بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ـ[تفسير الإيجي جامع البيان في تفسير القرآن]ـ
المؤلف: محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الحسني الحسيني الإِيجي الشافعيّ (المتوفى: ٩٠٥هـ)
دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى، ١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٤ م
عدد الأجزاء: ٤
أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مقابل]
_________
تنبيه مهم:
تم تصويب بعض الكلمات الموجودة في أصل الكتاب المطبوع فمثلا كلمات مثل قريش - مكة - بدر - (شهر) صَفَر الخ تجدها مكتوبة هكذا القريش - المكة - البدر - (شهر) الصَفَر.
تم تصويب هذه الكلمات وإضافة بعض التعليقات في بعض المواضع بالإضافة إلى تصويب بعض التصحيفات التي غفل عنها محقق الكتاب - غفر الله تعالى لنا وله.
وقد نبهت على بعضها، لكنها لما كثرت اكتفيت بوضع الصواب بين معقوفتين []. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
1 / 2
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
لفضيلة الدكتور / عبد الحميد هنداوي الأستاذ بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب والفرقان، وأصلى وأسلم على حامل لواء الفصاحة والبيان، محمد وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان.
وبعد، فهذا كتاب في التفسير قلَّ أن تجد مثله، فهو قصد ووسط بين المختصرات والمطولات، يوضح العبارة بأيسر إشارة، ويجمع الكثير من المعاني بقليل من الألفاظ الدواني، ويلخص الأقوال، ويرجح المقال على المقال، ويشير إلى أسرار الإعجاز بشيء من الإيجاز، ويرد الأقوال الممتحلة من الفلاسفة والمعتزلة، وينافح عن كلام رب العالمين برد كلام المبطلين والغالين.
وقد كتبه مصنفه بعد تردد وتأخر، لكنه عزم عليه كما يقول لما لم يجد " في التفسير مختصرًا يغني، وكتابًا يقرب ويدني ".
وبالحق كان كتابه سدًّا لهذه الثغرة، فكان مختصرًا يغني، وكتابًا يقرب ويدني؛ فهو على اختصاره يغني عما سواه من المطوّلات، وعلى وجازة إشارته يقرب المعنى البعيد ويدنيه، وكان من خير ما قدر لهذا الكتاب أنه حاز الفضل من جهتين:
من جهة مصنفه (الإيجى) ﵀ في حسن تصنيفه والعناية بتأليفه، وتحرير مسائله العقدية واللغوية والبلاغية.
ثم من جهة محشّيه (الغزنوي) ﵀ الذي خدم هذا الكتاب خدمة جليلة لا تقل عن خدمة مصنفه الأصلي بل تزيد، حيث إنه قد انبرى لما فات المصنف أن ينبه عليه مما يخالف عقيدة السلف أو ما وقع فيه المصنف نفسه من باب الخطأ والزلل في مخالفة عقيدة السلفى الصالح (رضوان الله عليهم جميعًا) فانبرى لذلك الشيخ الغزنوي ﵀ وقد كان سنيًّا سلفيًّا واضح المذهب مقتديًا بالإمامين ابن تيمية وابن القيم - رحمهم الله تعالى جميعًا - ويكثر النقل عنهما؛ فخلّص الكتاب مما قد يشوبه أو يشينه من
1 / 3
المخالفات فأصبح بحمد الله تعالى بارئًا، وصفاه من الكدر فصار بمنة الله تعالى عسلًا مصفى ولبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذا من فضل الله ورحمته للعالمين.
هذا، وقد عهدت إلى دار الكتب العلمية بتحقيق هذا السفر العظيم، غير أني قد انتابتني الشواغل والموانع دون إتمامه فقام على إتمام تخريجه وتصحيحه ومراجعته جماعة من الأفاضل، واقتصر دوري فيه على النظر فيه ومراجعته والتعليق على بعض مواضعه والتقديم له، والله أسأل أن ينفع به، وأن يجزل الثوبة لكل من ساعد فيه أو قدم فيه جهدًا مشكورًا، وأسأله سبحانه أن يجزل لنا المثوبة عليه في الدنيا والآخرة، إنه مولى ذلك والقادر عليه.
