكن ثمَّة إِمَام غَيره انْعَقَدت بيعَته وإمامته؛ ولزمت فِي غير مَعْصِيّة الله طَاعَته.
قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم﴾
فقرن طَاعَة ولي الْأَمر بِطَاعَتِهِ وَطَاعَة رَسُوله، واطلق الْأَمر بطاعتهم وَلم يسْتَثْن مِنْهُ شَيْء إِلَّا الْمعْصِيَة، فَدلَّ ذَلِك على أَن مخالفتهم فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَة مَعْصِيّة، وعَلى هَذَا يحمل مَا ورد من تعزيرات عمر ﵁ مِمَّن خَالف أمره فِي غير مَعْصِيّة.
فصل (٢)
٨ - وتنعقد الْإِمَامَة الاختيارية: بطريقتين.
والقهرية: بطرِيق ثَالِث.
٩ - الطَّرِيق الأول فِي الاختيارية: بيعَة أهل العقد والحل: من الْأُمَرَاء وَالْعُلَمَاء، والرؤساء، ووجوه النَّاس
1 / 52
الَّذِي يَتَيَسَّر حضورهم بِبَلَد الإِمَام (٥ / ب) عِنْد الْبيعَة، كبيعة أبي بكر ﵁ يَوْم السَّقِيفَة.
وَلَا يشْتَرط فِي أهل الْبيعَة عدد مَخْصُوص، بل من تيَسّر حُضُوره عِنْد عقدهَا، وَلَا تتَوَقَّف صِحَّتهَا على مبايعة أهل الْأَمْصَار، بل مَتى بَلغهُمْ لَزِمَهُم الْمُوَافقَة إِذا كَانَ الْمَعْقُود لَهُ أَهلا لَهَا.
١٠ - الطَّرِيق الثَّانِي:
اسْتِخْلَاف الإِمَام الَّذِي قبله: كَمَا اسْتخْلف أَبُو بكر ﵄، وَأَجْمعُوا على صِحَّته.
فَإِن جعل الإِمَام الْأَمر بعده شُورَى فِي جمَاعَة صَحَّ أَيْضا، ويتفقون على وَاحِد مِنْهُم، كَمَا فعل عمر ﵁ بِأَهْل الشورى من الْعشْرَة، وَكَانُوا سِتَّة: عُثْمَان، وَعلي، وَطَلْحَة،
1 / 53
وَالزُّبَيْر، وَسعد، وَعبد الرَّحْمَن، وَاتَّفَقُوا على عُثْمَان، وَلَو عهد بِالْإِمَامَةِ إِلَى فلَان وَبعده إِلَى فلَان صَحَّ أَيْضا، وَكَانَت الْخلَافَة بعده على
1 / 54
مَا رتبه، كَمَا فعل (٦ / أ) النَّبِي [ﷺ] فِي أُمَرَاء غَزْوَة مؤته.
وَيشْتَرط فِي الْخَلِيفَة الْمُسْتَخْلف والمستخلف بعده: أَن يَكُونَا قد جمعا شُرُوط الْإِمَامَة، وَأَن يقبل ولي الْعَهْد ذَلِك بعد الْعَهْد، وَقبل موت الْمُسْتَخْلف لَهُ، فَإِن رده لم تَنْعَقِد الْبيعَة.
١١ - وَأما الطَّرِيق الثَّالِث،
الَّذِي تَنْعَقِد بِهِ الْبيعَة القهرية: فَهُوَ قهر صَاحب الشَّوْكَة، فَإِذا خلا الْوَقْت عَن إِمَام فتصدى لَهَا من هُوَ من أَهلهَا، وقهر النَّاس بشوكته وَجُنُوده بِغَيْر بيعَة أَو اسْتِخْلَاف، انْعَقَدت بيعَته، ولزمت طَاعَته، لينتظم شَمل الْمُسلمين وتجتمع كلمتهم.
وَلَا يقْدَح فِي ذَلِك كَونه جَاهِلا أَو فَاسِقًا فِي الْأَصَح.
