بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرشد إلى الصراط المستقيم ومدح الخلق العظيم وأرسل نبيه محمد متمما لمكارم الأخلاق وأدبه فأحسن تأديبه على الإطلاق.
اللهم إنا نتوجه إليك ونسعى نحوك ونجاهد نفوسنا في طاعتك ونركب الصراط المستقيم الذي نهجته لنا إلى مرضاتك فاعن بقوتك واهدنا بعزتك واعصمنا بقدرتك وبلغنا الدرجة العلي برحمتك والسعادة القصوى بجودك ورأفتك إنك على ما تشاء قدير.
قال أحمد بن محمد بن مسكويه غرضنا في هذا الكتاب أن نحصل لأنفسنا خلقا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة فيها ولا مشقة ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي والطريق في ذلك أن نعرف أولا نفوسنا ماهي وأي شيء ولأي شيء أوجدت فينا، أعني كمالها وغايتها وما قواها وملكاتها التي إذا استعملناها على ما ينبغي بلغنا بها هذه الرتبة العلية وما الأشياء العائقة لناعنها وما الذي يزكيها فتفلح وما الذي يدسيها فتخيب فإن الله عز من قائل يقول: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاسب من دساها.
1 / 9
ولما كان لكل صناعة مباد عليها تبتني وبها تحصل وكانت تلك المبادى مأخوذة من صناعة أخرى وليس في شيء من هذه الصناعات أن تبين مبادى أنفسنا كان لنا عذر واضح في ذكر مبادىء هذه الصناعة على طريق الإجمال والإشارة بالقول الوجيز وأن لم يكن مما قصدنا له واتباعها بعد ذلك بما توخيناه من إصابة الخلق الشريف الذي يشرف شرفا ذاتيا حقيقيا لا على طريق العرض الذي لا ثبات له ولا حقيقة أعني المكتب بالمال والمكاثرة أو السلطان والمغالبة أو الإصطلاح والمواضعة فنقول وبالله التوفيق لوا نبين به إن فينا شيئا ليس بجسم ولا بجزء من جسمب ولا عرض ولا محتاج في وجوده إلى قوة جسيمة بل هو جوهر بسيط غير محسوس بشيء من الحواس ثم نبين ما مقصودنا منه الذي خلقنا له وندبنا إليه فنقول:
1 / 10
تعريف النفس
إنّا لما وجدنا في الإنسان شياما يضاد أفعال الأجسام وأجزاء الأجسام بحده وخواصه وله أيضا أفعال تضاد أفعال الجسمب وخواصه حتى لا يشاركه في حال من الأحوال وكذلك نجده يباين الأعراض ويضادها كلها غاية المباينة ثم وجدنا هذه المباينة المضادة منه للأجسام والأعراض إنما هي من حيث كانت الأجسام أجساما والأعراض أعراضا حكمنا بأن هذا الشيء ليس بجسم ولا جزء من جسم ولا عرضا وذلك إنه لا يستحيل ولا يتغير وأيضا فإنه يدرك جميع الأشياء بالسوية ولا يلحقه فتور ولا كلال ولانقص ﴿وبيان ذلك﴾ إن كل جسم له صورة ما فإنه ليس يقبل صورة أخرى من جنس صورته الأولى إلا بعد مفارقته الصورة الأولى مفارقة تامة ﴿مثال ذلك﴾ إن الجسم إذا قبل صورة وشكلا من الأشكال كالتثليث مثلا فليس يقبل شكلا آخر من التربيع والتدوير وغيرهما إلا بعد أن يفارقه الشكل الأول وكذلك إذا قبل صورة نقش أو كتابة أو أي شيء كان من الصور فليس يقبل صورة أخرى من ذلك الجنس إلا بعد زوال الأولى وبطلانها ألبته فإن بقي فيه شيء من رسم الصورة الأولى لم يقبل الصورة الثانية على التمام بل تختلط به الصورتان فلا يخلص له إحداهما على التمام ﴿مثال ذلك﴾ إذا قبل الشمع صورة نقش في الخاتم لم يقبل غيره من النقوش إلا بعد أن يزول عنه رسم النقش الأول
