ثم ناداهم سبحانه وأوعدهم رجاء أن يتبنهوا بقوله: { يا أيهآ الذين أوتوا الكتب } أي: التوراة { ءامنوا بما } أي: بالكتاب الجامع الذي { نزلنا } من غاية فضلنا وجودنا على محمد صلى الله عليه وسلم مع كونه { مصدقا لما معكم } أي: لكتابكم { من قبل أن نطمس وجوها } أي: تمحو وتضمحل مراتب إنسانيتكم وإدراككم مطلقا { فنردها على أدبارهآ } قهقرى إلى المراتب الأنزل الأرذل قبل وصولكم إلى مرتبة الكمال { أو نلعنهم } نطردهم عن ساحة عز الوجوب إلى مضيق الإمكان { كما لعنآ } مسخنا { أصحب السبت } لمخالفتهم الأمر الوجوبي بافتراء الحيلة عن لوازم الإنسانية مطلقا، ورددناهم إلى أخس المراتب { و } لا تستبعدوا من الله القادر المقتدر على جميع ما يشاء أمثال هذا الطرد والإدبار؛ إذ { كان أمر الله } أي: إرادته المتعلقة بتكموين أمره { مفعولا } [النساء: 47] مقتضيا البتة لا تخفف.
ثم قال سبحانه: { إن الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء، المتفرد بالمجد والبهاء { لا يغفر أن يشرك به } أي: لا يستر ولا يعفو عن انتقام الشرك به بإثبات الوجود لغيره { ويغفر ما دون ذلك } من الكبائر والصغائر { لمن يشآء } من التائبين وغيرهم، ثم قال سبحانه تأكيدا وتحقيقا: { ومن يشرك بالله } الواحد الأحد الذي
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الاخلاص: 3-4] شيئا من مظاهره بادعاء الوجود له أصالة استقلالا { فقد افترى } على الله واكتسب لنفسه { إثما عظيما } [النساء: 48] لا مخلص له عنه.
نعوذ بك ونستغفرك من أن نشرك بك شيئا ونحن نعلم، ونستغفرك لما لا نعلم، إنك أنت علام الغيوب.
{ ألم تر } أيها الرائي { إلى الذين يزكون أنفسهم } بألسنتهم وألبستهم؛ رياء وسمعة ويفتخرون بها ويباهون عليها، كيف وظنوا أنفسهم بهذا المزخرف الباطل ولم يتفطنوا أن العبد قل ما بخلوا عن الشرك الجلي فضلا عن الخفي، ولا تليق التزكية للعبد مطلقا سواء يزكي نفسه أو غيره { بل الله } المطلع لأحوال عباده { يزكي } بفضله { من يشآء } من عباده، والمراءون المزكون لنفوسهم قولا بلا توافق أحوالهم وأعمالهم على مقالهم يعاقبون عليها { ولا يظلمون فتيلا } [النساء: 49] أي: لا يزاد على انتقام ما اقترحوا مقدار حبل النواة، وهو مثل في الصغر والحقارة.
{ انظر } أيها الرائي { كيف يفترون } أولئك المراءون المزكزون نفوسهم { على الله الكذب } بادعائهم تزكية الله إياهم ترويجا لما عليه نفوسهم من التلبيس { وكفى به } هذا الافتراء { إثما مبينا } [النساء: 50] ظاهرا موجبا لانتقام عظيم من الله.
[4.51-55]
{ ألم تر } أيها الرائي { إلى الذين } يدعون أنهم { أوتوا نصيبا من } علم { الكتب } أي: التوراة المبين لطريق التوحيد الموضح لسبيله كيف { يؤمنون بالجبت } أي: الصنم الذي لا خير يرجى منه ولا شر، ولا نفع ولا ضر { والطغوت } التي هي الآراء البالطة والأهوية الفاسدة المؤدية إلى الكفر والزندقة والإلحاد عن طريق الرشاد، ولو أنهم في أهل التوحيد ولهم نصيب من اكتساب النازل من عند الله لتبيينه وتعليم طريقه، لما آمنوا بالأباطيل الزائفة الفاسدة المضلة عن طريق الحق والصراط المستقيم، ومع ضلالهم في أنفسهم يريدون إضلال غيرهم { ويقولون للذين كفروا } أي: في حق ضعفائهم وأتباعهم: { هؤلاء } الضعفاء من إخواننا { أهدى } وأقوى { من } السفهاء { الذين آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم { سبيلا } [النساء: 51] وإنما يقولون أمثال هذا؛ استخفافا للنبي صلى الله عليه وسلم وطعنا وقدحا في الإسلام.
{ أولئك } البعداء المعزولون عن منهج الرشاد هم { الذين لعنهم الله } أي: طردهم عن ساحة التوحيد إلى ذل الإمكان { ومن يلعن الله } المنتقم المقتدر { فلن تجد له نصيرا } [النساء: 52] يشفع له عنده؛ إذ لا غير معه ولا شيء سواه.
Неизвестная страница