{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم قطع العلائق عما سوى الله الحق خصوصا عن مزخرفات الدنيا المانعة من الميل الحقيقي { أنفقوا مما رزقنكم } ابتلاء لكم { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه } ولا معاوضة ولا تجارة حتى يحصلوا فيه ما فوتم لأنفسكم { ولا خلة } حتى تتعاونوا بها وتستظهروا { ولا شفاعة } مقبولة من أحد حتى تستشفعوا منه { و } بالجلمة: { الكفرون } الساترون هوية الحق بهوياتهم الباطلة، المضيفون نعم الله إليها { هم الظلمون } [البقرة: 254] المتجاوزون عن حدود الله عنادا واستكبارا المعتقدون أصالتهم في الوجود واستقلالهم في الآثار الصادرة عنهم، مع كونهم هالكين مستهلكين في وجود الحق وهويته إذ :
[2.255]
{ الله } أي: الذات الثابت الوجود والكائن الحق الحقيقي بالحقيقة والتحقق والثبوت، إياك أن تقصد بالألفاظ محتملاتها؛ إذ الغرض من التعبير التنبيه، وإلا فكيف يعبر عنه وهو أجل من أن يحيط به العقول فيعبر عنه، أو يورد في قالب الألفاظ الذي { لا إله } أي: لا موجود، وإن شئت قل: لا وجود ولا تحقق ولا كون ولا ثبوت { إلا هو } هذا هو نهاية ما تنطق عنه ألسنة التعبير عن الذات الأحدية؛ أذ كل من التعبيرات والإدراكات والمكاشفات والمشاهدات، إنما ينتهي إليه، وبعد انتهائه إليه تكل وتجهل وتعمى وتدهش، ما للعباد ورب الأرباب حتى يتكلموا عنه، سوى أن الحق سبحانه لما ظهر لهم بذاته جميع أوصافه وأسمائه، أنزل عليهم على قدر عقولهم المودعة فيهم كلاما جامعا نبههم على مبدئهم بعد توفيق مه وجذب من جانبه؛ إذ أسهل الطريق بالنسبة إلى المحجوبين هو الألفاظ المنبهة عن غيب الذات؛ إذ هو خال عن المواد الغليظة والكدورات الكثيفة المزيحة لصفاء الوحدة، ومع ذلك أيضا لا ينجو عن ثوب الكثرة.
والحاصل أن من اطلع باطلاع الله وإلهامه على أن فيه مبدأ التكاليف الذي هو العقل المتشعب من العلم الحضوري الحقي، فلا بد أن يصرفه امتثال ما أمر واجتناب ما نهى، ليكون في مرتبة العبودية مطمئنا راضيا مستدرجا من الحياة الصورية إلى الحياة المعنوية التي هي { الحي } الأزلي الأبدي السرمدي الدائم { القيوم } الذي { لا تأخذه } فتور وفترة وتعديل وغفلة لا { سنة } نعاس لا ينتهي إلى حد النوم { ولا نوم } يتجاوز عنها قمها، مع أن المناسب للترقي تأخيرها اهتماما بشأنها؛ لكونها أقرب نسبة إلى الله سبحانه تعالى من النوم بالنسبة إلى أولي الأحلام السخيفة من المجسمة وغيرها، هو الذي { له } محافظة { ما } ظهر { في السموت } أي: سموات الأسماء والصفات الذاتية التي هي أول كثرة ظهرت من الغيب إلى الإضافية { وما } ظهر { في الأرض } أي: طبيعة العدم التي هي آخر كثرة عادت من الشهادة الحقيقية إلى الغيب الإضافي الذي هو قلب الإنسان، وهو البرزخ بين الغيب الحقيقي والشهادة الحقيقية { من ذا } من الأنبياء والأولياء { الذي يشفع } يهدي ويرشد للناقصين المنحطين عن مرتبة الإنسانية { عنده } بعد ظهوره له بهو هو { إلا } من يرشدهم { بإذنه } بوحيه على قلبه ورقائق مناسباته التي لا يمكننا التعبير عنها الذي هو { يعلم } بعلمه الحضوري { ما بين أيديهم } حالة إذ { وما خلفهم } أزلا وأبدا { ولا يحيطون بشيء } قليل { من علمه } الحضوري { إلا بما شآء } وتعلق إرادته ومشيئته عليه.
من هذا يتفطن العارف أن العالم ما هو إلا مظاهر ذات الحق وأظلال أسمائه وآثار أوصافه؛ إذ الموجود هو، والوجود هو، والحي هو، والقيوم هو، الرقيب المحافظ الملازم على محافظة ما ظهر في الأولى والأخرى هو، والعالم المدبر بالحضور مصالح جميع ما ظهر وبطن هو، والعلم والإدراكات الصادرة من المظاهر هو على العلم الحضوري.
فلم يبق للعالم إلا مناسبة الظلية والانعكاس والمظهرية؛ إذ { وسع كرسيه } مجلاه ومظاهره { السموت } المذكورة { والأرض } المذكورة { ولا يؤوده } يثقله { حفظهما } وإن كانت سموات الأسماء وأرض الطبيعة غير متناهية، بل وإن فرضت بأضعافها وآلافها أمورا متعددة غير متناهية لا يثقله؛ إذ كل من تحقق بمرتبة قلب الإنسان المنعكس من الذات الأحدي المائل نحوها بالميل الحبي الشوقي المتلذذ دائما بوجوده وحضوره، تحقق عنده من الوسعة ما لا يمكن التعبير عنه مطلقا.
كما سمح سلطان العارفين وبرهان الواصلين - عمت بركات أنفاسه الشريفة على الفقراء المتوجهين نحو فضاء التوحيد - حيث قال: " لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايات قلب العارف، ما أحسن ".
جاء بعده رأس الموحدين، ورئيس أرباب التحقيق واليقين، محيي الملة والدين، الذي هيج بحر التوحيد تهييدا شديدا إلى حيث يترشح من تيار قلبه الزخار رشحات المعارف والحقائق، على قلوب أولي العزائم الصحيحة المقتفية إثر طريقة - قدس الله روحه وأرواحهم وشكر سعيهم وسعيه - حيث قال: هذا وسع أبي زيد في عالم الأجسام، بل أقول: " لو أن ما لا يتناهى وجوده قدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارفين، ما أحسن بذلك في علمه ". انتهى.
أقول والحديث القدسي مغن عن أمثالهم إن قوله سبحانه:
" وسعني قلب عبدي المؤمن "
Неизвестная страница