1 / 13
وكذلك الفضة إذا قبلت صورة الخاتم وهذا حكم مستقيم مستمر في الأجسام. ونحن نجد أنفسنا تقبل صور الأشياء كلها على اختلافها من المحسوسات والمعقولات على التمام والكمال من غير مفارقة للأولى ولا معاقبة ولا زوال رسم بل يبقى الرسم الأول تاما كاملا وتقبل الرسم الثاني أيضا تاما كاملا ثم لا تزال تقبل صورة بعد صورة أبدا دائما من غير أن تضعف أو تقصر في وقت من الأوقات عن قبول ما يرد ويطرأ عليها من الصور بل تزداد بالصورة الأولى قوة على ما يرد عليها من الصورة الأخرى وهذه الخاصة مضادة لخواص الأجسام ولهذه العلة يزداد الإنسان فهما كلما ارتاض وتخرج في العلوم والآداب فليست النفس إذا جسما فأما إنها ليست بعرض فقد تبين من قبل أنالعرض لا يحمل عرضا لأن العرض في نفسهمحمول أبا موجود في غيره لا قوام له بذاته وهذا الجوهر الذي وصفنا حاله هو قابل أبدا حامل أتم وأكمل من حمل الأجسام للأعراض. فإذا النفس ليست جسما ولا جزأ من جسم ولا عرضا وأيضا فإن الطول والعرض والعمق الذي به صار الجسم جسما يحصل في النفس في قوتها الوهمية من غير أن تصير به طويلة عريضة عميقة ثم تزداد فيها هذه المعاني أبدا بلا نهاية فلا تصير بها أطول ولا أعرض ولا أعمق بل لا تصير بها جسما ألبتة ولا إذا تصورة أيضا كيفيات الجسم تكيفت بها. أعني إذا تصورت الألوان والطعوم والروائح لم تتصور بها كما تتصور الأجسام ولا يمنع بعضها قبول بعض من أضدادها كما يمنع في الجسم بل تقبلها كلها في حالة واحدة بالسواء. وكذلك حالها في المعقولات فإنها تزداد بكل معقول تحصله قوة على قبول غيره دائما أبدا بلا نهاية وهذه حالة مقابلة لا حوال الأجسام وخاصة في غاية البعد من خواصها،
1 / 14
وأيضا فإن الجسم قواه لا تعرف العلوم إلا من الحواس ولا يميل غلا إليها فهي تتشوقها بالملابسة والمشابكة كالشهوات البدنية ومحبة الإنتقام والغلبة وبالجملة كل ما يحس ويوصل إليه بالحس والجسم يزداد بهذه الأشياء قوة ويستفيد منها تماما وكمالا لأنها مادته وأسباب وجوده فهو يفرح بها ويشتاق إليها من أجل إنها تتمم وجوده وتزيد فيه وتمده. فأما هذا المعنى الآخر الذي سميناه نفسا فإنه كلما تباعد من هذه المعاني البدنية التي أحصيناها وتداخل إلى ذاته وتحلى من الحواس بأكثر ما يمكن ازداد قوة وتماما وكمالا وتظهر له الآراء الصحيحة والمعقولات البسيطة.
وهذا إذن أدل دليل على أن طباعه وجوهره من غير طباع الجسم والبدن وأنه أكرم جوهر أو أفضل طباعا من كل ما في هذا العالم من الأمور الجسمانية وايضا فإن تشوقها إلى ما ليس من طباع البدن وحرصها على معرفة حقائق الأمور الآلهية وميلها إلى الأمور التي هي أفضل من الأمور الجسمية وإيثارها لها وإنصرافها عن الأمور واللذات الجسمانية يدلنا دلالة واضحة إنها من جوهر أعلى وأكرم جدا من الأمور الجسمانية.
لأنه لا يمكن في شيء من الأشياء أن يتشوق ما ليس من طباعه وطبيعته ولا أن ينصرف عما يكمل ذاته ويقوم جوهره فإذا كانت أفعال النفس إذا إنصرفت إلى ذاتها فتركت الحواس مخالفة لأفعال البدن ومضادة لها في محاولاتها وإراداتها فلا محالة إن جوهرها مفارق لجوهر البدن ومخالف له في طبعه.
