على أن تحقق هذا الحلم كان يبدو مستحيلا منذ قرن واحد فقط كان لا بد أن يكون له تأثيره - إيجابا أو سلبا - على التفكير العلمي؛ فوسيلة الإعلام التي تقتحم كل بيت، والتي تخاطب أفراد الأسرة جميعا، والتي تقدم موادها في إطار من الترفيه أو التسلية، تستطيع أن تقوم بدور عظيم الأهمية في نشر قيم التفكير العلمي أو في هدمها، سواء أكان ذلك عن طريق ما تقدمه من مواد علمية مباشرة، أم عن طريق البرامج التي تبث فيها هذه القيم بصورة غير مباشرة وهو الأغلب.
والأمر الذي يدعو إلى الأسف هو أن الاتجاه الغالب - على ما تقدمه هذه الوسائل الإعلامية الواسعة الانتشار - لا يخدم قضية التفكير العلمي ولا يساعد على نشر قيمه بين الجماهير العريضة التي تتأثر بهذه الوسائل. وقد بدأت تجربة تشكيل عقول الناس وصبها في قوالب واحدة تخدم أغراض نظام معين في الحكم أيام العهد النازي في ألمانيا، ونجحت إلى حد كبير في شل القدرة على التفكير المستقل عند شعب عريق كالشعب الألماني، واستطاعت أن تجر الملايين منه طائعين مختارين - أو على الأصح مخدرين بالدعاية المنظمة - إلى مذبحة الحرب العالمية الثانية؛ لكي يرتكبوا أفعالا أصبحوا هم أنفسهم يعجبون - بمجرد أن زال عنهم سحر الدعاية وتخديرها - كيف رضوا لأنفسهم أن يرتكبوها. وكانت تلك أول تجربة «علمية» من أجل تشكيل عقول البشر ونزع قدرتها على التساؤل والمقاومة بالتدريج، حتى تستسلم آخر الأمر لكل ما يلقنها إياه نظام الحكم القائم.
ومنذ ذلك الحين ازدادت الدراسات العلمية المنظمة التي تستهدف البحث عن أقوى وسائل التأثر الإعلامي في الجماهير، واستخدم في إجرائها عدد غير قليل من العلوم الإنسانية، وخاصة بعض فروع علم النفس. وصحيح أن هذه الدراسات تتخذ مظهرا علميا وقورا، ولكنها تهدف في أغلب الأحيان إلى بحث أفضل الطرق لتزييف عقل الإنسان أو الانحراف بإرادته في اتجاهات مرسومة مقدما، ويندر أن نجد بينها بحثا يستهدف إيجاد أفضل الوسائل لزيادة الوعي وتقويم الأفكار المعوجة بين الناس عن طريق وسائط الإعلام.
وتسير عملية التزييف هذه - في الوقت الراهن - في طريقين ؛ الأول منهما تجاري، هدفه الأول والأخير ترويج السلع بين الناس، حتى لو لم يكونوا في حاجة ماسة إليها، وحتى لو كانت احتياجاتهم الحقيقية تتعلق بأشياء مختلفة عنها كل الاختلاف. وفي سبيل ذلك تقوم شركات الإعلان - التي تعتمد على العديد من العلماء والباحثين - بابتكار أكثر الطرق فعالية لخلق حاجات أو رغبات مصطنعة بين الناس، وللقضاء على قدرتهم على التمييز بين ما هو ضروري وما هو غير ضروري. وعادة تنتشر هذه الإعلانات - في البلاد التي تعتمد على الاقتصاد الحر - وسط برامج إذاعية أو تليفزيونية تتفق عليها الشركة المنتجة خصوصا لكي تروج سلعها في فترات معينة خلال العرض، ولا بد أن تكون هذه البرامج من نوع يشد المتفرج حتى تظل عيونه وآذانه وعقله مثبتة على الجهاز، وهكذا يؤدي هذا الأسلوب إلى ضرر مزدوج؛ لأن البرنامج المقدم نفسه حافل بالإثارة والعنف والجريمة والجنس الرخيص، وكلها أمور تؤثر في ملكات التفكير السليم لدى البشر، فضلا عن أن المادة الإعلانية نفسها تحرص - بطرق مدروسة - على تعهد عناصر الرغبة الرخيصة أو التافهة وتجاهل أي عنصر جاد في طبيعة البشر.
أما الطريق الثاني الذي تسير فيه عملية التزييف هذه فهو طريق سياسي؛ إذ إن نظم الحكم المختلفة تستعين بأجهزة الإعلام من أجل دعم مركزها بين شعبها أو بين الشعوب الأخرى، وتلجأ إلى أساليب تتنافى مع مقومات التفكير السليم؛ فتلح مثلا على نشر صورة زعيم معين وتضخيم أخباره وتكرارها بلا انقطاع، وتستخدم كل أنواع المغالطات من أجل تبرير تصرفاته، وهو أمر لم يكن يحدث في فترات التاريخ السابقة على الإطلاق، حين لم يكن الناس يرون زعماءهم أو يسمعونهم إلا نادرا، ومعظم العقول تستسلم بسهولة لهذه الدعاية الملحة المتكررة، ولكن العقول الواعية نفسها قد تظل تقاوم تأثير الدعاية، وتحتفظ بقدرتها على التفكير المستقل إلى حين، ثم لا تجد أمامها مفرا من الاستسلام آخر الأمر؛ لأن الدعاية «العلمية» الحديثة تعمل بحرص ودأب على إشاعة العقلية التي تصدق وتستسلم، وعلى هدم روح النقد ونشر روح الانقياد. وهكذا قد يجد المجتمع نفسه يؤيد نظما جائرة، ويصفق لزعماء يظلمونه؛ لأن الدعاية الحديثة أفقدته كل قدرة على التفكير السليم والرؤية الواضحة.