وَإِذا انْعَقَدت الْإِمَامَة بِالشَّوْكَةِ وَالْغَلَبَة لوَاحِد ثمَّ قَامَ آخر فقهر الأول بشوكته وَجُنُوده، انْعَزل الأول وَصَارَ الثَّانِي إِمَامًا، لما قدمْنَاهُ (٦ / ب)
1 / 55
من مصلحَة الْمُسلمين وَجمع كلمتهم، وَلذَلِك قَالَ ابْن عمر فِي أَيَّام الْحرَّة: نَحن مَعَ من غلب.
فصل (٣)
١٢ - لَو كَانَت شُرُوط الْخلَافَة فِي جمَاعَة صَالِحَة لَهَا، قدم أهل الْحل وَالْعقد أَصْلحهم للْمُسلمين.
فَإِن عقدت للمفضول جَازَ عِنْد أَكثر الْعلمَاء.
وَلَو كَانَ أحدهم أعلم مثلا وَالْآخر أَشْجَع مثلا: فَالْأولى أَن يقدم مِنْهُمَا من يَقْتَضِيهِ حَال الْوَقْت؛ فَإِن كَانَ عِنْد ظُهُور الْعَدو وخوفه وخلل الثغور، فالأشجع أولى من الأعلم.
وَإِن كَانَ عِنْد ظُهُور الْبدع وَقلة الْعلم مَعَ الْأَمْن من الْعَدو وظهوره، فالأعلم أولى.
١٣ - وَلَا يجوز عقد الْإِمَامَة لاثْنَيْنِ، لَا فِي بلد وَاحِد وَلَا فِي بلدين، وَلَا فِي إقليم وَاحِد وَلَا فِي إقليمين، فَإِن عقد لاثْنَيْنِ فِي وَقت وَاحِد بطلت الْبيعَة وتستأنف لأَحَدهمَا أَو لغَيْرِهِمَا، وَإِن كَانَا فِي وَقْتَيْنِ مَعَ بَقَاء الأول، فالبيعة الثَّانِيَة (٧ / أ) بَاطِلَة حَيْثُ كَانَت.
1 / 56
وَإِن جهل السَّابِق مِنْهُمَا استؤنفت الْبيعَة لأَحَدهمَا أَو لغَيْرِهِمَا.
فصل (٤)
١٤ - وَصفَة الْبيعَة أَن يُقَال: " بايعناك راضين على إِقَامَة الْعدْل وَالْقِيَام بفروض الْإِمَامَة على كتاب الله وَسنة رَسُوله [ﷺ] ". وَلَا تفْتَقر إِلَى الصفق بِالْيَدِ بل يَكْفِي فِيهِ القَوْل.
١٥ - وَمن عقدت لَهُ الْبيعَة جَازَ أَن يُسمى " خَليفَة " وَأَن يُقَال خَليفَة رَسُول الله [ﷺ]، لِأَنَّهُ خَليفَة فِي أمته، وَالأَصَح: أَن لَا يُقَال خَليفَة الله، وَلذَلِك عِنْدَمَا قيل لأبي بكر ﵁: " يَا خَليفَة الله ". قَالَ: لست خَليفَة الله، وَلَكِنِّي خَليفَة رَسُول الله [ﷺ] .
1 / 57
الْبَاب الثَّانِي
فِيمَا للخليفة وَالسُّلْطَان وَمَا عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ مفوض إِلَيْهِ
١٦ - لإِمَام الْمُسلمين أَن يُفَوض ولَايَة كل أقليم أَو بلد أَو نَاحيَة أَو عمل إِلَى كفؤٍ للنَّظَر (٧ / ب) الْعَام فِيهِ، لِأَن الْحَاجة تَدْعُو إِلَى ذَلِك لاسيما فِي الْبِلَاد الْبَعِيدَة، كَمَا ولى رَسُول الله [ﷺ] عتاب بن أسيد مَكَّة، وَولى أَبُو بكر ﵁ خَالِد بن الْوَلِيد على الشَّام، وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ ﵁ على الطَّائِف،
1 / 58
وَأَبا مُوسَى ﵁ على زبيد. وَولى عمر ﵁ أَبَا عُبَيْدَة على الشَّام، وَأَبا مُوسَى على الْبَصْرَة، وعمار بن يَاسر على الْكُوفَة، وَعَمْرو بن الْعَاصِ على مصر. وَلم يزل ذَلِك عَادَة الْخُلَفَاء لِأَن الْحَاجة تَدْعُو إِلَيْهِ.
