وبعد ذلك يجب أن نبين ما يجوز في النسخ وما لا يجوز، وقد علم أن النسخ لا يصح إلا في التعبد الذي هو الأمر والنهي دون الإخبار كما يصح ذلك في الاعتقادات المذكورة إذ كان ذلك أشياء أمرنا أن نعرفها على ما هي بها، فنعتقدها بحسب ما هي عليه، وذلك لا يتغير، وما كان من الآداب الخلقية، فإنما هي ما هي عقليات ظاهرة لا يأتي شرع بخلاف مقتضاها.
وأما العبادات والمعاملات والمزاجر فلا يصح، في أصولها النسخ، وإنما يصح في فروعها، وذاك أنه محال أن تنفك شريعة من الشرائع عن عبادة الله تعالى واقعة في حيز البدن، وهي مثل الصلاة، وعبادة في حيز المال، وهي كالزكاة، وعبادة في إمساك الشهوة كالصوم.
وأن تنفك عن معاملات تحثهم على العدالة وتمنعهم عن التهارج، وعن مزاجر تزجرهم عن استباحة نفوس الغير وأعراضهم وأموالهم وأنسابهم، وأما هيآتها وأشكالها وأمكنتها وأزمنتها وأعدادها، فهي فروعها التي لم تزل تعرض النسخ على حسب ما عرف الله تعالى من مصلحة كل قوم، ومما يدل على أنه لا نسخ في عامة أصول هذه الأشياء ما ورد من النصوص على ذلك في القرآن نحو قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾، وقوله ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ الآية، وقال حكاية عن عيسى: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾
وقال في الزكاة: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾، وقال في القبلة: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ ..
، وقال في الصوم: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، وقال
1 / 30