تفسير العثيمين: الأنعام
تفسير العثيمين: الأنعام
Издатель
دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع
Номер издания
الأولى
Год публикации
١٤٣٣ هـ - ٢٠١٢ م
Место издания
المملكة العربية السعودية
Жанры
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
* قال الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٥)﴾ [الأنعام: ١ - ٥].
قال الله ﷿: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١)﴾ [الفاتحة: ١]. تقدم الكلام على البسملة كثيرًا، فهي (^١) آية من آيات الله ﷿، تبتدأ بها كل سورة ما عدا سورة براءة فإنها لم تبتدأ بالبسملة؛ لأن أيَّ آية تنزل كان النبي ﷺ يبين موضعها، لكن في سورة براءة لم يذكر البسملة، فأبقاها الصحابة ﵃ بدون بسملة، ثم أشكل عليهم هل هي مستقلة، أو من الأنفال؟ فوضعوا بينهما حاجزًا بدون بسملة.
_________
(^١) انظر: تفسير سورة الفاتحة لفضيلة شيخنا المؤلف رحمه الله تعالى.
1 / 5
وأما من قال من العوام: إن الجن اختطفوها، فهذا لا أصل له إطلاقًا، ولا يجوز اعتقاده، ولهذا يقول بعض العوام - ورأيته في بعض المصاحف -: أعوذ بالله من النار، ومن غضب الجبار، ومن كيد الأشرار، بدل البسملة، وهذا حرام لا يجوز، نقول هكذا كتبها الصحابة ﵃، وهم أسوتنا وقدوتنا.
وهي بعض آية من سورة النمل؛ لأن الله تعالى ذكرها على سبيل الحكاية. لكن إذا جعلناها آية فهل هي مستقلة، أو تابعة لما بعدها؟ هي مستقلة لا تابعة لما بعدها فلا تُعَدُّ من آياتها.
واختلف الناس في البسملة في سورة الفاتحة هل هي مستقلة، أو من آيات الفاتحة؟
والصواب أنها مستقلة؛ لدلالة السُّنَّة القولية والفعلية على ذلك. أما القولية ففي الحديث القدسي أن الله ﵎ قال: "قَسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمين، قالَ اللهُ: حَمِدَنِي عبدي" (^١)، وذكر الحديث، ولم يذكر البسملة.
وأما السُّنَةُ الفعلية، فإن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كان لا يجهر بالبسملة، هذا هو الثابت عنه (^٢)، وتركه الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية يدل على أنها ليست من الفاتحة، وإلا لجهر بها كما يجهر في بقية آياتها.
_________
(^١) رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ... (٣٩٥).
(^٢) قال أنس ﵁: صليت مع رسول الله ﷺ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب: حجة من قال لا يجهر بالبسملة (٣٩٩).
1 / 6
بقي أن يقال: البسملة مبدوءة بحرف الجر، والمعروف أن حروف الجر لا بد لها من عامل يسمي المتعلق، فأين متعلقها؟
الجواب: متعلقها محذوف ويُقَدَّرُ بعدها؛ أما كونه محذوفًا فلأنه غير موجود، فلا بد أن يكون محذوفًا مقدرًا، وأما كونه يقدر بعدها فلوجهين:
الوجه الأول: التَيَمُّن بالبداءة بـ "بسم الله".
والوجه الثاني: إفادة الحصر، كأنك تقول مثلًا: "لا أَقرأُ إلا ببسم الله".
إذًا فيقدر متأخرًا للوجهين اللذين ذكرناهما.
وكيف نُقَدِّرَهُ، هل نُقَدِّرُهُ اسمًا، أو فعلًا، وهل نقدره عامًّا، أو خاصًّا؟ هذه أربع احتمالات.
هل نقدره فعلًا أو اسمًا؟
نقول نقدره فعلًا؛ لأن الفعل هو الأصل في العمل، ولذلك لا تجد اسمًا يعمل عمل الفعل إلا بشروط، وإذا كان هو الأصل كان تقديره أولي من تقدير الاسم.
وهل نقدره عامًّا أو خاصًّا؟
نقول: نقدره خاصًّا؛ لأن الخاص أدل على المقصود من العام، فالآن نضرب أمثلة إذا قَدَّرْنَا "بسم الله ابتدائي" هذا مخالف للأَوْلَي من وجهين:
الأول: أنَّا قَدَّرْنَاهُ اسمًا، والثاني: قدرناه عامًّا.
فإذا قلت: "بسم الله أبتدئ"، فهو مخالف من وجه واحد وهو تقديره عامًّا.
