وعندما لاحت نذر الحرب العالمية الثانية، وطلب من جمعيته أن ترسل برقية تأييدا لفرنسا قال ابن باديس: «لن أمضيها ولو قطعوا رأسي» وترفض أغلبية الأعضاء، ثم يعلن ابن باديس: «ولو كان أغلبيتكم تؤيد إرسال البرقية ما كنتم ترونني في مجلسكم هذا بعد اليوم» ثم قال: «تقطع يدي، ولا أوافق المجرم على إجرامه، والظالم على ظلمه».
وهكذا عاش من نفسه الكبيرة في جيش، وإن خيل أنه إنسان.
ويستدعيه حاكم قسنطينة (الفرنسي) والحرب الثانية على الأبواب، ليسأله عن مصيرها ومصير الجزائر معها؟
وفي موقف صلب، وتقريع مؤلم، وتوبيخ بين، يجيبه ابن باديس:
«إن الجزائر ثلاث طبقات: طبقة الأكثرية وقد قتلتم إحساسها بالحياة، فهي لا تفرق بين فرنسا وبين ابن باديس.
وطبقة الأقلية الواعية، وقد ملأتم أفواهها بعظم الوظيف تلوكه بين أشداقها وهي تحسب أنه غذاء.
وطبقة المعزولين (يقصد أعضاء جمعية العلماء المسلمين المضطهدين المطاردين) يعيشون للمستقبل، ولا خطر منهم على دولتكم اليوم» ثم انصرف الشيخ.
وتضيق به الطرقية والاستعمار، فيوعزون إلى مجرم بالترصد للشيخ ابن باديس لقتله ليلا بعد انصرافه من مسجده، ويشهر المجرم السكين على الشيخ ويمسك الشيخ بتلابيب المجرم والسكين في يده، ويتقاطر الناس لنجدته، ثم يعفو الشيخ عن الجاني، لأنه جاهل، ولأنه آلة في يد غيره.
ويسجل هذا الحادث في قصيد طويل شاعر الجزائر الشيخ محمد العيد، فيقول في مطلعه:
حَمَتْكَ يَدُ المَوْلَى وَكُنْتَ بِهَا أَوْلَى ... فَيَا لَكَ مِنْ شَيْخٍ حَمَتْهُ يَدُ الَمْولَى
وتنبأ بإعلان الثورة الكبرى على فرنسا، وعبأ لها الجهود، وأشار إلى جبال (أوراس) الحصينة، وقال لأبنائه وطلابه: «من هنا تبدأ الثورة».
بل وحدثني بعض أصدقائه وطلابه، بأنه بايع بعضهم فردا فردا، استعدادا للتعبئة ولإعلان الجهاد الإسلامي والحرب ضد فرنسا، ولكن المنية عاجلته.
وهكذا ظل ابن باديس طول حياته مجاهدا، فكان الحركة التي لا تهدأ في خدمة الإسلام بالتعليم والتوجيه، ولا نظن عالما من علماء العصر- في وقته- بذل من الفكر والجهد في إعلام كلمة الله، وإنقاذ تراثنا وتوجيه مجتمعنا ما بذل هذا الإمام العظيم.
1 / 13