1 / 59
فصل (١)
١٧ - إِذا فوض الْخَلِيفَة إِلَى رجل ولَايَة إقليم أَو بلد أَو عمل، فَإِن كَانَ تفويضًا خَاصّا بِعَمَل خَاص: لم يكن لَهُ الْولَايَة فِي غَيره، كَمَا إِذا ولاه الْجَيْش دون الْأَمْوَال أَو الْأَمْوَال دون الْأَحْكَام وَنَحْو ذَلِك.
١٨ - وَإِن كَانَ تفويضًا عَاما - كعرف الْمُلُوك والسلاطين فِي زَمَاننَا - جَازَ لَهُ تَقْلِيد الْقُضَاة (٨ / أ) والولاة، وتدبير الجيوش، وَاسْتِيفَاء الْأَمْوَال من جَمِيع جهاتها، وصرفها فِي مصارفها، وقتال الْمُشْركين والمحاربين. وَلَا ينظر فِي غير الإقليم الْمُفَوض إِلَيْهِ، لِأَن ولَايَته خَاصَّة.
١٩ - وَيعْتَبر فِي السُّلْطَان الْمُتَوَلِي من جِهَة الْخَلِيفَة مَا يعْتَبر فِيهِ خلا النّسَب لِأَنَّهُ قَائِم مقَامه.
1 / 60
فصل (٢)
٢٠ - إِذا استولى ملك بِالْقُوَّةِ والقهر والشوكة على بِلَاد، فَيَنْبَغِي للخليفة أَن يُفَوض أمورها إِلَيْهِ استدعاء لطاعته، ودفعا لمشاققته وخوفًا من اخْتِلَاف الْكَلِمَة، وشق عَصا الْأمة، فَيصير بذلك التَّفْوِيض صَحِيح الْولَايَة، نَافِذ الْأَحْكَام.
فَإِن لم يكن أَهلا لذَلِك لفقد الصِّفَات الْمُعْتَبرَة جَازَ للخليفة إِظْهَار تَقْلِيده لما ذَكرْنَاهُ من الْمصَالح. وَيَنْبَغِي أَن يعين لَهُ نَائِبا أَهلا لتقليد الْولَايَة، ينفذ الْأُمُور لتَكون صِفَات (٨ / ب) النَّائِب جَائِزَة لما فَاتَ من صِفَات المستولي قهرا، فتنتظم الْمصَالح الدِّينِيَّة والدنيوية.
فصل (٣)
٢٢ - للسُّلْطَان والخليفة على الْأمة عشرَة حُقُوق، وَلَهُم عَلَيْهِ عشرَة حُقُوق.
٢٣ - أما حُقُوق السُّلْطَان الْعشْرَة:
فَالْحق الأول:
بذل الطَّاعَة لَهُ ظَاهرا وَبَاطنا، فِي كل مَا يَأْمر بِهِ أَو ينْهَى عَنهُ، إِلَّا أَن
1 / 61
يكون مَعْصِيّة؛ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم﴾ .
وأولو الْأَمر هم: الإِمَام ونوابه عِنْد الْأَكْثَرين. وَقيل: هم الْعلمَاء. وَقَالَ النَّبِي [ﷺ]: " السّمع وَالطَّاعَة على الْمُسلم فِيمَا أحب أَو كره مَا لم يُؤمر بِمَعْصِيَة ". فقد أوجب الله تَعَالَى وَرَسُوله: طَاعَة ولي الْأَمر، وَلم يستثنِ مِنْهُ سوى الْمعْصِيَة، فَبَقيَ مَا عداهُ على الِامْتِثَال.