وإذا قلت: "بسم الله قراءتي"، فهو مخالف من وجه واحد وهو أنك قدرته اسمًا.
1 / 7
وإذا قلت: "بسم الله أقرأ"، فهذا أحسن التقديرات؛ لأنه فعل، ومتأخر، وخاص فهو أدل، والدليل أنك تقدر الخاص الحديث "من لم يذبح فليذبح بسم الله" (^١). هذا يدل على أنك تقدر الفعل الخاص المناسب.
فعند الوضوء التقدير: "بسم الله أتوضأ"، وعند القراءة التقدير: "بسم الله أقرأ"، وعند الكتابة التقدير "بسم الله أكتب".
واسم الله، "اسم" مفرد مضاف إلى الله ﷿، فيقتضي البداءة بكل اسم من أسماء الله، فأنت إذا قلت: بسم الله؛ كأنما قلت: بكل اسم من أسماء الله.
و"الله" كلمةٌ عظيمةٌ جدًا، عَلَمٌ على الله جل وعلا لا يسمي به غيره، لا في الجاهلية، ولا في الإسلام، وهو أصلٌ لجميع الأسماء، ولهذا لا تأتي الأسماء إلا بعده تابعة له؛ لأنه الأصلُ.
فإن قال قائل: ما حكم البداءة بـ "بسم الله" في أثناء السورة؟
الجواب: ذكر بعض أهل العلم أن البداءة ببسم الله في أثناء السورة سُنَّة، يعني مستحبة، والصواب: أنها ليست مستحبة؛ لأن الله تعالى قال: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٩٨)﴾ [النحل: ٩٨]، فمثلًا إذا قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة: ٢٨٤]، فقد زدت، إنما تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقط.
_________
(^١) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب: كلام الإمام والناس في خطبة العيد إذا سئل (٩٨٥)، ومسلم كتاب الأضاحي، باب وقتها (١٩٦٠).
1 / 8
فإذا قال: أليس هذا فعلًا، وينبغي أن أبدأ كل فعل بالبسملة؟ قلنا: إذا قلت هذا فقل: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فالصحيح أنَه لا يستحب البداءة بها، ولذا ينبه على الطلاب في المدارس لئلا يتخذوها سُنَّة.
قوله: (الرحمن) مشتق من الرحمة، ولكنه على صيغة فعلان، وهذه الصيغة تدل على السعة والامتلاء، فيكون معناه: أنه ذو رحمة واسعة، ولهذا فسرها بعضهم: بأن الرحمن ذو الرحمة العامة، ولكن الصواب: أنه ذو الرحمة الواسعة، يرحم من شاء ﷿، فهي أدل على الوصف منها على الفعل.
وقوله: (الرحيم) صيغة مبالغة من الرحمة أيضًا، لكنها أدل على الفعل منها على الوصف، فسبقتِ (الرحمن)؛ لأنها وصف، وأتت (الرحيم)؛ لأنها فعل، فهو رحمن يرحم ﷿، وقد ذكر الله ﵎: أنه رحيمٌ بالمؤمنين، والمراد الرحمة الخاصة.
وقسم العلماء - رحمهم الله تعالى - الرحمة إلى قسمين: عامة وخاصة.
فأما الرحمة العامة: فهي الشاملة لجميع الخلق، المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والصغير والكبير، والبهيم والعاقل، فكل الخلق تحت رحمة الله ﷿، لا يشذ أحد عن هذه الرحمة العامة.
وأما الرحمة الخاصة: فهي التي تختص بالمؤمنين.
والفرق بينهما أن الرحمة الخاصة تتصل برحمة الآخرة، فيكون لله ﷿ على المؤمنين رحمة في الدنيا ورحمة في الآخرة، أما الرحمة العامة فلا أثر لها إلا في الدنيا، ولذلك
1 / 9
نقول: الكفار في الآخرة يعاملون بالعدل لا يعاملون بالرحمة، أيضًا البهائم وغير العاقل يعاملون بالعدل؛ لأن الله يقضي بين البهائم، ثم يأمرهن أن يكنّ ترابًا فيكنّ ترابًا ولا نعيم.
وذِكْرُ هذين الاسمين الكريمين عند البسملة التي تتقدم فِعْلَ العبد وقوله إشارةٌ إلى أن الله إذا لم يرحمك فلن تستفيد من هذا الفعل، ولا من هذا القول، ولهذا قال النبي ﷺ: "لن يدخل أحد الجنة بعمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" (^١).
