ولقد عاب الكثيرون على هذه «الثقافة العالمية» سطحيتها وابتذالها ونزعتها التجارية، وكانوا على حق في ذلك، ولكن إذا كان مضمون هذه الثقافة مبتذلا - نتيجة لظروف المرحلة الراهنة من تطور العالم - فإن ما يهمنا هو المبدأ نفسه؛ أعني وجود ثقافة على مستوى عالمي. ولا بد أن يأتي اليوم الذي تستغل فيه هذه الإمكانات الهائلة من أجل نشر ثقافة ذات مستوى إنساني رفيع على نطاق العالم كله، وهذا ما تنبهت إليه الهيئات الدولية - وعلى رأسها منظمة اليونسكو - التي تمثل هي نفسها مظهرا هاما من مظاهر التوحيد الثقافي بين البشر، والتي تبذل جهودا كبيرة من أجل صبغ الثقافة العالمية بصبغة أرفع من تلك التي تتسم بها الثقافة التجارية الحالية.
إن توحد العالم - بفضل التقدم العلمي - ليس هدفا مرغوبا فيه فحسب، بل هو هدف لا غناء عنه من أجل بقاء البشرية، وقد بينا - عند الحديث عن الأبعاد الاجتماعية للعلم المعاصر - كيف أن المشكلات الخطيرة التي يواجهها العالم في الوقت الراهن تشير كلها إلى اتجاه واحد للحل، هو الاتجاه العالمي، وعلى العكس من ذلك فإن تجاهل الحلول التي تتم على مستوى عالمي أو إرجاءها، لا بد أن يؤدي إلى كارثة للبشرية، وهذه حقيقة أدركها كثير من المفكرين المعاصرين الذين رفع بعضهم شعار: إما عالم واحد أو لا عالم على الإطلاق!
ولكن هل يعني ذلك أن العلم وحده وبقواه الخاصة هو الذي سيؤدي إلى هذا التوحيد؟ إن الكثيرين - ولا سيما في المعسكر الغربي - يؤمنون بذلك؛ فهم يعتقدون أن التقدم العلمي والتكنولوجي يستطيع - هو وحده - أن يقرب بين الاتجاهات المتباينة في هذا العالم، حتى في أشد الحالات تنافرا، كما هي الحال في التضاد الأيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية؛ ففي رأي هؤلاء أن حرص الدول التي تأخذ بهذين النظامين المتعارضين على اتباع أحدث الأساليب العلمية والتكنولوجية، هو في ذاته كفيل بأن يحقق تقاربا بينها قد يؤدي آخر الأمر إلى إلغاء التعارض المذهبي بينها؛ أي إنهم يرون أن الصراع الأيديولوجي سيخلي مكانه في النهاية للتقدم العلمي، ولما كان هذا التقدم متشابها في الحالتين، فإن الأمر سينتهي بهذه المجتمعات المتعارضة إلى التقارب. غير أن مفكري المعسكر الاشتراكي لا يميلون إلى هذا الرأي؛ لأن الصراع الأيديولوجي هو الذي يقرر في النهاية - حسب رأيهم - مصير العالم. صحيح أنهم يعترفون بالأهمية القصوى للتطورات العلمية والتكنولوجية المعاصرة، غير أنهم يرون أنها ليست هي الحاسمة، بل إنها تخضع للأيديولوجيا التي تعطي هذه التطورات اتجاهها ومعناها، ويؤكدون أن نظرية «التقارب» القائم على أساس العلم والتكنولوجيا إنما هي محاولة من المفكرين الغربيين للتستر على الفوارق الأيديولوجية الأساسية بين النظامين العالميين، ولتمييع الصراع الحاسم بينهما.
وأيا ما كان الأمر، فمن المؤكد أننا لا نستطيع في عصرنا الحاضر أن نفصل على نحو قاطع بين العوامل الأيديولوجية والعوامل العلمية والتكنولوجية؛ لأن التأثير بين الطرفين متبادل؛ فالعلم يتأثر بالاتجاه الأيديولوجي للمجتمع؛ إذ تتحدد في ضوء هذا الاتجاه أهداف العلم والأولويات التي تعطى للأبحاث العلمية، كما يتحدد في ضوئه مركز العلم وسط أنواع النشاط الأخرى التي يقوم بها المجتمع. ولكن الأيديولوجيا ذاتها تتأثر بالعلم؛ لأن نوع الصراع الأيديولوجي الدائر في عصرنا الحاضر يتحدد إلى مدى بعيد بالشكل الذي وصلت إليه المجتمعات المعاصرة بفضل العلم، ولا سيما في ميدان الإنتاج، وهو الميدان الرئيسي الذي يدور فيه الصراع الأيديولوجي.
وهكذا نستطيع أن نقول - مرة أخرى - إن العالم يتجه إلى التوحد بفضل العلم، حتى لو أخذنا بالرأي القائل إن هذا التوحد لن يقرره إلا الصراع الأيديولوجي، وحين نتأمل صورة الإنسانية في المستقبل، فلن نملك إلا أن نتصورها وهي تفكر بعقلية عالمية، وتراعي مصلحة الإنسان في كل مكان، بغض النظر عن فوارق اللون والجنس والوطن والعقيدة، وعندئذ فقط سيكون التفكير العلمي لدى البشر قد استعاد طبيعته الحقة، بوصفه بحثا موضوعيا نزيها عن الحقيقة، يعلو على كل ضروب التحيز والهوى، ويزن كل شيء بميزان واحد، هو ميزان العقل.
الهوامش
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
Неизвестная страница