وكتب
راجي عفو ربه الغفور
عبد الحميد بن أحمد بن يوسف هنداوي
المدرس بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة
1 / 4
ترجمة المؤلف
اسمه ونسبه:
هو محمد بن صفي الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد السلام وقيل: عبد الله، معين الدين الحسيني الصفوي الإيجي الشيرازي الشافعي.
وذكر نفسه هو في مقدمة كتابه فقال: " وأنا أحوج الخلق إلى رحمة ربه (معين بن صفي) أدركهما الله بلطفه الجليّ والخفيّ ".
مولده:
ولد الإيجي سنة ٨٣٢ هـ الموافق ١٤٢٩ م تقريبًا.
موطنه:
نشًا الإيجي في بلدة " إيج " بنواحى شيراز، وإليهما ينسب.
وإيج " بالجيم ": بلدة كثيرة البساتين والخيرات أقصى بلاد فارس، وأهل فارس يسمونها إيك. ويبدو أنها بلدة يعني أهلها بالعلم والعلماء، فقد نسب إليها عدة من المؤلفين والعلماء، منهم عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، بل نسب إليها كبار المحدثين، وينسب إليها أبو محمد عبد الله بن محمد الإيجي النحوي، روى عن ابن دريد فأكثر.
وشيراز: بالكسر وآخره زاي: بلد عظيم مشهور معروف مذكور، وهي قصبة بلاد فارس، وهي مما استجد عمارتها واختطاطها في الإسلام، وبها جماعة من التابعين مدفونون، وهي في وسط بلاد فارس، وقد نسب إلى شيراز جماعة كثيرة من العلماء في كل فن.
أبوه:
هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الإيجي صفي الدين أبو الفضل الحسيني العجمي الصوفي الشافعي المتوفى بمكة سنة ٨٦٤ هـ، له حاشية على شرح التبادكاني لمنازل السائرين، ولقد بدأ الأب في كتابة تفسير سورة الأنعام، فكتب نبذًا ثم ترك، وقال لابنه: أنت مأمور بذلك.
ولما كان الأب له مشاركة في العلوم الشرعية كان لذلك تأثير على الابن، بل كان الأب سببًا لإكمال الابن كتاب التفسير كما سبق.
1 / 5
اجتهاده العلمى:
لقد انشغل الإيجي بجوانب متعددة من الفروع العلمية، وبرع في بعضها ومما يدل على ذلك الأوصاف التي وصف بها فى ترجمته فقد وصف بأنه مفسر ومحدث ونسب إلى مذهب الشافعي.
١ - التفسير:
لقد انشغل الإيجي بعلم التفسير، ووقف على كتب عدة في جمعه لمادة تفسيره، وله كتب في التفسير منها: تفسير سورة الفاتحة، جامع البيان في تفسير القرآن وهو الذي نقدم له.
ومما يدل على براعته في التفسير أنه يجمع في تفسير الآية أقوالًا كثيرة بأوجز عبارة وألطف إشارة، وهذا لا يستطيعه إلا من كان بالتفسير خبيرًا وبطرق المفسرين وعباراتهم بصيرًا، حتى قال عن نفسه كما في مقدمة تفسيره: " ثم اعلم أن ما يحتويه أكثر التفاسير ترى في هذا التفسير مع معانٍ صحيحة نفيسة لم تجد في كثير منها ".
٢ - الحديث:
كان الإيجي معظمًا للحديث النبوي غير معرض عنه، وله مشاركة بالتأليف في علم الحديث إذ له شرح الأربعين النووية.