* * *
* قال الله ﷿: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)﴾ [الأنعام: ١].
قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ (أل) هنا للاستغراق، أي: جميع الحمد من كل وجه ثابت لله ﷿، و(اللام) في قوله: (لله): إما للاختصاص، وإما للاستحقاق، ولا تنافي بين المعنيين، وعلى هذا فتكون للاستحقاق والاختصاص؛ لأن (أل) في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ للعموم، ولا أحد يستحق الحمد على العموم إلا الله ﷿.
ولكن ما هو الحمد؟
كثير من الناس يفسرون الحمد بالثناء على الله بالجميل الاختياري، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لأن الثناء هو تكرار
_________
(^١) رواه البخاري، كتاب المرضي، باب: تمني المريض الموت (٥٦٧٣)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله (٢٨١٦).
1 / 10
الحمد، والدليل على هذا قوله: ﵎ في الحديث القدسي: "إذا قال العبد ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾ [الفاتحة: ٢]، قال الله: حَمِدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣)﴾ [الفاتحة: ٣] قال: أثني عليَّ (^١)، وهذا يدل على أن الثناء هو تكرار الوصف الكامل، والاشتقاق يدل عليه؛ لأن الثناء: من الثني، وهو إعادة الشيء، أو رد الشيء بعضه إلى بعض.
وأما قولهم: "على الجميل الاختياري" فهو بالنسبة لله ﷿ غير صحيح؛ لأن الله يحمد على ما يفعله ﷿، وهو يختار ما يشاء، ويحمد على كمال صفاته اللازمة التي لا تتعدي إلى أحد، فهو محمود على كمال حياته، ومحمود على كمال قيوميته، الأول: وصف لازم، والثاني: وصف متعدٍ ولازم أيضًا.
فالصواب: أن حمد الله يكون على أفعاله التي يختارها، وعلى صفاته الكاملة اللازمة له، فهو - جل وعلا - مستحق بأن يحمد، والحمد الكامل مختص به.
فبماذا نُعرِّف الحمد؟
نقول: (الحمدُ وصفُ المحمود بالكمال - اللازم والمتعدي - حبًا وتعظيمًا)؛ فقد تصف شخصًا ما بالكمال لا محبة له لكن رجاء لما سيجازيك به، وقد تحبه وقد تمدحه لا على سبيل المحبة والتعظيم ولكن خوفًا من شره، وكذلك قد يمدح الرجل سلطانًا، أو وزيرًا أو ما أشبه ذلك لا محبة له ولا تعظيمًا، لكن يرجو نواله، أو يخاف منه.
_________
(^١) تقدم تخريجه (ص ٦).
1 / 11
أما الحمد فلا بد أن يُقيَّد بأنه على وجه المحبة والتعظيم، فإن لم يكن على وجه المحبة والتعظيم فهو مدح.
وانظر إلى عمق اللغة العربية كيف فَرَّقَتْ بين (حَمِدَ، ومَدَحَ) مع تساويهما في الحروف نوعًا وعددًا، الحروف ثلاثة، هذا العدد، والنوع نفس الحروف (حاء، ميم، دال)، لكن اختلف الترتيب في الحروف "حَمِدَ" "ومَدَحَ"، ولاختلافهما في الترتيب اختلف معناهما، والنسبة بينهما الخصوص والعموم فكلُّ حمدٍ مدحٌ، وليسَ كلُّ مدحٍ حمدًا؛ لأن الحمد - كما تقدم - لا بد أن يكون على وجه المحبة، والتعظيم، والمدحُ بخلاف ذلك.
وقد ذكر ابن القيم ﵀ الفروق بينهما في كتابه "بدائع الفوائد"، وهذا الكتاب حَثَّنَا عليه شيخُنا عبد الرحمن السعدي - رحمه الله تعالى - حين الطلب، وقال: إنه كتاب عظيم. وهو كذلك؛ يشبهه من بعض الوجوه كتابَ "صيدِ الخاطر" لابن الجوزي، لكن من حيث العمق والمعنى والفائدة لا سواء، ولا مقارنة، فهو ﵀ بيَّن بيانًا واضحًا الفروق بين الحمد والمدح، وبحث هذا المبحث حتى أنضجه طبخًا، وقال: إن شيخنا - يعني: ابن تيمية ﵀ كان إذا بحث في مثل هذه الأمور أتي بالعجب العجاب (^١) ولكنه كما قيل:
تَأَلَّقَ البَرْقُ نَجْدِيًّا فَقُلْتُ لَهُ ... إِلَيْكَ عَنِّي فَإنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ
لأن شيخ الإسلام ليس عنده التفرغ لكي يتكلم في مثل هذه الأمور، فهو يتكلم بما هو أعظم. وقد جمع أحدُ الطلاب - وهو أخونا: فريد بن عبد العزيز الزامل - المباحثَ النحويةَ التي تكلم
_________
(^١) بدائع الفوائد (١/ ١١٦)، طبعة مكتبة نزار مصطفى الباز.