وأيضا فإن النفس وإن كانت تأخذ كثيرا من مبادىء العلوم عن الحواس فلها من نفسها مباد أخر وأفعال لا تأخذها عن الحوس ألبتة وهي المبادىء الشريفة العالية التي تنبني عليها القياسات الصحيحة. وذلك إنها إذا حكمت إنه ليس بين طرفي النقيض واسطة فإنها لم تأخذ هذا الحكم من شيء آخر لم يكن أوليا. وأيضا فإن الحواس تدرك المحسوسات فقط وأما النفس فإنها تدرك أسباب الإتفاقات وأسباب الإختلافات التي من المحسوسات وهي معقولاتها التي لا تستعين عليها بشيء من الجسم ولا آثار الجسم.
1 / 15
وكذلك إذا حكمت على الحس إنه صدق أو كذب فليست تأخذ هذا الحكم من الحس لأنه لا يضاد نفسه فيما يحكم فيه ونحن نجد النفس العاقلة فينا تستدرك شيئا كثيرا من خطأ الحواس في مبادىء أفعالها وترد عليها أحكامها. من ذلك أن البصر يخطىء فيما يراه من قرب ومن بعد أما خطأه في البعيد فبادراكه الشمس صغيرة مقدارها عرض قدم وهي مثل الأرض مائة ونيفا وستين مرة يشهد بذلك البرهان العقلي فتقبل منه وترد على الحس ما شهد به فلا يقبله. وأما خطأه في القريب فبمنزلة ضوء الشمس إذا وقع علينا من ثقب مربعات صغار كحلل الأهواز وأشباهها التي يستظل بها فإنه يدرك بها الضوء الواصل إلينا منها مستدير افترد النفس العاقلة عليه هذا الحكم وتغلطه في إدراكه وتعلم إنه ليس كما يراه وتخطأ البصر أيضا في حركة القمر والسحاب والسفينة والشاطىء ويخطأ في الأساطين المسطرة والنخيل وأشباهها حتى يراها مختلفة في أوضاعها. ويخطىء أيضا في الأشياء التي تتحرك على الإستدارة حتى يراها كالحلقة والطوق ويخطىء أيضا في الأشياء الغائصة في الماء حتى يرى أن بعضه أكبر من مقداره ويرى بعضها مكسورا وهو صحيح وبعضها معوجا وهو مستقيم وبعضها منكسرا وهومنتصب.
1 / 16
فيستخرج العقل أسباب هذه كلها من مباد عقلية ويحكم عليها احكاما صحيحة وكذلك الحال في حاسة السمع وحاسة الذوق وحاسة الشم وحاسة اللمس. أعني حاسة الذوق تغلط في الحلو تجده مرا عند الصد أو أشبهه وحاسة الشم تغلط كثيرا في الأشياء المنتنة لا سيما في المنتفل من رائحة إلى رائحة فالعقل يرد هذه القضايا ويقف فيها ثم يستخرج أسبابها ويحكم فيها أحكاما صحيحة والحاكم في الشيء المزيف له أو المصحح أفضل وأعلى رتبة من المحكوم عليه وبالجملة فإن النفس إذ علمت أن الحس صدق أو كذب فليست تأخذ هذا العلم من الحس ثم إذا علمت أنها قد أدركت معقولاتها فليست تعلم هذا العلم من علم آخر لأنها لو علمت هذا العلم من علم آخر لاحتاجت في ذلك العلم أيضا إلى علم آخر وهذا يمر بلا نهاية فإذا علمها بأنها علمت ليست بمأخوذ من علم آخر البتة بل هو من ذاتها وجوهرها أعني العقل وليست تحتاج في إدراكها ذاتها إلى شيء آخر غير ذاتها ولهذا ما قيل في أواخر هذا العلم. إن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد لاغيرية شيء يتبين في موضعه. فأما الحواس فلا تحس ذواتها ولا ما هو موافق لها كل الموافقة كما سيتبين أيضا وإذ قد تبين من هذه الأشياء بيانا واضحا إن النفس ليست بجسم ولا بجزء من جسم ولا حال من أحوال الجسم وإنها شيء آخر مفارق للجسم بجوهره وأحكامه وخواصه وأفعاله فتقول:
1 / 17
شوق النفس إلى أفعالها الخاصة بها
أما شوقها إلى أفعالها الخاصة بها أعني العلوم والمعارف مع هربها من أفعال الجسم الخاصة به فهو فضيلتها وبحسب طلب الإنسان لهذه الفضيلة وحرصه عليها يكون فضله وهذا الفضل يتزايد بحسب عناية الإنسان بنفسه وانصرافه عن الأمور العائقة له عن هذا المعنى بجهده وطاقته وقد وضح مما تقدم ما الأشياء العائقة لنا عن الفضائل أعني الأشياء البدنية والحواس وما يتصل بها. فأما الفضائل أنفسها فليست تحصل لنا إلا بعد أن تطهر نفوسنا من الرذائل التي هي أضدادها أعني شهواتها الرديئة الجسمانية ونزواتها الفاحشة البهيمية. فإن الإنسان إذا علم أن هذه الأشياء ليست فضائل بل هي رذائل تجنبها وكره أن يوصف بها وإذا ظن أنها فضائل لزمها وصارت له عادة وبحسب التباسه وتدنسه بها يكون بعده من قبول الفضائل. وقد يظهر للإنسان أن هذه الأشياء التي يشتاقها البدن بالحواس ويميل إليها الجمهور أعني المآكل والمشارب والمناكح هي رذائل وليست فضائل وأنه إذا عقلها في الحيوانات الآخر وجد كثيرا منها أقدر على الإستكثار منها وأحرص عليها كالخنزير والكلب وأصناف كثيرة من حيوان الماء وسباع الوحش والطير فإنها أقوى وأحرص من الإنسان علىهذه الأشياء وأكثر احتمالا لها وليست تكون بها أفضل من الإنسان.
1 / 18
وأيضا فإن الإنسان إذا اكتفى من طعامه وشرابه وسائر لذاته البدنية إذا عرض عليه الإستزادة منها كما يستزاد من الفضائل أبى ذلك وعافه وتبين له قبح صورة من يتعاطاها لا سيما مع الإستغناء عنها والإكتفاء منها بل يتجاوز ذلك إلى مقته وذمه بل إلى تقويمه وتأديبه. فينبغي الآن أن نقدم أمام ما نطلبه من سعادة النفس وفضائلها كلاما يسهل به فهم ما نريده فنقول: كل موجود من حيوان ونبات وجماد وكذلك بسائطها أعني النار والهواء والأرض والماء وكذلك الأجرام العلوية له قوى وملكات وأفعال بها يصير ذلك الموجود هو ما هو وبها يميز عن كل ما سواه وله أيضا قوى وملكات وأفعال بها يشارك ما سواه.
ولما كان الإنسان من بين الموجودات كلها هو الذي يلتمس له الخلق المحمود والأفعال المرضية وجب أن لا ننظر في هذا الوقت في قواه وملكاته التي بها يشارك سائر الموجودات إذ كان ذلك من حق صناعة أخرى وعلم آخر يسمى العلم الطبيعي. وأما أفعاله وقواه وملكاته التي يختص بها من حيث هو إنسان وبها تتم إنسانيته وفضائله فهي الأمور الإرادية التي بها تتعلق قوة الفكر والتمييز. والنظر فيها يسمى الفلسفة العلمية. والأشياء الإرادية التي تنسب إلى الإنسان تنقسم إلى الخيرات والشرور.
وذلك أن الغرض المقصود من وجود الإنسان إذا توجه الواحد منا إليه حتى يحصل هو الذي يجب أن يسمى به خيرا أو سعيدا. فأما من عاقه عنها عوائق أخر فهو الشرير الشقي فإذا الخيرات هي الأمور التي تحصل للإنسان بإرادته وسعيه في الأمور التي لها أوجد الإنسان ومن أجلها خلق.