وتجده يعيب على من لا يقدم الأخبار النبوية، فيقول في مقدمة التفسير " وكثيرًا تجد الزمخشري ومن يحذو حذوه أعرضوا عن المعنى المنقول عن الرسول ﷺ في الكتب الصحاح لأجل عدم فهم مناسبة لفظية أو معنوية، وإن نقلوه ما ذكروه إلا آخر الأمر بصيغة التمريض، لكن المسلك في تفسيرنا هذا الاعتماد على المعاني الثابتة عمن أنزل عليه الكتاب المتكلم بفصل الخطاب صلى الله عليه وبارك وسلم.
٣ - اعتقاده:
لقد حمل الإيجي حملة شديدة على الفلسفة والفلاسفة، إذ كان مبغضًا لها ومحذرًا منها معظمًا للنصوص الشرعية، بل ألَّف كتابا سمَّاه: " تهافت الفلاسفة ".
ويقول في تفسير سورة البقرة آية ٧٤ في حديثه عن بعض الأمور المردودة: " نعم لمن
1 / 6
يتبع الفلسفة أن يتمحل التَّمَحُّلَ (١) في أمثال ذلك والله تعالى بمحض فضله قد عصمنا منه ".
وكان له موقف من الاعتزال عمومًا ومن الزمخشري خصوصًا، فيقول في مقدمة لتفسير: " كتاب موفًّى فيه الحكمة والمعرفة، مصفى عن الاعتزال والفلسفة ".
ويقول: " فإن قرع سمعك شيء يخالف الكشاف ومن تبعه فلا تعجل إلى الرد نكارًا، وارجع بصر البصيرة لعلك تجد من جانب طور العلم نارًا ".
ومع تعظيمه للنصوص الشرعية وموقفه من الاعتزال والفلسفة ونقله الكثير عن السلف إلا أننا نجد عنده آثارًا صوفية ربما كان سببها كون أبيه صوفيًّا، ومن أمثال ذلك ما تجده في كلامه عن النبي ﷺ في مقدمة التفسير، ولقد أجاد الغزنوي صاحب الحاشية في بيان خطأ ما صنع، والتحذير مما فيه وقع، وأحيانًا يمشي في تفسير آيات أسماء الله وصفاته على طريقة الأشاعرة، وربما ينقل في تفسيرها قول السلف مُتْبعًا إياه بكلام الأشاعرة، فتراه في تفسير قوله تعالى: (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) من سورة البقرة يقول: " لا يرضيه " جاريا مجرى الأشاعرة في تأويل الصفات إلى السبعة التي يثبتوتها، فيقولون معنى الحب: الرضا مخالفين بذلك طريقة السلف، ومثال جمعه بين طريقة السلف وطريقة الأشاعرة قوله في تفسير قوله تعالى: (أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) من سورة البقرة: " مذهب السلف الإيمان بمثل ذلك ووكول علمه إلى الله تعالى أو تقديره: يأتيهم بأسه ".
وجدير بالذكر أن الغزنوي صاحب الحاشية أشار في مواضع كثيرة إلى طريقة السلف في فهم آيات أسماء الله وصفاته وأن هذه الطريقة هي التي يجب اتباعها إلا أنه لم يتتبع كل موضع يحتاج إلى هذا التنبيه.
* * *
مذهبه:
وصفه من ترجموا له بأنه كان شافعيًّا ونقل هو عن مذهب الشافعي في تفسيره.
* * *
لغته:
مع كونه نشأ ببلاد فارس إلا أنه عني بعلوم العربية واجتهد في إتقانها، فضمن
_________
(١) التمحل: المعاداة.
1 / 7
تفسيره كلامًا عن الإعراب وتوجيهات نحوية مما يدل على أن له في علوم العربية باعًا، ولكن ليس كل ما تبغيه تجده فقد ظهر في عباراته جانب من الضعف اللغوي والركاكة فى الأسلوب وعذره في ذلك أنه ليس من العرب الأصلاء وإنما هو أعجمي، وكفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه.
