تفريغًا عما قبلها فتفيد التعليل ولا تفيد الاهتمام ولا تصلح الجملة حينئذٍ لأن تكون مقدمة لما بعدها، هذا وجه إفادة شرف الكعبة على وجه الإجمال وسنجيئك بتفصيله من بعد بيان معنى الآية.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ﴾ الأول اسم يدل على السابق في حال من الأحوال، فإذا أطلق فهو الأول المطلق؛ وذلك كما في اسمه تعالى (الأول) وإذا أضيف إلى اسم جنس ظاهر أو مقدر فهو الأول في ذلك الجنس؛ كقوله تعالى: ﴿مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾، وقول الفرزدق:
ومهلهل الشعراء ذاك الأول
أي: أول الشعراء، وقد يطلق الأول ويراد به السابق في الفضل والكمال في أحوال ما أضيف إليه كقوله ﷺ: «نحن الأولون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا»، والأولية عند العرب من شعار التفضيل فيما يتنافس فيه المتنافسون كما قال حسان في رثاء أبي بكر الصديق:
أول الناس حقًّا صدق الرسلا
ومن ذلك إطلاق العتيق عندهم على الشريف؛ إذ العتيق عندهم في الحقيقة هو القديم، والقديم شيء أول، وقد فسر به قوله تعالى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٩]، والبيت محتجر من الأرض بحجارة أو بنسيج من ثياب الشعر يتخذ للإيواء والسكني، فإن كان من أدم فهو القبة، وقد يطلق البيت على المسجد بتقدير: أنه بيت الله أو بيت الصلاة، قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [النور: ٣٦]، وقال حكاية عن إبراهيم ﵇: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: ٣٧]، وسموا المسجد الأقصى بيت المقدس.
ومعنى ﴿وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾: أقيم واتخذ، وأصل الوضع في كلام العرب ضد الرفع، يقولون: وضعت لك الشيء في محل كذا، أي: قربته لك وهيأته، ثم استعمل بمعنى مطلق الجهل والإقامة، والناس: اسم جمع لطائفة من البشر لا واحد له من لفظه في كلام العرب، فإذا دخل عليه حرف التعريف دل غالبًا على الاستغراق الحقيقي نحو: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس: ١]، ويكون التعريف فيه للعهد أيضًا نحو قول الخطيب: أيها الناس، يعني: سامعيه، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٣]، يعني: قريشًا.
1 / 24