ثم لما سمع اليهود من المؤمنين قولهم: راعنا عند رجوعهم إليه صلى الله عليه وسلم في الخطوب، قالوا: هؤلاء ليسوا مؤمنين منقادين له مطيعين لأمره؛ لدلالة قولهم: راعنا، على أنك محتاج إلينا، فلك أن تراعنا حق الرعاية ولما كان فيه من إيهام سوء الأدب وإن كان غرضهم الترقب والالتفات، أشار سبحانه إلى نهيهم عن هذا القول رعاية لمرتبة حبيبه صلى الله عليه والسلام وتأديبا للمؤمنين فقال: { يأيها الذين آمنوا لا تقولوا } مع نبيكم عند الخطاب له { راعنا } وإن كان مقصودكم صحيحا، لكن العبارة توهم للمعنى الباطل، بل الأولى لكم والأليق بحالكم أن تخاطبوا رسولكم إكراما له وتعظيما { و } إن اضطررتم إلى الخطاب { قولوا } بدله { انظرنا } بنظر المرحمة والشفقية { واسمعوا } هذا القول بسمع الرضا والقبول وحافظوا عليه؛ لئلا تسيئوا الأدب معه { و } اعلموا أن { للكافرين } المغتنمين للفرصة في أمثال هذه الكلمات { عذاب أليم } [البقرة: 104] لهم في الدنيا والآخرة.
ثم لما عجزوا عن معارضتكم صريحا أخذوا في التلبيس والتخمين وادعاء المحبة والمودة على وجه النفاق؛ ليحفظوا دماءهم وأموالهم عنكم، ولا تغتروا أيها المؤمنون بودادهم ولا تسمعوا منهم أقوالهم الكاذبة.
{ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم } لإصلاح حالكم وزيادة إنعامكم وإفضالكم { من خير } وحي نازل { من ربكم } الذي اختاركم واصطفاكم على جميع الأممم بغضا وحسدا مركوزا في طباعهم، وبخلا على ما أعطاكم الله من الخير { و } لم يمكنهم منع إعطائه تعالى إذ { الله يختص برحمته } الواسعة ونعمته العامة الشاملة { من يشآء } من خلص عباده بلا علة وغرض ومرجح ومخصص، بل مع اختيار وإرادة بلا إيجاب وتوليد كما ظنه المعتزلة والحكماء الناقدون للبصيرة في الإلهيات والنبوات
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40] { و } لا تشكوا في سعة رحمته وفضله بحرمان البعض؛ إذ { الله ذو الفضل العظيم } [البقرة: 105] يفضل وينعم على مقتضى مشيئته وحكمته ومصلحته المخيفة عن عقول العباد إلا من أطلعه الله على سرائر أفعاله من الكمل.
جعلنا الله من محبيهم ومتبعيهم بمنة ولطفه.
ثم أعلم أن الحوادث الكائنة في الآفاق كلية كانت أو جزئية، غيبا أو شهادة، وهما أو خيالا إنما هي بمقتضيات الأوصاف والأسماء الإلهية الكلية المشتملة كل منها على أوصاف جزئية غير متناهية بلا تكرر فما من حادثة حدثت في العالم إلا بوصف خاص الذي يخصه ويرتبه لا يوجد في غيره؛ لذلك قيل: " لا يتجلى في صورة مرتين؛ لئلا يلزم التكرار المنافي للقدرة الكاملة، ولا في صورة واحدة لاثنين؛ لئلا يلزم العجز عن إتيان الصورة الأخرى ".
وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: { ما ننسخ } نغير ونبدل { من آية } نازلة حاكمة في وقت وزمان يقتضيه نزولهنا في اسم مخصوص { أو ننسها } من القولب، كأنه لم ينزل من قبل { نأت بخير منها } أي: متى ننسخها أو ننسها، نأت بخير منها بحسب أقتضاء الزمان الثاني والاسم الخاص له؛ إذ سريان الوجود دائما على الترقي في الكمال { أو مثلها } إذ التجدد ظاهرا إنما يكون بالمثل والمعاد مثل المبدأ، ثم استفهم لحبيبه؛ تذكيرا وعظة للمؤمنين فقال: { ألم تعلم } يقينا { أن الله } المتجلي بالتجليات غير المتناهية { على كل شيء } من الإجراء والإعادة والإنزال والتغيير { قدير } [البقرة: 106] لا تنتهي قدرته عند المراد بل له التصرف فيه ما شاء بالاختيار والإرادة.
[2.107-109]
{ ألم تعلم أن الله له ملك السموت والأرض } يتصرف فيهما كيف يشاء، كما يشاء، متى يشاء بلا فتور ولا فطور، هذا في الآفاق { و } ارجعوا إلى أنفسكم، واعلموا أنه { ما لكم } في ذواتكم وهوياتكم { من دون الله } المحيط بكم وبجميع أوصافكم { من ولي } يولي أموركم { ولا نصير } [البقرة: 107] يعين عليكم من دونه بل هو محيط هوياتكم وماهياتكم كما أخبر به سبحانه في قوله:
Неизвестная страница