195

[النساء: 5]. نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى سمى أموال السفهاء بأموالي الولي ولم يعتبرها مال السفيه لأنه ليس أهلا للقيام عليها.. وجعل هذه الأموال تحت إشراف شخص آخر أكثر نضجا وحكمة. وقوله تعالى: " أموالكم " ليكون الولي أو الوصي حريصا عليها كماله أو أكثر ولكن هو قيم فقط.. فإذا بلغ الإنسان سن الرشد أو شفي السفيه من سفاهته يرد إليه ماله ليتصرف فيه. ونحن نرى عددا من الأبناء يرفعون قضايا على آبائهم وأمهاتهم يتهمونهم فيها بالسفه لأنهم لا يحسنون التصرف في أموالهم.. ثم يأخذون هذه الأموال ويبعثرونها هم.. والذي يجب أن يعلمه كل من يقوم بهذه العملية أنه لا حق له في إنفاق المال وتبذيره لحسابه الخاص، ولكن هناك حكمين: إما أن يكون الشخص فقيرا فله أن يأكل بالمعروف.. وإما أن يكون غنيا فيجعل عمله في الولاية لله لا يتقاضى عنه شيئا.. أما أن يأخذ المال ويبعثره على نفسه وشهواته وعلى زوجته وأولاده فهذا مرفوض ويحاسب عليه.. والله سبحانه وتعالى يقول:

ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف..

[النساء: 6]. إذن: الذي يعرض عن ملة إبراهيم هو سفيه، لا يملك عقلا يميز بين الضار والنافع. ويقول الله سبحانه وتعالى: { ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [البقرة: 130].. اصطفاه في الدنيا بالمنهج، وبأن جعله إماما وبالابتلاء.. وكثير من الناس يظن أن ارتفاع مقامات بعضهم في أمور الدنيا هو اصطفاء من الله لهم بأن أعطاهم زخرف الحياة الدنيا، ويكون هذا مبررا لأن يعتقدوا أن لهم منزلة عالية في الآخرة.. نقول لا، فمنازل الدنيا لا علاقة لها بالآخرة. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: { ولقد اصطفيناه في الدنيا } [البقرة: 130].. وأضاف: { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [البقرة: 130].. لنعلم أن إبراهيم عليه السلام له منزلة عالية في الدنيا ونعيم في الآخرة أي الاثنين معا.

[2.131]

والله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه قال لإبراهيم أسلم فقال أسلمت.. إذن: فمطلوب الحق سبحانه وتعالى من عبده أن يسلم إليه.. ولم يقل الحق أسلم إلي، لأنها مفهومة.. ولم يقل أسلم لربك لأن الإسلام لا يكون إلا لله. لأنه هو سبحانه المأمون علينا.. على أن إبراهيم عليه السلام قال في رده: { أسلمت لرب العالمين } [البقرة: 131]. ومعنى ذلك أنه لن يكون وحده في الكون. لأنه إذا أسلم لله الذي سخر له ما في السماوات والأرض.. يكون قد انسجم مع الكون المخلوق من الله للإنسان.. ومن أكثر نضجا في العقل ممن يسلم وجهه لله سبحانه.. لأنه يكون بذلك قد أسلمه إلى عزيز حكيم قوي لا يقهر، قادر لا تنتهي قدرته.. غالب لا يغلب، رزاق لا يأتي الرزق إلا منه . فكأنه أسلم وجهه للخير كله. والدين - عند الله سبحانه وتعالى منذ عهد آدم إلى يوم القيامة - هو إسلام الوجه لله، ولماذا الوجه؟ لأن الوجه أشرف شيء في الإنسان يعتز به ويعتبره سمة من سمات كرامته وعزته.. ولذلك فنحن حين نريد منتهى الخضوع لله في الصلاة نضع جباهنا ووجوهنا على الأرض.. وهذا منتهى الخشوع والخضوع أن تضع أشرف ما فيك وهو وجهك على الأرض إعلانا لخضوعك لله سبحانه وتعالى. والله جل جلاله يريد من الإنسان أن يسلم قيادته لله.. بأن يجعل اختياراته في الدنيا لما يريده الله تبارك وتعالى.. فإذا تحدث لا يكذب، لأن الله يحب الصدق، وإذا كلف بشيء يفعله لأن التكليف في صالحنا ولا يستفيد الله منه شيئا.. وإذا قال الله تعالى تصدق بمالك أسرع يتصدق بماله ليرد له أضعافا مضاعفة في الآخرة وبقدرة الله. وهكذا نرى أن الخير كله للإنسان هو أن يجعل مراداته في الحياة الدنيا طبقا لما أراده الله.. وفي هذه الحالة يكون قد انسجم مع الكون كله وتجد أن الكون يخدمه ويعطيه وهو سعيد. أما من يسلم وجهه لغير الله فقد اعتمد على قوي يمكن أن يضعف، وعلى غني يمكن أن يفتقر.. وعلى موجود يمكن أن يموت ويصبح لا وجود له.. ولذلك فهو في هذه الحالة يتصف بالسفاهة لأنه اعتمد على الضار وترك النافع.

