. فقد أخذوا الأمر المادي فقط من كتبهم.. والله تبارك وتعالى أكد الإيمان باليوم الآخر حتى يعرف الذين يقولون آمنا بالله وكتبه ورسله ولا يلتفتون إلى اليوم الآخر، أنهم ليسوا بمؤمنين، فلو لم يجئ هذا الوصف في القرآن الكريم ربما قالوا إن الإسلام موافق لما عندنا، ولكن الله جل جلاله يريد تصوير الإيمان تصويرا كماليا بأن الإيمان بالله قمة ابتداء والإيمان باليوم الآخر قمة انتهاء.. فمن لم يؤمن بالآخرة وأنه سيلقى الله وسيحاسبه.. وأن هناك جنة ينعم فيها المؤمن، ونارا يعذب فيها الكافر يكون ايمانه ناقصا، ويكون قد اقترب من الكافر الذي جعل الدنيا غايته وهدفه. فالمؤمن يتبع منهج الله في الدنيا ليستحق نعيم الله في الآخرة.. فلو أن الآخرة لم تكن موجودة، لكان الكافر أكثر حظا من المؤمن في الحياة.. لأنه أخذ من الدنيا ما يشتهيه ولم يقيد نفسه بمنهج، بل أطلق لشهواته العنان.. بينما المؤمن قيد حركته في الحياة طبقا لمنهج الله وتعب في سبيل ذلك. ثم يموت الاثنان وليس بعد ذلك شيء.. فيكون الكافر هو الفائز بنعم الدنيا وشهواتها. والمؤمن لا يأخذ شيئا والأمر هنا لا يستقيم بالنسبة لقضية الإيمان.. ولذلك كان الإيمان بالله قمة الإيمان بداية والإيمان بالآخرة قمة الإيمان نهاية.
[2.5]
قوله تعالى: أولئك إشارة إلى الذين تنطبق عليهم كل الصفات التي يبينها الله سبحانه وتعالى في الآيتين السابقتين، فأولئك الذين تنطبق عليهم هذه الصفات وصلوا الى الهدى أي: إلى الطريق الموصل للإيمان، ووصلوا إلى الفلاح، وهو الهدف من الإيمان. وقوله تعالى: { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } [البقرة: 5] تشمل الجميع. ولكن لماذا استخدم الله تبارك وتعالى { أولئك } مرتين؟ تلك من بلاغة القرآن الكريم، ولماذا دمج الخبرين مع بعضهما؟ حتى نعرف أنه ليس في الإسلام إيمانان، بل إيمان واحد يترتب عليه جزاء واحد.. وسيلته الهدى، وغايته الفلاح.. ولو نظر إلى التكليفات التي هي الهدى الموصلة إلى الغاية نجد أن الله سبحانه وتعالى رفع المهتدي على الهدى.. لنعرف أن الهدى لم يأت ليقيد حركتك في الحياة ويستذلك، وانما جاء ليرفعك. إن السطحيين يعتقدون أن الهدى يقيد حركة الإنسان في الحياة ويمنعه من تحقيق شهواته العاجلة.. ولكن الهدى في الحقيقة يرفع الإنسان ويحفظه من الضرر، ومن غضب الله، ومن إفساد المجتمع الذي سيكون هو أول من يعاني منه.. لذلك قال تبارك وتعالى: { على هدى.. } [البقرة: 5]. و على تفيد الاستعلاء. فإذا قلت أنت على الجواد فإنك تعلوه.. كأن المهتدي حين يلزم نفسه بالمنهج لا يذل.. ولكنه يرتفع إلى الهدى ويصبح الهدى يأخذه من خير إلى خير، وذلك بعكس الضلالة التي تأخذ الإنسان إلى أسفل.. وذلك حين تقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى:
وإنآ أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين
[سبأ: 24]. ترى ما يفيد الارتفاع والعلو في الهداية، وما يفيد الانخفاض والنزول في الضلالة وإنما كان العلو في الهدى، لأن المنهج قيد حركة حياتك إعزازا لك لعلوك وسمو مقامك في أنك لا تأخذ من بشر تشريعا.. ولا تأخذ من ذاتك حركة.. وإنما يرتفع بك لتتلقى عن الله سبحانه وتعالى.. وهذا علو كبير، ولكن عند الضلال قال: " في ضلال ".. وفي تدل على الظرفية المحيطة.. وهو كما وصفه الله سبحانه وتعالى في آية أخرى بقوله جل جلاله:
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
[البقرة: 81]. أحاطت به الخطيئة.. أي لا يستطيع أن يفلت منها لأنه مظروف في الضلال.. وما دامت الخطيئة محيطة به فلا يجد منفذا لأنها تحكمه.. وما دامت تحكمه فلا يمكن أن يصل إلى هدى مطلقا.. فالحق سبحانه وتعالى حينما قال: { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } [البقرة: 5].. اختار لفظا عليه دلالة دنيوية تقرب المعنى إلى السامع.