1 / 12
عليها شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، وهذا طيب، جمعها في رسالة لكنها لم تُطْبَعْ بَعْدُ.
وقد تقدم لنا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" على مثل هذا النوع لما تكلم على قوله تعالى: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ [التوبة: ٦٩]. بحث - رحمه الله تعالى - بحثًا لا تجده في أي كتاب.
والخلاصة أن "الحمد" هو وصف المحمود بالكمال على وجه المحبة والتعظيم (لله) وتقدم أن اللام للاستحقاق والاختصاص، أي: لا أحد يستحق الحمد كله من كل وجه إلا الله ﷿، وهذا الحمد المذكور خاص بالله ﷿ فهو - جل وعلا - مستحق لأن يُحمد، فالحمد الكامل مختص به.
أما (الله) فهو عَلَمٌ على الله ﷿، والتعبير بها أحسن من التعبير بغيرها، بعض الناس الآن يعبر فيقول: قال الحق كذا وكذا، هذا صحيح، فإن الله هو الحق المبين، لكن اجعل عبارتك على عبارة السلف، فهم يقولون: قال الله، أو يقولون: قال ربنا، أما (قال الحق) فهذه يأتي بها الإنسان لأجل أن يفتح الأذهان، حيث إن الإنسان السامع يقول: مَن هذا الحق؟ لكن نقول: (قال الله) التي بُنيت عليها الألوهية والعبادة أحسن، لكن لا بأس أن تقول: قال ربنا، أو قال ربكم، كما كان الرسول ﵊ يقول لأصحابه أحيانًا: "أتدرون ماذا قال ربكم؟ " (^١).
_________
(^١) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب: يستقبل الإمام الناس إذا سلم (٨٤٦)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء (٧١).
1 / 13
(الله) مشتقة من الألوهية، وأَلِه، بمعني: تعبد وليست بمعنى تحيّر كما زعمه بعضهم؛ لأن الإنسان إذا قال: الله، لا يجد تحيرًا بل يجد ربًّا معروفًا ﷿، لا حيرة فيه، يقولون: أصلها الإله، لكن حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، وقالوا: إن نظيرها (الناس)، وأصلها: الأُناس، وكلمة (خير) أصلها: أخير، و(شر) أصلها: أشر.
وهل هو مشتق أو جامد؟ الصواب أنه مشتق، وأنه لا يوجد اسم من أسماء الله، ولا من أسماء الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، ولا من أسماء القرآن، يكون جامدًا أبدًا؛ لأن الجامد معناه: أنه لا معني له إلا الدلالة على المعين فقط؛ لأن العَلَمَ كما قال ابن مالك ﵀:
اسمٌ يُعَيِّنُ المُسَمَّى مُطْلَقًا ... عَلَمُهُ كَجَعْفَرٍ وخِرْنَقا (^١)
فلو قلنا: إن أسماء الله، أو أسماء الرسول، أو أسماء الكتاب العزيز جامدة فمعني ذلك: أنها لا تدل إلا على تعيين المسمي فقط، ولكن نقول هي مشتقة، تدل على تعيين المسمى، وعلى المعنى الذي اشتقت منه، "فالله" مشتق من الإله أو الألوهية، وهي التعبد لله ﷿.
قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ (الذي): وصف للفظ الجلالة.
وقوله: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، أي: أوجدها على تقدير محكم؛ لأن الخلق في اللغة أصله: هو التقدير، كما قال الشاعر:
_________
(^١) البيت رقم (٧٢) من الألفية.
1 / 14
ولأنتَ تَفْري ما خلقتَ وَبَعْـ ... ـعْضُ الناسِ يخلقُ ثم لا يَفْري (^١)
(يفري)، يعني: يفعل، (تفري ما خلقت): يعني: ما قدرته ولا يمنعك أحد، فالخلق هو الإيجاد على وجه التقدير المحكم.