* * *
وفاته:
توفى الإيجي في ٩٠٦ هـ وقيل: ٩٠٥ هـ الموافق تقريبًا ١٥٠٠ م. ووقع على غلاف طبعة باكستان لكتاب التفسير (٨٣٢ هـ - ٨٩٤ هـ) وعلى طبعة الشيخين شاكر والفقي (٨٣٢ هـ - ٩٠٥ هـ).
* * *
كتبه:
لقد أشرنا إلى بعضها آنفًا في طيات حديثنا ولكن ها نحن نذكر ما وقفنا على سبتها له:
١ - تفسير سورة الفاتحة.
٢ - جامع البيان في تفسير القرآن، وبعضهم يسمّيه: جوامع التبيان في تفسير القرآن وهو ما نقدم له بهذه المقدمة).
٣ - تهافت الفلاسفة.
٤ - شرح الأربعين النووية.
٥ - شعب الإيمان.
٦ - حاشية على التلويح للتفتازاني.
٧ - بيان المعاد الجسماني والروح.
1 / 8
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة للمفسر رحمه الله تعالى
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأظهره على الدين كله فالحقّ أحقَّ، والباطل أزهقَ؛ أنزل معه كتابًا قطع أعناق العتاق السَّبَق، وأبكم به البلغاء من العرب العرباء طبقًا بعد طبق، شهد محكم آياته القديمة بأن المُنَزَّلَ حق غير مختلق، ودل مضمون سوره العظيمة على أن رسوله صادق مصدق، فصلِّ يا رب وسلم على سيدي سرى ليلًا إلى السبع الطباق فخرق؛ وبلغت بلاغة كتابه نحوًا لا يسبق، بل شأوًا لا يلحق؛ ثم على آله مظاهر ألطاف الله وأفضاله الذين كل منهم في سماء الشرف قمر إذا اتسق.
أما بعد، فلما أن رأيت همم أبناء العصر قاصرة، ومساعيهم وإن جدوا في الطلب فاترة، قنعوا عن الحقيقة بالمجاز، ومالوا عن التطويل إلى الايجاز، ولعمري يكاد أن يعد ذلك من علو همتهم، وقوة نهمتهم؛ لأنهم أرادوا حوز العلوم بأسرها، وقصدوا
1 / 15
جمع الفنون حبرها وسبرها، وقد علموا بالتجارب أن الخطب خطير، والعمر قصير، والعوائق متلاطمة الأمواج، والبوائق متراكمة الأفواج، فلو استطلعوا على طلل المطولات لوقعوا في فتات الشتات، ويعرض الكل في معرض الفوات، وما رأيت في التفسير مختصرً يغني وكتابً يقرب ويدني - أردت أن أتعرض لهذا مع قلة البضاعة وقصور الباع خصوصً في تلك الصناعة؛ حين كان القلب مشغوفًا بكشف وجوه غمار أسرار نكات الكشاف، والفؤاد مشعوفًا باستخراج فرائد الفوائد عن زخار بحار كلام الأعالي والأشراف، وقد كان الزمان يرافق بالموافقة، والإخوان في ميدان الفضل على المسابقة، وكانت مرآة الذهن مصفاة عن صداء الفتور، ومرقاة الفضل مبرأة عن طراء الكسور، تجول خيول الفهم من غير غائلة الوهم في
معتركهم، وتخول على درك الطرائد في مدركهم ومتركهم، لكن قد استنصت وعادت عواد عن الإقدام على هذا المرام مدة مديدة من الأيام؛ مع أنه قد صدرت
1 / 16
إشارة قدسية تتضمن الالتزام؛ فكم من مرة عزمت وأبت المقادير، ونويت وعرضت امعاذير حتى لازمني رفيق التوفيق، وجاورني فناء بيت الله العتيق، وكحل عيني برؤية أهل الله، ونلت زوارف الفيض من بذل الله؛ أنار في أعشاب كبدي تلك الخامدة، وأدار في دار خلدي تلك الجامدة فاستخرت الله تعالى في الملتزم والمستجار حتى أُلقي في روعى أن لا ضرر ولا ضرار في ذاك الاتجار، ثم صرفت الهمة والعزيمة، وأحكمت النية والصريمة، ونهضت الجناح، وأجبت " حيَّ على الفلاح "، ورفضت غوائل الشواغل، ونفضت دوح الأوائل، فجنيت ثمرة طيبة الطعم والريح، وأحظيت -بحمد الله- بالقدح لا بالسفيح؛ فها قد تم تفسير لاح النور من خلاله، وفاح المسك من أذياله، قد حل عقد المغلقات بما قيد، وبيض وجه المشكلات بما سود، يموج رونق التحقيق في حواشيها، ويقول المتأمل اللبيب: لله دَرُّ واشيها، من مطالعه شمس أنوار التبيان قد طلعت، وأيم الله إنه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، كتاب موفًّى فيه الحكمة والمعرفة، مصفًّى عن الاعتزال والفلسفة، في كل سطر حقائق استلفت أكثرها -بوجه حسن- عن السلف، ودقائق أبحتها من غير بخل على الخلف، تعرضت فيه لكلام السلف بوجه يعلم منه كيفية مطابقته مع الآية، وأعرضت عن محتملات لا تجانسه دراية، ولا تؤانسه رواية، لا تستصغر قدر نجمه لصغر حجمه؛ فإنك تراه من بعيد؛ وإنما هو بين الوشوح وحيد؛ وما ذلك كله إلا لأني وسمته لمن صناديد الخافقين عبيده إن قبل؛ بل أملاك الأفلاك جنوده لو سأل، الذي خلق الخلق له،
1 / 17
ولولاه لكان آدم بعد في وَلَهٍ، الهاشمي المستل من سلالة عدنان، الأبطحي المنزل عليه القرآن، الناسخ للأديان، صَلِّ وسَلِّمْ وبارِكْ عليه يا ربي المعبود، وأنزله المقام المحمود الموعود، فيا شفيع العصاة توسل الخلق بمثل هذا إلى ذي سلطان لمال أو جاه؛
1 / 18
وإليك -رسول الله- هذا وسيلتي، وما لي سؤل سوى القبول والقرب من الله، فخذ بيدى؛ إني هائم في مهالك البعاد، ولا تنهر سائلك فإنك أنت الرسول الجواد
يا من ألوذ به فيما أؤَمله ... ومن أعوذ به فيما أحاذره
أنت ملاذى بك ألوذ وأنت عياذي بك أعوذ، أعوذ من خزيك وكشف سترك ومن نسيان ذكرك، والانصراف عن شكرك.
ثم اعلم أن ما يحتويه أكثر التفاسير ترى في هذا التفسير مع معانٍ صحيحة نفيسة لم تجد في كثير منها؛ نعم قد ترى فيها أحيانًا معاني لم تلق فيه؛ وما ذلك إلا لأن مطابقتها
1 / 19
مع ظاهر الآية لا تخلو عن شبهة، على أنها غير منقولة عن السلف وقليلًا ترى بعض المعاني المنقول قد ترك فيه لما أن تطبيقه مع الآية متعسر أو متعذر؛ وكثيرًا تجد الزمخشري ومن يحذو حذوه أعرضوا عن المعنى المنقول عن الرسول ﷺ في الكتب الصحاح لأجل عدم فهم مناسبة لفظية أو معنوية وإن نقلوه ما ذكروه إلا آخر الأمر بصيغة التمريض؛ لكن المسلك في تفسيرنا هذا الاعتماد على المعاني الثابتة عمن أنزل عليه الكتاب المتكلم بفصل الخطاب صلى الله عليه وبارك وسلم، وما نقلنا فيه شيئًا إلا بعد اطلاع وتتبع تامٍ؛ فأعتمد على نقل الشيخ الناقد في علم الرواية " عماد الدين بن كثير "؛ فإنه في تفسيره قد تفحص عن تصحيح الرواية؛ وتجسس عن عجرها وبجرها؛ ولو وجدت مخالفة بين تفسيره وتفسير " محيي السنة الإمام البغوي " الذي هو من سراة المحدثين ومهرة المحققين - تتبعت كتب القوم الذين لهم يد في التصحيح ثم بعد الاطلاع كتبت ما رجحوا، لكن أعتمد قليلًا على كلام " ابن كثير "؛ فإنه متأخر معتن في شأن التصحيح، و" محيي السنة " في تفسيره ما تعرض لهذا؛ بل قد يذكر فيه من المعاني والحكايات ما اتفقت كلمة المتأخرين على ضعفه؛ بل على وضعه.
