فمن أراد أن يغوص في لحجج بحار القرآن، لاستخراج فرائد اليقين والعرفان، فعليه أن يتمسك أولا بالأحكام الشرعية الفرعية التي استنبطها أرباب العزائم الصحيحة عن ظواهر كلم القرآن؛ ليكون مهذبا لظواهر أصحاب اليقظة من أهل الطلب والإرادة حتى تستعد بها نفوسهم، وتتصفى بواطنهم لأن يفيض عليها رشحات بحر التوحيد، ويصبر قابلا لأن ينزل عليها سلطان العشق والمحبة؛ إذ الوقاية للب التوحيد إنما هي أحكام الشريعة، وآداب الطريقة للسالكين، القاصدين نحو الحقيقة بالسلوك والمجاهدة.
وأم البدلاء المستغرقون في بحر الذات، الهائمون بمطالعة جماله، الفانون فيه مطلقا، فهم هو، وهو هم، ما لنا ومالهم حتى تتكلم عنهم، جعلنا الله من خدام وتراب أقدامهم.
فعليك أيها المريد، العازم لسلوك طريق الفناء، الجازم، الحازم في هذا العزم أن تصفي أولا سرك وسريرتك عن التوجه إلى غير الحق، وتجعل مطلبك ومقصودك الاستغراق والفناء في بحر الوحدة.
لا يتيسر لك هذا إلا بعد كسر سفينة هويتك الباطلة، ولا يتيسر كسرها إلا بالرياضاتت الشاقة من الجوع والعطش والسهر المفرط، والانقطاع عن اللذات الحسية والمشتهيات النفسية بالتلذذ بالمودة والفناء، والصبر على البلاء، والرضا على ما جرى عليه القضاء، ومتى تحققت هذه الأمور فيك، وهن هويتك، وضعف سفينتك، وحينئذ يمكنك كسرها إن وفقت بها.
زين بلطفك ظواهرنا بشريعتك، وبواطننا بحقيقتك، وأسرارنا بمشاهدتك وأرواحنا بمعاينتك، إنك على ما تشاء قدير، وبرجاء المؤمنين جدير.
[5 - سورة المائدة]
[5.1-2]
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم الوفاء بالعهدو والعقود الموضوعة فيكم لإصلاح حالكم { أوفوا بالعقود } واظبوا على إقامة الحدود، وداوموا على محافظة المواثيق التي وضعها الحق بينكم؛ لتدبر أمور معاشكم ومعادكم من جملتها أنها { أحلت لكم بهيمة الأنعام } وهي الأزواج الثمانية وما يشبهها؛ تقويما لمزاجكم وتقيوة له؛ ليتمكنوا على إتيان ما كلفوا به { إلا ما يتلى عليكم } في كتاب الله تحريمه حال كونكم { غير محلي الصيد } مطلقا { وأنتم } في تلك الحالة { حرم } محرمين للحج ، مأمورين بحبس القوى الشهوية والغضبية عن مقتضياتهما، بل معطلين لها حتى تتكنوا، وتقدروا على الموت الإرادي { إن الله } المدبر لمصالح عباده { يحكم } بمقتضى حكمته ومصلحته { ما يريد } [المائدة: 1] لهم من التحليل والتحريم بحسب الأوقات والحالات، لا يسأل عن فعله ، بل لا بد لكم الانقياد؛ تعبدا، سيما في أعمال الحج.
{ يا أيها الذين آمنوا } بالله؛ طاعة وتعبدا، مقتضى إيمانكنم أن { لا تحلوا } وتبيحوا لأنفسكم { شعآئر الله } أي: حرمات الله التي حرمها سبحانه في أيام الحج؛ تعظيما لأمره وتوقيرا لبيته { ولا الشهر الحرام } أي: لا تحلوا قواكم الحيوانية عن الحبس والزجر في الأزمنة التي حرم سبحانه إطلاقها فيها؛ تعظيما لبيته { ولا } تبيحوا أيضا لأنفسكم { الهدي } أي: التعرض لما أهدي إلى البيت قبل بلوغه إلى كله { و } أيضا { لا } يتعرضوا { القلائد } وهي ما يعلم، ويقلد بقلادة دالة على أنه من هدايا بيت الله على ما هو من عادة العرب.
{ و } عليكم أن { لا } تتعرضوا، وتتقاتلوا مع المؤمنين الموقنين الذين توجهوا نحو الكعبة الحقيقة، وأرادوا أن يخرجوا عن بقعة الإمكان، فدخلوا في طريق المجاهدة وسلكوا نحو الوجوب؛ تقربا وتشوقا، مع كونهم { آمين البيت الحرام } قاصدين التقرب والتحقق بكعبة الذات، والوقوف بعرفات الأسماء والصفات؛ إذ لا بد من وقوفها لمن قصد زيارة بيت الله الأعظم، بل الركن الأصلي لزيارة بيت الله، وهي هنا الوقوف عند المنجذبين نحو الحق من طريق المجاهدة المستتبعة للكشف والمشاهدة لأهل العناية.
Неизвестная страница