تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض)
قال سبحانه ﵎: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ﴾ [الحج:١٨].
لما ذكر الله الذين اختلفوا في عبادة رب العالمين، ناسب أن يذكر أن هنالك من لم يختلف في عبادة ربه سبحانه ﵎، وعبدوه، وما يكون هؤلاء الكفرة بجوار هذه الأشياء العظيمة؟ ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ [النازعات:٢٧ - ٢٨].
فالله سبحانه ﵎ خلق السماوات وخلق كل ما فيها، وهم أكثر من البشر بكثير، وأقوى منهم بكثير، وكلهم يسجد لله طائعًا ويعبد ربه سبحانه ويسبح بحمد ربه، قال الله: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الإسراء:٤٤]، فالذين كفروا بالله سبحانه لا قيمة لهم، إنهم قوم في الأرض، والأرض كلها ما تساوي ذرة في ملكوت الله سبحانه ﵎! الرؤيا هنا رؤية قلبية، يعني: ألا يعتقد قلبك وعقلك ذلك، فأنت ترى تسخير الله سبحانه ﵎ لهذه الأشياء، فهي مسخرة بقدرة الله سبحانه، فهي متحركة بأمر الله سبحانه ﵎، النجوم والكواكب والشموس والأقمار كلها خلقها الله، وخلق لها مساراتها التي تسير فيها طائعة أو كارهة، تسير في هذا المسار، فالله ﷿ خلق السماوات والأرض وقال لهما: ﴿اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت:١١]، قالتا: أتينا طائعين، ولسنا كارهين لعبادته، ولسنا مكرهين على ذلك، ولكننا أتينا طائعين.
فربنا يقول للخلق: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ﴾ [الحج:١٨] سجودًا حقيقيًا، وقد جاء في حديث النبي ﷺ أن الشمس تسجد تحت عرش الرحمن حتى يأذن لها سبحانه فتطلع من مشرقها، ثم يوم القيامة لا يؤذن لها فتطلع من مغربها، فكل شيء يسجد لله مطيعًا وكارهًا، فالسجود بمعنى الطاعة، والسجود بمعنى العبادة لله، فيسجد له كل شيء من الخلق.
قال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ﴾ [الحج:١٨] من في السماوات من ملائكة ومن خلق يعلمه الله سبحانه: ﴿وَمَنْ فِي الأَرْضِ﴾ [الحج:١٨] كل من في الأرض من الإنسان والجان والحيوان والدواب والحشرات والجماد والنبات، فلما سجدوا لرب العالمين عاملهم معاملة العقلاء؛ لأنهم يسجدون ويسبحون؛ فلذلك قال: (من) وما قال: (ما) قال هنا: (من في السماوات ومن في الأرض)، وإن كان فيها الجمادات.
قال: ﴿وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ﴾ [الحج:١٨] نصص على هذه لأن من الخلق من عبد الشمس من دون الله سبحانه، ومنهم من عبد القمر من دون الله، ومنهم من عبد الكواكب من دون الله، فقال: ﴿وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ﴾ [الحج:١٨] كل هذه تسجد لرب العالمين مطيعة له سبحانه ﵎.
قال: ﴿وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ﴾ [الحج:١٨] الجبل يسجد لرب العالمين، والكافر يأخذ حجرًا من الجبل يعبده من دون الله سبحانه! والشجر يسجد لرب العالمين، وذاك يأتي بشجرة يغطيها ويعبدها ويقول: هذه الإله من دون الله سبحانه ﵎! فهذه الكائنات كلها أعقل من الكافر الذي لا يعبد ربه سبحانه.
قال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ [الحج:١٨] كل ما يدب على الأرض وكثير من الناس، كثيرون منهم، وأما الأكثر فكما قال الله: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام:١١٦]، فالأقل المؤمنون، والأكثر الكفرة، فالمؤمنون كثيرون وهم يعبدون الله ويسجدون له سبحانه، وغيرهم حق عليهم العذاب، وهم الأكثر الذين عبدوا غير الله سبحانه.
20 / 5