الْحق الثَّانِي: بذل النَّصِيحَة لَهُ سرا وَعَلَانِيَة. قَالَ رَسُول الله [ﷺ]: " الدّين النَّصِيحَة " قَالُوا: لمن؟ (٩ / أ) " قَالَ لله، وَلِرَسُولِهِ، ولأئمة الْمُسلمين، وعامتهم ".
1 / 62
الْحق الثَّالِث:
الْقيام بنصرتهم بَاطِنا وظاهرًا ببذل المجهود فِي ذَلِك لما فِيهِ نصر الْمُسلمين وَإِقَامَة حُرْمَة الدّين، وكف أَيدي الْمُعْتَدِينَ.
الْحق الرَّابِع: أَن يعرف لَهُ عَظِيم حَقه، وَمَا يجب من تَعْظِيم قدره، فيعامل بِمَا يجب لَهُ من الاحترام وَالْإِكْرَام، وَمَا جعل الله تَعَالَى لَهُ من الإعظام، وَلذَلِك كَانَ الْعلمَاء الْأَعْلَام من أَئِمَّة الْإِسْلَام يعظمون حرمتهم، ويلبون دعوتهم مَعَ زهدهم وورعهم وَعدم الطمع فِيمَا لديهم، وَمَا يَفْعَله بعض المنتسبين إِلَى الزّهْد من قلَّة الْأَدَب مَعَهم، فَلَيْسَ من السّنة.
الْحق الْخَامِس: إيقاظه عِنْد غفلته، وإرشاده عِنْد هفوته، شَفَقَة عَلَيْهِ، وحفظًا لدينِهِ وَعرضه، وصيانةً لما جعله الله إِلَيْهِ من (٩ / ب) الْخَطَأ فِيهِ.
الْحق السَّادِس:
تحذيره من عَدو يَقْصِدهُ بِسوء، وحاسد يرومه بأذى، أَو خارجي يخَاف عَلَيْهِ مِنْهُ، وَمن كل شَيْء يخَاف عَلَيْهِ مِنْهُ على اخْتِلَاف أَنْوَاع ذَلِك وأجناسه، فَإِن ذَلِك من آكِد حُقُوقه وأوجبها.
1 / 63
الْحق السَّابِع:
إِعْلَامه بسيرة عماله: الَّذين هُوَ مطَالب بهم، ومشغول الذِّمَّة بسببهم لينْظر لنَفسِهِ فِي خلاص ذمَّته، وللأمة فِي مصَالح ملكه ورعيته.
الْحق الثَّامِن: إعانته على مَا تحمله من أعباء الْأمة ومساعدته على ذَلِك بِقدر المكنة، قَالَ الله تَعَالَى ﴿وتعانوا على الْبر وَالتَّقوى﴾ وأحق من أعين على ذَلِك وُلَاة الْأُمُور.
الْحق التَّاسِع:
رد الْقُلُوب النافرة عَنهُ إِلَيْهِ، وَجمع محبَّة النَّاس عَلَيْهِ؛ لما فِي ذَلِك من مصَالح الْأمة وانتظام أُمُور الْملَّة.
الْحق الْعَاشِر:
الذب عَنهُ بالْقَوْل وَالْفِعْل، وبالمال وَالنَّفس والأهل فِي الظَّاهِر (١٠ / أ) وَالْبَاطِن، والسر وَالْعَلَانِيَة. وَإِذا وفت الرّعية بِهَذِهِ الْحُقُوق الْعشْرَة الْوَاجِبَة، وأحسنت الْقيام بمجامعها والمراعاة لموقعها، صفت الْقُلُوب، وأخلصت، وَاجْتمعت الْكَلِمَة وانتصرت.
1 / 64