وقوله: ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ (السماوات) مفعول (خَلَق)، ولا مانع من أن نقول: إنها مفعول، خلافًا لمن قال: إنها لا تصح أن تكون مفعولًا؛ لأن المفعول لا بد أن يرد الفعل عليه وهو موجود، وخَلْقُ السماوات والأرض ورد عليها قبل أن تخلق، ولكن نقول هذا تكلف، والصواب الذي عليه أكثر المعربين أن (السماوات): مفعول به.
وهي من سما يسمو إذا علا، وقد بَيَّن الله تعالى: أنها سبع، وأنها طباق، وأنها شداد، وأنها مبنية بأَيْدٍ، أي: بقوة
وقوله: ﴿وَالْأَرْضَ﴾ معطوفة على السماوات، وهي لفظ مفرد لكنه لا يمنع التعدد إذا ثبت أنها متعددة، ولينتبه لهذا القيد فلو لم يثبت أنها متعددة لقلنا إنها واحدة، هذا مقتضى اللفظ، لكن نقول: إن المراد بها الجنس، وحينئذ لا ينافي التعدد، وهي متعددة بدلالة ظاهر القرآن وصريح السُّنَّة.
أما ظاهر القرآن فقد قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ١٢]، أي: في العدد، ولا يمكن أن يقول قائل: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ في الكيفية والصفة؛ لأن الفرق بين السماء والأرض واضح، فيتعين أن يكون المراد العدد، وهو كذلك.
أما السُّنَّة فصريحة قال النبي ﷺ: "من اقتطع شبرًا من
_________
(^١) البيت لزهير بن أبي سلمي في ديوانه (ص ٨٢).
1 / 15
الأرض ظلمًا طَوَّقَهُ الله إياه يوم القيامة من سبع أراضين" (^١)، فصار المراد بالأرض الجنس، فلا ينافي التعدد.
قوله: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ (جعل)، بمعنى: خلق؛ ولكن إذا كانت بمعنى خلق فما هي الحكمة بأن عُبِّر عن الخلق بالجعل، قيل: إن الحكمة هي التفنن في العبارة، يعني: تغيير اللفظ مع اتحاد المعنى، وأحيانًا يكون هذا من البلاغة، وقيل: إن الحكمة من ذلك أن النور لا يمكن أن يقوم إلا بغيره مثل نور الشمس فهو لا يمكن أن يتبين إلا إذا كان هناك جسم قابل له، ولذلك ما بيننا وبين الشمس ظلمة ليس هناك نور؛ لأن النور لا يمكن أن يظهر أثره إلا أن يكون مُقَابَلًا بجسم، ونجد الآن الفرق بين أن تقابل الشمس جسمًا قابلًا للحرارة وجسمًا غير قابل، أو تقابل جسمًا قابلًا لنصاعة البياض وجسمًا غير قابل؛ لأن النور لا يمكن أن يكون قائمًا بنفسه، ولا يتبين إلا إذا كان منعكسًا على جسم، فهذه هي الحكمة من قوله: ﴿وَجَعَلَ﴾.
وحكمة أخرى أن الظلمات والنور تكون حسية ومعنوية فظلمة الليل حسية، وظلمة الجهل معنوية، كذلك النور، فنور النهار حسي، ونور العلم والإيمان معنوي، ومن نور العلم والإيمان استنارة القلب بكلام الله ﷿، وكلام الله تعالى غير مخلوق، مع أن القرآن يسمى نورًا كما قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (١٧٤)﴾ [النساء: ١٧٤]، فلذلك عبر الله ﷿ بالجعل؛ لأنه يتعلق بالمخلوق وغير المخلوق.
_________
(^١) رواه مسلم، كتاب المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (١٦١٠).
1 / 16
قوله: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ (ثم) حرف عطف يفيد العطف والتراخي، وإن شئت فقل: يفيد الترتيب والتراخي، فيكون معني الآية: (ثم مع ظهور الآيات، ومع ظهور هذا الأمر وهو خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور مع هذا الذين كفروا بربهم يعدلون)، ولا شك أن كفر الكافرين مع ظهور الآيات أشد في اللوم والتوبيخ ممن ليسوا كذلك.