وأما الأحاديث المذكورة في تفسيرنا فمعظمها من الصحاح الستة، وتجد تخريجها مسطورًا في الحاشية عليها.
وكل معنى ذكرنا فيه بصيغة " أو " فما هو إلا للسلف، وما ذكرنا بـ قيل فأكثره من مخترعات المتأخرين؛ ما ظفرنا فيه بنقل.
وأما وجه الإعراب فما اخترت إلا الأظهر، والذي ذكرت فيه وجهين أو وجوهًا فلنكتة لا تخفى على المتأدب، فإن قرع سمعك شيء يخالف الكشاف ومن تبعه فلا
1 / 20
تعجل إلى الرد إنكارًا، وارجع بصر البصيرة لعلك تجد من جانب طور العلم نارًا، مع أني لا أدعى عدم الخطأ والخطل والسهو والزلل، نعم، اجتهدت غاية الاجتهاد في تنقيح الكلام، وللمجتهد أجرٌ وإن حرم إصابة المرام، ثم إن مأخذ كتابي هذا: " المعالم "، و" الوسيط "، و" تفسير ابن كثير "، و" النسفي "، و" الكشاف " مع شروحه: " الطيبي "، و" الكشف " و" شرح المحقق التفتازاني " - و" تفسير القاضي ناصر الدين البيضاوي ".
وأدرجت فيه ما سمح به الخاطر الفاتر أو سنح للنظر القاصر، وقلما تجد آية إلا وقد رمزت في تفسيرها إلى دفع إشكال أو إلى تحقيق مقال بعبارة وجيزة، أو أَوْمَاتُ إليه بإشارة لطيفة دقيقة، وفي كثير من المواضع أوضحته في الحاشية، وقد تعرضت فيها لوجوه أُخر من المعاني والإعراب، فللمبتدئ حظ كثير من هذا التفسير وللعالم حظوظ.
وسميته: " جامع البيان في تفسير القرآن "، وأنا أحوج الخلق إلى رحمة ربه: " معين بن صفي " أدركهما الله بلطفه الجلي والخفي، وكان بين ابتدائه وانتهائه سنتان وثلاثة أشهر حين بلغ سني أربعين.
والله أسأل أن يجعل ما تعبت فيه سببًا ينجيني، وذخيرة تسرني لا تشجيني، وهو حسب من توكل عليه، ومعين من فوض الأمر إليه، إنه هو العطوف الرحيم، الرءوف الكريم.
