{ ثم اجعل على كل جبل } من الجبال المشهورة لك في نفسك { منهن جزءا } إلى حيث تخليت فناءها بالمرة، واطمأننت عن شرورها بالكلية { ثم ادعهن } فارضا وجودهن، مستحيلا إيجادهن { يأتينك } بأجمعهن { سعيا } ساعيات مسرعات بلا فوات جزء ونفقصان شيء { و } بعدما تحققت بها واستكشفت عنها { اعلم } يقينا بل عيانا { أن الله عزيز } غالب قادر لكل ما أراد { حكيم } [البقرة: 260] ذو حكمة بالغة في كل ما يفعل ويريد.
وإنكار الحشر والنشر إنما نشأ من العقل الجزئي، المشوب بالوهم والخيال القاصر عن إدراك رقائق الارتباطات الواقعة بين الحق وأجزاء العالم المستمدة منه، وإنما متجددة مبتدئة معادة، وإلا فمن خلص عقله المودع فيه عن مزاحمة الأوهام والخيالات، واتصل بالعقل الكل المدرك بالحضور جميع ما كان ويكون من المكونات، وتأمل في عجائب المصنوعات وغرائب المبدعات، والمخترعات الواقعة في الآيات التي هو فيها، انكشف له للا سترة وحجاب أمر الحشر والنشر وجحميع الأمور المتعلقة بالنشأة الأولى والأخرى، لا ينكر شيئا منها، بل يؤمن ويوقن بجميعها.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
{ مثل الذين ينفقون أموالهم } المنسوبة إليهم بنسبة شرعية { في سبيل الله } طلبا لمرضاته { كمثل } باذر { حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف } حسب قدرته الكاملة تلك المضاعفة بأضعاف غير متناهية { لمن يشآء } من خلص عباده بحسب إخلاصهم في نياتهم وإخراجهم نفوسهم عن البين، وتفويضهم الأمور كلها إلى الله أصالة { والله } المتجلي في الآفاق والأنفس { واسع } لا ضيق في فضله وإحسانه { عليم } [البقرة: 261] بحال من توجه نحوه وأنفق لرضاه مخلصا، لا يعزب عن علمه شيء.
[2.262-264]
وبشر يا أكمل الرسل { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } معتقدين أنهم مستخلفون عن الله فيها لا مالكون لها { ثم لا يتبعون مآ أنفقوا منا ولا أذى } لاعتقادهم الاستخلاف والنيابة { لهم أجرهم عند ربهم } المستخلف لهم لا يدرك مقداره وكيفيته أحد من خلقه { و } بعدما أنفقوا على الوجه المذكور { لا خوف عليهم } من الحساب والعقاب الأخروي { ولا هم يحزنون } [البقرة: 292] من فوات الأجرة بل لهم عند ربهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
{ قول معروف } رد جميل للسائل ناشئ من حسن الخلق { ومغفرة } من الله بعد رده متحسرا على نعمة الإنفاق { خير من صدقة يتبعهآ أذى } إذ بذلك القول يجرى الثواب وبتلك الصدقة يستحق العقاب { والله غني } عن إنفاقكم بالمن والأذى للفقراء الذين هم من عيال الله { حليم } [البقرة: 263] لا يعجل بمؤاخذة من يمن ويؤذي.
{ يأيها الذين آمنوا } بالله الغني الحليم مقتضى إيمانكم أن { لا تبطلوا صدقتكم } عند الله { بالمن والأذى } حتى لا تعاقبوا عليها بأشد العقاب { ك } الكافر { الذي ينفق ماله رئآء الناس و } الحال أنه { لا يؤمن بالله واليوم الآخر } المعد لجزاء الأعمال { فمثله } أي: مثل المرائي في أنفاقه في يوم الجزاء { كمثل صفوان } حجر أملس { عليه تراب } اجتمع من هبوب الرياح فطرح فيه البذور لتنبت وتثمر { فأصابه وابل } مطر عظيم القطر { فتركه صلدا } أملس كما كان، وذهب بالبذور والتراب إلى حيث { لا يقدرون على } تحصيل { شيء مما كسبوا } وبذروا عليه { والله } الهادي للكل { لا يهدي القوم الكافرين } [البقرة: 264] المبطلين بالمن والأذى حكمة الله المتعلقة لتربية الفقراء وتقوية العجز والضعف ، فلا بد للمؤمن أن يجتنب عن أمثاله.
[2.265-266]
{ و } بعدما مثل سبحانه إنفاق المرائي المبطل مثل أيضا إنفاق المؤمن المحق بقوله: { مثل } المؤمنين { الذين ينفقون أمولهم } في سبيل الله { ابتغآء مرضات الله } لا لعوض ولا لغرض فضلا عن الرياء وعن المن والأذى { وتثبيتا } لهم ناشئا { من أنفسهم } ليثبتوا على ما أمرهم الله به واستخلفهم فيه بقوله: أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه { كمثل جنة } بستان واقع { بربوة } موضع مرتفع من الأرض { أصابها وابل } مطر عظيم القطر { فآتت أكلها } ثمرتها { ضعفين } مما في الأرض المنخفضة بإصابة الوابل { فإن لم يصبها وابل فطل } أي: إن لم يصبها وابل يكفي في إضعاف ثمرتها، طل: رطوبة رقيقة تنزل على الأرض في المواضع المترفعة؛ لصفاء هوائها عن جميع الكدورات، كأراضي بيت المقدس شرفها الله.
Неизвестная страница