وقوله: ﴿كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ﴾:
هل الجار والمجرور (بربهم) متعلق بـ (كفروا)، أو متعلق بـ (يعدلون)؟ يحتمل التركيب أن يكون قوله: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾، أي: يعدلون به غيره. ويحتمل أن يكون قوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ منفصل عن قوله: ﴿بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾، ويكون الذين كفروا يعدلون بربهم، أي: يجعلون غير الله معادلًا لله ﵎، والأولي أن يكون متعلقًا بـ ﴿يَعْدِلُونَ﴾؛ لأن هذا هو المعنى المطابق، أما الذين كفروا فمعروف أن المراد كفروا بربهم، وإنما قُدِّمَ على عامله مراعاة لفواصل الآيات؛ لأن الفواصل إذا جاءت متناسقة فإن ذلك يكون ألذ للسمع، وأقبل للنفس، وأتي بـ (ثم) الدالة على التراخي، يعني: أنهم بعد أن تأملوا ونظروا وعلموا كفروا - والعياذ بالله - وعدلوا به غيره، فجعلوا له أندادًا.
من فوائد الآيات الكريمة:
الفائدة الأولى: ثناء الله على نفسه بل حَمْدُ الله تعالى نفسه أَنْ خلق السماوات والأرض، وهذا حمد عند ابتداء الخلق، أي: خلق السماوات والأرض وهناك حمد آخر عند انتهاء الحمد كما
1 / 17
في آخر سورة الزمر، حيث قال الله ﵎: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٧٥)﴾ [الزمر: ٧٥]. (قيل): أي: قاله كل العالم (الحمد لله رب العالمين).
وحمِدَ نفسه ﵎ على كبريائه وعظمته وتنزهه من كل عيب ونقص فقال تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (١١١)﴾ [الإسراء: ١١١].
وحَمِدَ نفسه ﵎ على إنزال القرآن الكريم فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ﴾ [الكهف: ١، ٢].
فالله تعالى يحمد نفسه عند الأمور العظيمة؛ لأن هذه الأمور العظيمة توجب للعبد المتأمل أن يحمد الله ﷿ على كمال صفاته وعلى كمال إفضاله وإنعامه.
الفائدة الثانية: أن خالق السماوات والأرض هو الله ﷿ لقوله: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، ولا أحد ادعي أنه يخلق السماوات والأرض، حتى المشركون لو سئلوا من خلق السماوات والأرض؟ لقالوا: الله.
الفائدة الثالثة: أن السماوات مخلوقة وليست أزلية لقوله: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، فيكون في ذلك رد على الفلاسفة الذين قالوا بِقِدَم هذا العالم وأنه أزلي، فإن قولهم هذا مردود بالكتاب والسُّنَّة، وإجماع المسلمين.
الفائدة الرابعة: أن السماوات جمع؛ لأنها جمعت، وعددها سبع سموات بنص القرآن الكريم.
1 / 18
الفائدة الخامسة: التفريق بين ذكر السماوات والأرض، حيث تذكر السماوات جمعًا والأرض مفردة وذلك؛ لأن السماوات أعظم من الأرض بكثير لا من جهة ارتفاعها ولا سعتها، وكلّ ما في السماوات، فهو أعظم مما في الأرض قال الله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨)﴾ [النازعات: ٢٧، ٢٨]، إلى آخر الآيات.
الفائدة السادسة: أنه قد يُعبر بالمفرد ويراد به الجنس فيعم ما كان زائدًا على المفرد لقوله: ﴿وَالْأَرْضَ﴾.
الفائدة السابعة: أن من مَلَكَ ظاهر الأرض فقد مَلَكَ أسفلها، حتى لا يقال: إنه ليس لك إلا أرض واحدة فلا تملك الأرض إلى تخومها، وقد قرر هذا العلماء ﵏ فقالوا: إن مالك الأرض يملكها إلى الأرض السابعة، وعلي هذا دل الحديث: أن النبي ﷺ قال: "من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أراضين" (^١).
الفائدة الثامنة: التعبير المُختلِف بين خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور.
فإن لقائل أن يقول: لماذا اختلف التعبير، هل هو مجرد اختلاف لفظ أو هناك فرق؟
لننظر (جعل) تأتي بمعنى خلق. ويدل لهذا قول الله ﵎: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: ١]، وقال تعالى في آية أخرى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: ١٨٩]،
_________
(^١) سبق تخريجه في (ص ١٥).
1 / 19
فدل ذلك على أن (خَلَق) و(جَعَلَ) معناهما واحد، وعلى هذا فيكون التفريق هنا لمجرد اختلاف اللفظ فقط.
وقيل: بينهما فرق، فالخلق إنشاء لذات المخلوق وأصله، والظلمات وصف للمخلوق، وكذلك النور، ولهذا لا تجد للنور جسمًا يشاهد أبدًا، انظر إلى النور لا يظهر إلا على سطح، أما في الفضاء فلا يظهر النور وما نشاهده أحيانًا من السهم الأبيض إذا ضربنا بشيء له قوة نفوذ في الضوء ليس هذا نورًا، لكنه انعكاس لذرات صغيرة في الفضاء. فلما كان النور والظلمة ليسا شيئًا محسوسًا وإنما يظهران في غيرهما، عبَّر عنها بكلمة (جعل)، وهذا لا شك أنه أبلغ من أن نقول: إنه ليس بينهما فرق، وإنما اختلف اللفظ فقط.
