إلا من جرَّاء التلقي الضال والتعود الذميم، وقد قال النبي ﷺ: «يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»، روى مسلم في صحيحه عن عياض المجاشعي أن النبي ﷺ قال فيما يرويه عن ربه: «وأني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا» لهذا كان قوله: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠]، مقررًا لكون هذا الدين فطرة الله، أي: لا تبديل في أحكامه لما خلق الله الناس عليه.
وقد حصل من مجموع هذه الوصاة والصفات التي تضمنتها الآية إيذان بفضل هذا الدين ومزيته على سائر الأديان الحقة الماضية بطريقة الكناية العرضية، فكان من مزيد العناية بتشريفه إفادة هذا التفضيل بصريح المقال، فذَيَّل الكلام بقوله: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [الروم: ٣٠].
فلاسم الإشارة وقعه البليغ من الإشعار بتعظيم المشار إليه؛ إذ جعل بمرتبة البعيد بُعد رقعة وعلو على حد ﴿ذَلِكَ الدِّينُ﴾ [الروم: ٣٠]، والمعنى: هو الدين القيم.
والقيم: وصف على صيغة فَيْعل وهي أشد مبالغة من صيغة فَعَّل، مثل: هين وليَّن، فيفيد قوة معنى الوصف فيه وهو القيام، أعني القيام المجازي الذي هو ضد الاعوجاج يقال: عود مستقيم وقيم، فوصف الدين بالقيم هنا استعارة بتشبيه الدين بالعود المستقيم في انتفاء العيب عنه والخطأ تشبيهًا للمعنى المعقول بالشيء المحسوس.
وموقع الاستدراك بـ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٣]، تبيين أن إعراض أكثر الناس عن هذا الدين ليس لكون الأديان الأخرى أرجح منه في صلاح الناس ولأجل شدة أو إرهاق في تشريعاته؛ بل لأن المعرضين عنه لا علم عندهم، فأزال هذا الاستدراك ما قد يتوهمه من تَغرُّه كثرة المنصرفين عنه فيخالهم انصرفوا عنه على بصيرة في أحواله وتدبر في مراميه.
والمراد بأكثر الناس: المشركون وغيرهم ممن يدعون إلى الإسلام فيعرضون عن قبوله.
وفعل ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾، منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول، ولا يُطلب دليل على تقدير مفعوله فإذن يكون مفاد نفي العلم عنهم أنهم فاقدون العلم؛ فلذلك لم تبلغ
1 / 39