1 / 19
والشرور هي الأمور التي تعوقه عن هذه الخيرات بإرادته وسعيه أو كسله وانصرافه والخيرات قد قسمها الأولون إلى أقسام كثيرة. وذلك إن منها ما هي شريفة ومنها ما هي ممدوحة ومنها ما هي بالقوة كذلك ونعني بالقوة التهيؤ والإستعداد ونحن نعددها فيما بعد إن شاء الله تعالى. وقد قدمنا القول أن كل واحد من الموجودات له كمال خاص وفعل لا يشاركه فيه غيره من حيث هو ذلك الشيء أعني أنه لا يجوز أن يكون موجودا آخر سواه يصلح لذلك الفعل منه وهذا حكم مستمر في الأمور العلوية والسفلية كالشمس وسائر الكواكب وكأنواع الحيوان كلها كالفرس والبازي وكأنواع النبات والمعادن وكالعناصر البسائط التي متى تصفحت أحوالها تبين لك من جميعها صحة ما قلناه وحكمنا به. فإذا الإنسان من بين سائر الموجودات له فعل خاص به لا يشاركه فيه غيره وهو ما صدر عن قوته المميزة المروية فكل من كان تمييزه أصح ورويته أصدق واختياره أفضل كان أكمل في إنسانيته. وكما أن السيف والمنشار وأن صدر عن كل واحد منهما فعله الخاص بصورته الذي من أجله عمل. فأفضل السيوف ما كان أمضى وأنضر وما كفاه يسير من الإيماء في بلوغ كماله الذي أعد له.
وكذلك الحال في الفرس والبازي وسائر الحيوانات فإن أفضل الأفراس ما كان أسرع حركة وأشد تيقظا لما يريده الفارس منه في طاعة اللجام وحسن القبول في الحركات وخفة العدو والنشاط. فكذلك الناس أفضلهم من كان أقدر على أفعاله الخاصة به وأشد تمسكا بشرائط جوهره الذي تميز به عن الموجودات،
1 / 20
فإذا الواجب الذي لا مرية فيه أن نحرص على الخيرات التي هي كمالنا والتي من أجلها خلقنا ونجتهد في الوصول إلى الإنتهاء إليها ونتجنب الشرور التي تعوقنا عنها وتنقص حظنا منها فإن الفرص إذا قصر عن كماله ولم تظهر أفعاله الخاصة به على أفضل أحوالها حط عن مرتبة الفرسية واستعمل بالأكاف كما تستعمل الحمير وكذلك حال السيف وسائر الآلآات متى قصرت ونقصت أفعالها الخاصة بها حطت عن مراتبها واستعملت استعمال ما دونها والإنسان إذا نقصت أفعاله وقصرت عما خلق له أعني أن تكون أفعاله التي تصدر عنه وعن رويته غير كاملة أحرى بأن يحط عن مرتبة الإنسانية إلى مرتبة البهيمية.
هذا إن صدرت أفعاله الإنسانية عنه ناقصة غير تامة فإذا صدرت عنه الأفعال بضد ما أعد له أعني الشرور التي تكون بالروية الناقصة والعدول بها عن جهتها لأجل الشهوة التي يشارك فيها البهيمة أولا أو الإغترار بالأمور الحسية التي تشغله عما عرض له من تزكية نفسه التي ينتهب بها إلى الملك الرفيع والسرور الحقيقي وتوصله إلى قرة العين التي قال الله: (فَلاَ تَعلَمُ نَفسٌ ما أُخفيَ لَهُم مِن قٌرَةِ أَعيُن) وتبلغه إلى رب العالمين في النعيم المقيم واللذات التي لم ترها عين ولا سمعتها أذن ولا خطرت على قلب بشر
1 / 21
وانخدع عن هذه الموهبة السرمدية الشريفة بتلك الخساسات التي لا ثبات لها. فهو حقيق بالمقت من خالقه ﷿ خليق بتعجيل العقوبة له وإراحة العباد والبلاد منه. وإذ تبين ان سعادة كل موجود إنما هي صدور أفعاله التي تخص صورته عنه تامة كاملة وإن سعادة الإنسان تكون في صدور أفعاله الإنسانية عنه بحسب تمييزه ورويته وأن لهذه السعادة مراتب كثيرة بحسب الروية والمروي فيه ولذلك قيل أفضل الروية ما كان في أفضل مروي ثم ينزل رتبة فرتبة إلى أن ينتهي إلى النظر في الأمور الممكنة من العالم الحسي فيكون الناظر في هذه الأشياء قد استعمل رويته والصورة الخاصة به التي صار من أجلها سعيدا معرضا للملك الأبدي والنعيم السرمدي في أشياء دنيئة لا وجود لها بالحقيقة فقد تبين أيضا أجناس من السعادات بالجملة وأضدادها من الشقاوات وأجناسها وأن الخيرات والشرور في الأفعال الإرادية هي إما باختيار الأفضل والعمل به وإما باختيار الأدون والميل إليه.