[2.132]

عندما تقرأ كلمة " وصى " فاعلم أن الوصية تأتي لحمل الإنسان على شيء نافع في آخر وقت لك في الدنيا لأن آخر ساعات الإنسان في الدنيا إن كان قد عاش فيها يغش الناس جميعا فساعة يحتضر لا يغش نفسه أبدا ولا يغش أحدا من الناس لماذا؟ لأنه يحس أنه مقبل على الله سبحانه فيقول كلمة الحق. النصح أو الوصية هي عظة تحب أن يستمسك بها من تنصحه، وتقولها له مخلصا في آخر لحظة من لحظات حياته.. ولذلك سيأتي الله سبحانه وتعالى ليبين لنا ذلك في قوله:

أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي

[البقرة: 133]. وهكذا يريد الله سبحانه أن يبين لنا أن الوصية دائما تكون لمن تحب.. وأن حب الإنسان لأولاده أكيد سواء أكان هذا الإنسان مؤمنا أم كافرا.. ونحن لا نتمنى أن يكون في الدنيا من هو أحسن منا إلا أبناؤنا ونعمل على ذلك ليكون لهم الخير كله. وصى إبراهيم بنيه، ويعقوب وصى بنيه.. وكانت الوصية { يابني إن الله اصطفى لكم الدين } [البقرة: 132] إذن: فالوصية لم تكن أمرا من عند إبراهيم ولا أمرا من عند يعقوب. ولكن كانت أمرا اختاره الله للناس فلم يجد إبراهيم ولا يعقوب أن يوصيا أولادهما إلا بما اختاره الله.. فكأن إبراهيم ائتمن الله على نفسه فنفذ التكاليف وائتمنه على أولاده فأراد منهم أن يتمسكوا بما اختاره لهم الله. قوله تعالى: { ووصى بهآ إبراهيم بنيه ويعقوب.. } [البقرة: 132].. إبراهيم هو الأب الكبير وابنه إسحاق وابن إسحاق يعقوب.. ويعقوب هو الأب المباشر لليهود.. ويعقوب وصاهم كما يروي لنا القرآن الكريم: { يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [البقرة: 132]. أنت لا تنهى إنسانا عن أمر إلا إذا كان في إمكانه أن يتجنبه، ولا تأمره به إلا إذا كان في إمكانه أن ينفذه.. فهل يملك أولاد يعقوب أن يموتوا وهم مسلمون؟ والموت لا يملكه أحد.. إنه يأتي في أي وقت فجأة.. ولكن ما دام يعقوب قد وصى بنيه: { لا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [البقرة: 132] فالمعنى لا تفارقوا الإسلام لحظة حتى لا يفاجئكم الموت إلا وأنتم مسلمون. والله سبحانه وتعالى أخفى موعد الموت ومكانه وسببه.. ليكون هذا إعلاما به ويتوقعه الناس في أي سن وفي أي مكان وفي أي زمان.. ولذلك قد نلتمس العافية في أشياء يكون الموت فيها.. والشاعر يقول:

إن نام عنك فكل طب نافع

Неизвестная страница