الفائدة التاسعة: ما يحصل من جمع الظلمات وإفراد النور، بعضهم قال: إن النور أفرد؛ لأنه شيء واحد، فالنور نور، والظلمات جمعت؛ لأنها تختلف باختلاف الجرم الذي حصلت به الظلمة، فمثلًا لو كان معك زجاجة مشمعة، وجعلتها بين اللمبة وبين الأرض صار هناك ظلمة لكنها خفيفة، وإذا جعلت شيئًا ثخينًا صار ظلمة سوداء بيِّنة، فلذلك جمعت الظلمات من أجل أن الظلمة تختلف بحسب الجسم الذي أوجدها، أو الذي وجدت به.
وبعضهم قال؛ لأن الظلمات هي الأصل والنور طارئ عليها، والظلمات معروف أنها تختلف، فمثلًا الظلمات في وقتٍ تكون السماء فيه ملبدة بالغيوم، ليس كما إذا كانت السماء صحوًا، والظلمات في قاع البحر ليست كالظلمات في سطح البحر، وهلم جرا هذا إذا قلنا أن المراد بالظلمات والنور ما كان
1 / 20
حسيًا منهما، أما إذا قلنا - وهو الصحيح - إنه يشمل الظلمات الحسية والمعنوية، وكذلك النور الحسي، والمعنوي فالأمر ظاهر؛ لأن شُعَبَ الكفر كثيرة، والإيمانَ شيء واحد، وفروعه مجرد فروع، وإلا فإن أصله ثابت وصراط الله تعالى واحد، والطرق الأخرى متعددة، قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣].
الفائدة العاشرة: سفه الكفار، وأنهم لا عقول لهم، وجهه أنه بعد ظهور هذه الآيات العظيمة، عدلوا بالله ﷿، وجعلوا له عديلًا وندًا، وهذا يدل على سفههم وإن كانوا أذكياء، ويؤيد هذا قول الله ﵎: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠]، وبأن الله تعالى دائمًا ينعي على الكفار فقدهم العقل؛ كقوله تعالى: ﴿أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ والآيات في هذا كثيرة، وهذا هو الحق أن الكفار ليسوا عقلاء، والمراد بنفي العقل هنا نفي عقل التصرف، لا عقل الإدراك فهم عقلاء من جهة الإدراك، ولهذا تلزمهم الطاعات ويلزمهم الإسلام، لكنهم ليسوا عقلاء من حيث التصرف، بل هم سفهاء، وما أحسن ما قال شيخ الإسلام ﵀ عن المتكلمين قال: إنهم أوتوا فهومًا، ولم يؤتوا علومًا، وأوتوا ذكاء، ولم يؤتوا زكاء (^١) فهم عندهم فَهم لكن ليس عندهم علم، يعني: بالشريعة، وعندهم إدراك لكِن ليس عندهم عقل.
الفائدة الحادية عشرة: أن ربوبية الله تعالى عامة للمؤمن
_________
(^١) الفتوي الحموية الكبرى (ص ٥٥٦) طبعة دار الأصمعي، ومجموع الفتاوى (١٢٣/ ٧١) طبعة مجمع الملك فهد.
1 / 21
والكافر لقوله: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾، فجعل ﷾ نفسه ربًا لهؤلاء ولا إشكال في ذلك، فهذه هي الربوبية العامة، وهناك ربوبية خاصة بالمؤمنين تقتضي الكلاءة والعناية والحفظ والتربية، وقد اجتمع النوعان في قول سحرة فرعون: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢)﴾ [الأعراف: ١٢١، ١٢٢]، فالأولي عامة، والثانية خاصة.
* * *
* قال الله ﷿: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢)﴾ [الأنعام: ٢].
لما ذكر خلق السماوات والأرض ثنّى بخلقنا نحن فقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾، والطين هو: التراب المبلول بالماء، أو المخلوط بالماء، وهو معروف؛ وذلك بخلق أصلنا وهو آدم، أما الإنسان فقد خُلِق من ماء مهين، من النطفة، لكن اَدم خُلِق من طين.
قوله: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا﴾، أي: قدّر أجلًا انقضى وانتهى.