ولما كانت هذه الخيرات الإنسانية وملكاتها التي في النفس كثيرة ولم يكن في طاقة الإنسان الواحد القيام بجميعها وجب أن يقوم بجميعها جماعة كثيرة منهم ولذلك وجب أن تكون أشخاص الناس كثيرة وأن يجتمعوا في زمان واحد على تحصيل هذه السعادات المشتركة لتكميل كل واحد منهم بمعاونة الباقين له فتكون الخيرات
1 / 22
مشتركة والسعادة مفروضة بينهم فيتوزعونها حتى يقوم كل واحد منهم بجزء منها ويتم للجميع بمعاونة الجميع الكمال الإنسي وتحصل لهم السعادات الثلاث التي شرحناها في كتاب الترتيب. ولأجل ذلك وجب على الناس أن يحب بعضهم بعضا لأن كل واحد يرى كماله عند الآخر ولولا ذلك لما تمت للفرد سعادته فيكون إذا كل واحد بمنزلة عضو من أعضاء البدن وقوام الإنسان بتمام أعضاء بدنه.
وقد تبين للناظر في أمر هذه النفس وقواها أنها تنقسم إلى ثلاثة أعني القوة التي بها يكون الفكر والتمييز والنظر في حقائق الأمور والقوة التي بها يكون الغضب والنجدة والإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والترفع وضروب الكرامات والقوة التي بها تكون الشهوة وطلب الغذاء والشوق إلى الملاذ التي في المآكل والمشارب والمناكح وضروب اللذات الخسية وهذه الثلاث متباينة ويعلم من ذلك ان بعضها إذا قوي أضر بالآخر وربما أبطل أحدهما فعل الآخر وربما جعلت نفوسنا وربما جعلت قوى لنفس واحدة والنظر في ذلك ليس يليق بهذا الموضع وأنت تكتفي في تعلم الأخلاق بأنها قوى ثلاث متباينة تقوي إحداهما وتضعف بحسب المزاج أو العادة أوالتأدب.
فالقوة الناطقة هي التي تسمى الملكية وآلتها التي تستعملها من البدن، الدماغ،
1 / 23
والقوة الشهويد التي تسمى بالبهيمية وآلتها التي تستعملها من البدن، الكبد.
والقوة الغضبية هي التي تسمى السبعية وآلتها التي تستعملها من البدن القلب فلذلك وجب أن يكون عدد الفضائل بحسب إعداد هذه القوى وكذلك أضدادها التي هي رذائل فمتى كانت حركة النفس الناطقة معتدلة وغير خارجة عن ذاتها وكان شوقها إلى المعارف الصحيحة ﴿لا المظنونة معارف وهي بالحقيقة جهالات﴾ حدثت عنها فضيلة العلم وتتبعها الحكمة ومتى كانت حركة النفس البهيمية معتدلة منقادة للنفس العاقلة غير متأبية عليها فيما نقسطه لها ولا منهمكة في اتباع هواها حدثت عنها فضيلة العفة وتتبعها فضيلة السخاء.