ما هو الفلاح؟.. المعنى العام هو الفوز والمفلح هو الفائز. ومعنى الآية الكريمة أولئك هم الفائزون وقال: " هم المفلحون ".. لأن الفلاح مأخوذ من شق الأرض للبذر.. ومنه سمي الفلاح الذي صفته شق الأرض ورمي البذور فيها. والحق سبحانه تعالى جاء بهذا اللفظ بالنسبة للآخرة لآنه يريد أن يأتي لنا مع الشيء بدليله.. وهناك فرق بين أمر غيبي عنا لا نعرفه، وأمر غيبي يستدل عليه بمشهود. فالدين يقيد حريتك في الحياة في أن تفعل ولا تفعل.. ومنهج الله جاء ليقول لك: افعل كذا ولا تفعل كذا. وكثير من الناس يظن أن ذلك تقييد لحركة حياة المؤمن وإثقال عليه.. لأنه أخذ منه حرية حركته فقيدها. إن الله تبارك وتعالى حين يقول لك: لا تفعل.. معناها عند السطحيين أنه ضيق عليك ما تريد أن تفعله.. وحين يقول لك افعل.. معناها يكون قد ضيق عليك في شيء لا تريد أن تفعله.. فمثلا: حين يطلب منك الزكاة، فالزكاة في ظاهرها نقص المال، وإن كانت في حقيقتها بركة ونماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه "
فالحق سبحانه وتعالى إذا قيد حركتك في الحياة.. لا تظن أن هذا تضييق عليك، بل إن هذا لفائدتك.. لأنه لم يأمرك وحدك، ولكن الأمر للناس جميعا حين يقول جل جلاله: لا تسرق.. فقد قالها للناس جميعا ولذلك تكون أنت الرابح.. لأنه قيدك وأنت فرد من أن تسرق من غيرك.. ولكنه قيد ملايين الناس من أن يسرقوا منك.. إذن فالله لم يضيق عليك، ولكنه حمى مالك من الناس كل الناس.. قيدك وأنت فرد أن تسرق من مال غيرك، وقيد ملايين أن يسرقوا من مالك.. فمن الفائز؟.. أنت طبعا. وقوله تعالى: { وأولئك هم المفلحون } [البقرة: 5] المفلحون من مادة فلح.. فإذا كانت الأرض صماء فحينما نشقها ونبذرها تعطي محصولا عظيما، العملية أخذناها أبا عن جد.. فالأرض حين تشق وتبذر تعطي محصولا وافرا.. وإذا كانت هذه العملية أخذت أبا عن جد.. يأتي السؤال من الذي علم آدم البذر والزرع؟.. نقول علمه الله سبحانه وتعالى كما علمه الأسماء.. وكما علمه ما يمكنه به أن يباشر مهمته في الأرض. والحق جل جلاله لم يكن يترك آدم في حياته على الأرض دون أن يعلمه ما يضمن استمرار حياته وحياة أولاده.. يعلمه على الأقل بدايات.. ثم بعد ذلك تتطور هذه البدايات بما يكشفه الله من علمه لخلقه.
Неизвестная страница