أن لا يكتموا شيئًا يرون منه صلاحًا ونصحًا؛ لأن الكذب هو علة انقلاب الحقائق وموجب ارتفاع الاطمئنان؛ وذلك يسبب التخاذل والتفريق فللا يرجى اتحاد ما دام هذا سائدًا في أمة.
«قوله: إن الأرض لا تقدس أحدًا» هو رد لما تضمنه كلام أبي الدرداء حين دعاه إلى سكني الأرض المقدسة؛ لأن الصفة تؤذن بالتعليل فيتضمن انه يكتسب من السكنى بها تقديسًا في نفسه، وقصد سلمان أن يدفع ما وقر في صدور الناس من الشعور بأن المرء قد تغني عنه ملابساته حتى الأرض التي هو فيها، وأبو الدرداء وإن كان منزهًا في نظر سلمان عن اعتقاد هذا لعلمه وصحبته ولكنه رأى لسانه جرى على ما تجري به ألسنة العموم أو أنه رام ترغيبه في القرب منه بمرغَّب ما، وهو فضل الأرض التي يسكنها استكمالًا للفضيلة.
«وإنما يقدس الإنسان عمله» جاء بقضية كلية بعد أن نفى التقديس في جزئية؛ لأن تلك الجزئية المنفية ليست أولى الجزئيات بثبوت الحكم بحيث إن نُفِيَ عنها اقتنع المتكلم عن نفي ما عداها من الجزئيات، ما الشبهة فيه أشد والخطأ إليه أسرع نحو قرابة من المقدس أو صلة به، فأورد هذا الحصر بإنما تنبيهًا على تعميم القضية، فقصر بذلك صفة تقديس الإنسان على العمل لا تتجاوزه إلى غيره وهو قصر حقيقي، وليس ورود القصر بعد النفي بجاعله إضافيًّا؛ لأن النفي إنما يلمح إلى الاعتقاد المردود الباعث على سلوك طريق القصر، على أن النفي هنا متقدم وهو عند التقديم صريح في أنه الداعي إلى الخطاب بالقصر يفيد ووزانه وزان «إنما الولاء لمن أعتق» بعد كلام أشار إلى أن البائع لا يستحقه؛ ولذا اتفق جمهور الفقهاء على أن لا ولاء إلا لمن أعتق.
«وقد بلغني أنك جعلت طبيبًا تداوي» أشار إلى ولاية أبي الدرداء قضاء بلد القدس، ومراد سلمان ظاهر؛ إذ قد علم أبو الدرداء أنه لم يكن طبيبًا فهو يعلم أن سلمان أراد تمثيل حاله في القضاء بحال الطبيب أو المتطبب، وسمي القاضي طبيبًا على طريقة الاستعارة لمشابهة القاضي الطبيب في إصلاح حال البشر وإزالة أدواء الظلم، فإن كان الطب يصلح مزاج المرضى، فالقضاء بالحق يصلح مزاج العالم أجمع، كما قال الله تعالى ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: ٣٢]؛ لأن الناس إن اطرد بينهم القضاء بالحق زالت طماعيتهم في استلاب
1 / 67