قوله: ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾، أي: معلوم عند الله، وهنا الأفضل أن نقف على قوله ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا﴾ ولا نصل؛ لأن الوصل قد يُشْعِرُ بالتناقض، وَجْهُه: أن الأول منصوب (أجلًا)، والثاني مرفوع (وأجلٌ)، والحكم أيضًا مختلف، كما يتبين إن شاء الله في الفوائد.
وقوله: ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾، أي: عند الله وهو قيام الساعة، فإن هذا مما يختص الله به ﷿ قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٦٣] وقال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾
1 / 22
[الأعراف: ١٨٧] هذا علمه عند الله، لا أحد يعلمه، ولا أحد يعلم عن انقضائه، أما الأجل الأول فنحن نعرف انقضاءه إذا وجدنا الرجل أنشأه الله ثم أماته، فقد قضى الله أجله، لكن الأجل المسمى المعلوم عند الله ﷿، فهذا يختص الله بعلمه.
قوله: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾، أي: بعد أن عرفتم أنكم خلقتم من طين وأن الآجال تنقضي بعلم منكم، وأجل آخر غير معلوم، بعد هذا ﴿تَمْتَرُونَ﴾، والامتراء: هو الشك، أي: تشكون في البعث، فانظر كيف ذكر الله ﷿ في الآية الأولى شرك هؤلاء الكفار بربهم، ثم ذكر نوعًا آخر وهو الكفر باليوم الآخر؛ لأن الشك بما يجب فيه اليقين كفر.
من فوائد الآيات الكريمة:
الفائدة الأولى: أن بني آدم حادثون بعد أن لم يكونوا؛ لقوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾. وقد قال الله ﵎: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (١)﴾ [الإنسان: ١]. (هل): بمعنى: (قد)، فمَنْ عُمْرُه عشرون سنة هو قبل إحدى وعشرين سنة لم يكن شيئًا مذكورًا، فأوجده الله، ففيه دليل على حدوث بني آدم وأنهم مخلوقون من العدم.
الفائدة الثانية: الإشارة إلى أصل بني آدم وأنهم من الطين، والطين من الأرض، وقد قال الله تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (٥٥)﴾ [طه: ٥٥].
فإن قال قائل: ما الجمع بين قوله تعالى في هذه الآية: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾ قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (٦)﴾ [الطارق: ٥، ٦]؟
1 / 23
الجواب: الطين باعتبار الأصل، والماء الدافق باعتبار الفرع المتولد من الأصل.
لو قال قائل: ما الجمع بين هذه الآية وبين قول الله ﵎: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ﴾ [الحجر: ٢٦]، وقوله تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ [فاطر: ١١]؟
فالجمع بينهما أن أصل بني آدم تراب صُبَّ عليه الماء فصار طينًا، ثم بقي زمنًا، أي: مدة طويلة حتى صار صلصالًا؛ لأنه صار أسود، وإذا صنع منه الشيء صار صلصالًا له صوت، أي: إذا ضربته بإصبعك صار له صوت فلا خلاف، ولا تناقض.
واعلم أنه لا يمكن أن يقع التناقض بين دليلين قطعيين أبدًا؛ لأنه لو وجد التعارض بينهما لم يكونا قطعيين؛ لأن القطعي، يعني: أن غيره لا يمكن، فلا يمكن التعارض بين دليلين قطعيين أبدًا لا في القرآن، ولا في السُّنَّة، ولا فيما بين القرآن والسُّنَّة، ولا بين الأدلة العقلية وَالنقلية؛ لأنه لو تصورنا هذا فأحدهما قطعًا غير صحيح، إذ إن الدليلين القطعيين لا تكون النسبة بينهما التناقض، فالنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، لا بد من وجود أحدهما، ولا يمكن أن يجتمعا جميعًا ولا أن يرتفعا جميعًا، فإذا ترائي لك التعارض بين دليلين قطعيين فاعلم أن الخطأ من فهمك، وأنه يمكن الجمع بينهما، وإلا لا يكون أحدهما قطعيًا، فيكون الحكم للقطعي، أما إذا كانا ظنيين فيمكن التعارض، وحينئذ ينظر للترجيح، فإذا كان في القرآن ما ظاهره التعارض على وجه قطعي فاعلم أن هذا لا يمكن أبدًا، فإما أن تكون الدلالة غير قطعية، وإما أن يكون الحكم منسوخًا، أما أن يبقي الحكم والدلالة قطعية في الآيتين مثلًا فإن ذلك لا يمكن.
1 / 24