ومتى كانت حركة النفس الغضبية معتدلة تطيع النفس العاقلة فيما تقسطه لها فلا تهيج في غير حينها ولا تحمي أكثر مما ينبغي لها حدثت منها فضيلة الحلم وتتبعها فضيلة الشجاعة ثم يحدث عن هذه الفضائل الثلاث باعتدالها ونسبة بعضها إلى بعض فضيلة هي كمالها وتمامها وهي فضيلة العدالة. فلذلك أجمع الحكماء علىأن أجناس الفضائل أربع وهي الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة ولهذا لا يفتخر أحد ولا يتباهى إلا بهذه الفضائل فقط. فأما من افتخر بآبائه وأسلافه فلأنهم كانوا على بعض هذه الفضائل أو عليها كلها وكل واحدة من هذه الفضائل إذا تعدت صاحبها إلى غيره تسمى صاحبها بها ومدح عليها
1 / 24
وإذا اقتصرت على نفسه لم يسم بها بل غيرت هذه الأسماء. أما الجود فإنه إذا لم يتعد صاحبه سمى صاحبه منفاقا. وأما الشجاعة فإن صاحبها يسمى آنفا. وأما العلم فإن صاحبه يسمى مستبصرا ثم إن صاحب الجود والشجاعة إذا عم غيره بفضيلتيه وتعدتاه رجى بإحداهماواحتشم وهيب بالأخرى. وذلك في الدنيا فقط لأنهما فضيلتان حيوانيتان. أما العلم إذا تعدى صاحبه فإنه يرجى ويحتشم في الدنيا والآخرة لأنه فضيلة إنسانية ملكية. وأضداد هذه الفضائل الأربع أربع أيضا وهي الجهل والشره والجبن والجور وتحت كل واحد منهذه الأجناس أنواع كثيرة سنذكر منها ما يمكن ذكره. فأما أشخاص الأنواع فهي بلا نهاية وهي أمراض نفسانية تحدث منها أمراض كيرة كالخوف والحزن والغضب وأنواع العشق الشهواني وضروب من سوء الخلق وسنذكرها ونذكر علاجاتها فيما بعد إنشاء الله تعالى. والذي يجب علينا الآن هو تحديد هذه الأشياء أعني الأجناس الأربعة التي تحتوي على جمل الفضائل فنقول:
1 / 25
أما الحكمة فهي فضيلة النفس الناطقة المميزة وهي أن تعلم الموجودات كلها من حيث هي موجودة وإن شئت فقل إن تعلم الأمور الإلهية والأمور الإنسانية ويثمر علمها بذلك أن تعرف المعقولات أيها يجب ان يفعل وأيها يجب أن يغفل. واما العفة فهي فضيلة الحس الشهواني وظهور هذه الفضيلة في الإنسان يكون بأن يصرف شهواته بحسب الرأى أعني أن يوافق التمييز الصحيح حتى لا ينقاد لها ويصير بذلك حرا غير متعبد لشيء من شهواته، وأما الشجاعة فهي فضيلة النفس الغضبية وتظهر في الإنسان بحسب إنقيادها للنفس الناطقة المميزة واستعمال ما يوجبه الرأى في الأمور الهائلة أعني أن لا يخاف من الأمور المفزعة إذا كان فعلها جميلا والصبر عليها محمودا.
1 / 26
فأما العدالة فهي فضيلة للنفس تحدث لها من إجتماع هذه الفضائل الثلاث التي عددناها وذلك عند مسالمة هذه القوى بعضها للبعض وإستسلامها للقوة المميزة حتى لا تتغالب ولا تتحرك لنحو مطلوباتها على سوم طبائعها ويحدث للإنسان بها سمة يختار بها ابدا الإنصاف من نفسه أولا ثم الإنصاف والإنتصاف من غيره وله. وسنتكلم على كل واحدة من هذه الفضائل بكلام أوسع من هذا إذا ذكرنا الفضائل التي تحت كل جنس من هذه الأربع إذ كان غرضنا في هذا الموضع الإشارة إليها بالرسوم الوجيزة ليتصورها المتعلم. والذي ينبغي الآن أن نتبع ما قدمنا بذكر أنواع هذه الأجناس وماتحت كل واحد منها فنقول ﴿الأقسام التي تحت الحكمةْ الذكاء. الذكر. التعقل. سرعة الفهم وقوته صفاء الذهن سهولة التعلم وبهذه الأشياء يكون حسن الإستعداد للحكمة فأما الوقوف على جواهر هذه الأقسام فيكون من حدودها. وذلك أن العلم بالحدود يفهم جواهر الأشياء المطلوبة الموجودة دائما على حال واحد وهو العلم البرهاني الذي لا يتغير ولا يدخله الشك بوجه من الوجوه.