1 / 21
سورة الفاتحة
مكية وهي سبع آيات
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)
(بِسْمِ اللهِ)، أي: متبركًا باسم مسمى لهذا اللفظ الجامع لجميع صفات الكمال أقرأ أو مستعينًا به كما في: كتبت بالقلم، (الرَّحْمَنِ): الموصوف بصفة إرادة
1 / 22
الخير لجميع الخلائق ولا يطلق إلا على الله تعالى، (الرَّحِيمِ): بالمؤمنين ويطلق على غيره، (الْحَمْدُ)، ثناء على مستحسن اختياري نفسه أو أثره تعظيمًا لمن قام به، (للهِ)، أي: حقيقته مختصة به، (رَبّ): مالك، (العَالَمينَ)، المخلوقات بأسرها أو الجن والإنس أو هما والملك، (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)، كرر تعليلًا بأنه الحقيق بالحمد، (مَالك)، بالألف ودونه من المِلْك والمُلْك، (يَوْمِ الدينِ): يوم الجزاء متفرد بالحكمَ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، نخصك بأقصى غاية التذلل وطلب المعونة لما أثنى عليه كأنه حضر بين يديه فخاطبه وهو إخبار من جميع العباد الذين هو فرد منهم أدرج عبادته في عبادتهم لعلها تقبل ببركتها أو المراد الحاضرون لاسيما إن كان في جماعة وقيل: النون للتعظيم فإنه إذا كان في العبادة
1 / 23
فجاهه عريض، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ): ثبتنا على الطريق الحق وهو دين الله أو الإسلام، (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، من الأنبياء والملائكة والصديقين والشهداء والصالحين أو قوم موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قبل تغيير دينهم أو آل محمد ﷺ وأصحابه وهو بدل الكل، (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)، صراط غير الذين أردت العقوبة عليهم أو المراد منهم اليهود، (وَلاَ الضَّالِّينَ): الذين عدلوا عن الطريق والمراد منهم النصارى وقيل المراد من الأول الفساق ومن الثاني الكفار. يستحب لمن قرأها أن يقول بعدها بسكتة " آمين " أي: استجب.
1 / 24
سورة البقرة
مدنية
وهي مائتان وست وثمانون آية وأربعون ركوعًا
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧)
(الم): أوائل مثل هذه السورة مما استأتر الله بعلمه وهو المنقول عن الخلفاء الأربعة وغيرهم أو أسماء السور أو أقسام أقسم بها لشرفها لأنها مباني كتبه المنزلة أو أنا الله أعلم، (ذَلِكَ الكتَابُ): أي: هذا القرآن مصدر بمعنى المفعول (لاَ رَيْبَ فِيهِ): لا شك أنه من عند الله لو تأمل عاقل فيه لا يشك وقيل بمعنى النهي أي: لا ترتابوا، (هُدًى): بيان ونور (لِّلْمُتَّقِينَ): الصائرين إلى الإيمان وترك الشرك أو مزيد هداية لهم، (الذِينَ يُؤْمِنُونَ): يصدقون (بِالْغَيب): أي ما هو غائب كأمور الآخرة والقدر أو محمد ﵊ من غير رؤيته، (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ)، يعدلون أركان الصلوات الخمس أو يواظبون عليها، (وَمِمَّا رَزَقاهُمْ يُنفقونَ): أعطيناهم يصرفون في الخير أو المراد الزكاة، (وَالّذِينَ يُؤْمِنُون بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ): هذا في مؤمني أهل الكتاب أو عام كالأول، (وَمَا أنزِلَ مِن قَبْلِكَ) سائر الكتب، (وَبِالْآخِرَةِ) الدار الآخرة (هُمْ يُوقِنُونَ) لا يشكون أصلًا، (أُولَئِكَ) من هذه
1 / 25
صفته، (عَلَى هُدًى): أي: مستقر ومستعل على بيان ونور (مِّن ربهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ): الفائزون بمطالبهم. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا): ستروا الحق وهجروا التوحيد (سَوَاءٌ): مصدر وصف به (عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) تخويفك وعدمه فهو مبتدأ وسواء خبره والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء في علم المستفهم كأنه قيل في جواب أأنذِرهم أم لا المستويان في علمك مستويان في عدم النفع (لَا يُؤْمِنُونَ)، جملة مفسرة ومؤكدة، (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)، أي: طبع واستوثق بضرب الخاتم على قلوبهم، (وَعلَى سَمْعِهِمْ)، أي: مواضعه أو أطلق مجازًا على العضو وكذا البصر ووحد السمع لأنه مصدر والمسموع ليس إلا الصوت
1 / 26
بخلاف المعقولات والمبصرات فإنها أنواع من الجواهر والأعراض، (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غشَاوَة): غطاء والحاصل أنه أحدث فيهم شيئًا يمرنهم على حب الكفر لا يفقهون الحق ولا يسمعون ولا يبصرون، (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيم): في الآخرة.
* * *
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
1 / 27