1 / 27
والفضائل التي هي بذاتها فضائل لا تكون في حال من الأحوال غير فضائل، فكذلك العلوم بها. أما الذكاء فهو سرعة انقداح النتائج وسهولتها على النفس. اما الذكر فهو ثبات صورة ما يخلصه العقل أو الوهم من الأمور. وأما التعقل فهو موافقة بحث النفس عن الأشياء الموضوعة بقدر ما هي عليه. وأما صفاء الذهن فهو استعداد لما قد لزم من المقدم. وأما سهولة التعلم فهي قوة للنفس وحدة في الفهم بها تدرك الأمور النظرية.
الفضائل التي تحت العفة
الحياء. الدعة. الصبر. السخاء. الحرية. القاعة. الدماثة. الإنتظام. حسن الهدى. المسالمة. الوقار. الورع، أما الحياء فهو إنحصار النفس خوف إتيان القبائح والحذر من الذم والسب الصادق. وأما الدعة فهي سكون النفس عند حركة الشهوات. وأما الصبر فهو مقاومة النفس الهوى لئلا تنقاد لقبائح اللذات
1 / 28
وأما السخاء فهو التوسط في الإعطاء وهو أن ينفق الأمور فيما ينبغي بعلى مقدار ما ينبغي وعلى ما ينبغي وتحت السخاء خاصة أنواع كثيرة نحصيها فيما بعد لكثرة الحاجة إليها.
وأما الحرية فهي فضيلة للنفس بها يكتسب المال من وجهه ويعطي في وجهه وتمنع من اكتسابه منغير وجهه. وأما القناعة فهي التساهل في المآكل والمشارب والزينة. وأما الدماثة فهي حسن إنقياد النفس لما يجمل وتسرعها إلى الجميل. وأما الإنتظام فهو حال للنفس تقودها إلى حسن تقدير الأمور وترتيبها كما ينبغي. وأما حسن الهدى فهو محبة تكميل النفس بالزينة الحسنة. وأما المسألة فهي موادعة تحصل للنفس عن ملكة لا اضطرار فيها. واما الوقار فهو سكون النفس وثابتها عند الحركات التي تكون في المطالب وأما الورع فهو لزوم الأعمال الجميلة التي فيها كمال النفس.
1 / 29
الفضائل التي تحت الشجاعة
كبر النفس. النجدة. عظم الهمة، الثبات. الصبر، الحلم. عدم الطيش، الشهامة، احتمال الكد والفرق بين الصبر والصبر الذي في العفة أنهذا يكون في الأمور الهائلة وذلك يكون في الشهوات الهائجة. اما كبر النفس فهو الإستهانة باليسير والإقتدار على حمل الكرائه فصاحبه أبدا يؤهل نفسه للأمور العظام مع استخفافه لها. وأما النجدة فهي ثقة النفس عند المخاوف حتى لا يخامرها جزع. وأما عظم الهمة فهي فضيلة للنفس تحتمل بها سعادة الجد وضدها حتى الشدائد التي تكون عند الموت. وأما الثبات فهو فضيلة للنفس تقوى بها على إحتمال الآلام ومقاومتها في الأهوال خاصة. وأما الحلم فهو فضيلة للنفس تكسبها الطمأنينة فلا تكون شغبة ولا يحركها الغضب بسهولة وسرعة.
وأما السكون الذي نعني به عدم الطيش فهو إما عند الخصومات وإما في الحروب التي يذب بها عن الحريم أو عن الشريعة. وهو قوة للنفس تقسر حركتها في هذه الأحوال لشدتها. وأما الشهامة فهي الحرص على الأعمال العظام توقعا للأحدوثة الجميلة. وأما احتمال الكد فهو قوة للنفس بها تستعمل آلات البدن في الأمور الحسية بالتمرين وحسن العادة.
1 / 30