ولقد أتيحت لي ذات يوم فرصة لتجربة طريقة تكشف عن طبيعة الأساليب التي تستخدمها النظم السياسية مع شعوبها عن طريق الدعاية؛ إذ كان هناك مؤتمر حضره رؤساء مجموعة من الدول، وشاءت المصادفات أن أسافر بعد انتهاء المؤتمر مباشرة وأمر في طريقي بسرعة على أربع دول اشترك رؤساؤها في هذا المؤتمر، وقد حرصت على قراءة الصحف في هذه الدول الأربع، فإذا بي أجد الصحافة في كل دولة تصور المؤتمر وكأنه كان - من بدايته إلى نهايته - يدور حول محور رئيس دولتها نفسه؛ فهو الذي جذب انتباه الجميع، وهو الذي أقنع الجميع باقتراحاته، وهو الذي بذل أعظم جهد لإنجاح المؤتمر ... إلخ. وتكرر هذا الموقف بحذافيره في كل دولة من الدول الأربع؛ بحيث يظن شعب كل من هذه الدول أن رئيسه كان أبرز الجميع وأذكاهم وأقدرهم على الإقناع، على حين أن الباقين كانوا يقتدون به ويأخذون منه المشورة ... إلخ.
وهكذا فإن وسائل الإعلام الحديثة، التي كانت تبشر بعهد تنتشر فيه المعلومات على أوسع نطاق، وتزول فيه حواجز الزمان والمكان لكي تصبح فرص المعرفة والاستفادة متاحة للجميع؛ هذه الوسائل قد استغلت - في الأغلب - من أجل خلق عقول نمطية قابلة للإيحاء والاستغلال من أجل تحقيق أهداف فئة قليلة تتحكم في الإعلام، وليس معنى ذلك أن نتيجة انتشار هذه الوسائل كانت شرا كلها؛ إذ إن البشر - بغير شك - أصبحوا الآن أقدر بكثير على اكتساب المعلومات مما كانوا في العصور الماضية، ولكن الأمر المؤسف هو أن الإمكانات الهائلة لهذه الوسائل ذات الانتشار عظيم الاتساع قد استغلت في أغلب الأحيان للإضرار بقدرة الناس على التفكير السليم.
ولا يستطيع المرء أن يستثني من هذا الحكم أي نظام من النظم الرئيسية السائدة في عالم اليوم؛ فالمعسكر الاشتراكي يلجأ في أحيان كثيرة إلى حجب حقائق أساسية (كما يحدث في حالات الأزمات أو الكوارث) أو ذكرها بإيجاز شديد لم تكن في مصلحته، وكثيرا ما يكون الرأي الآخر فيه مرفوضا، بل تكون إمكانية ظهوره منعدمة أصلا؛ بحيث تضيع على الناس فرصة الحوار المثمر بين أطراف متعارضة. والحجة التي تقال في هذا الصدد هي أن هناك غاية أساسية أو هدفا أساسيا ينبغي أن يسخر كل شيء لخدمته، ولكن المشكلة هي أن بعض الناس ما زالوا يؤمنون بأن قيمة الحقيقة لا يعلو عليها شيء، وبأنها - في صميمها - لا تتعارض مع أية قضية شريفة.
أما المعسكر الرأسمالي فيتفنن في إخفاء ممارساته في هذا الميدان؛ إذ إن الأمور تبدو ظاهريا وكأن الإعلام الحر متاح للجميع، بل إنه يتخذ من هذا المظهر «الليبرالي» دعامة أساسية لدعايته، على أساس أنه يتفوق به على النظام المضاد تفوقا ساحقا، ولكن هذا ليس إلا المظهر الخارجي فحسب؛ إذ إن الإعلام عنده لا يعبر إلا عن مصالح فئة واحدة من الناس، هي الفئة القادرة على أن تمول الإعلام بإعلاناتها. ومن المعلوم أن الصحف الكبرى ومحطات الإذاعة والتليفزيون تعتمد في تمويلها - كليا أو بنسبة كبيرة - على أموال المعلنين، هذا فضلا عن أن هذه المؤسسات الإعلامية الرئيسية هي - في أغلب الأحيان - «شركات» تسير في أعمالها وفقا للمنطق الرأسمالي البحت، ولا يمكن أن تسمح بإعلام يؤدي إلى هدمها. وهكذا يفتقر هذا النظام بدوره إلى الإعلام الصادق، وإن كان في سيطرته على الإعلام يتبع أساليب أذكى وأبعد عن الطابع الصريح المباشر من تلك التي تتبعها النظم الاشتراكية.
ولقد تعمدنا أن نتحدث عن وضع الإعلام في النظامين العالميين الكبيرين، بعد الحديث عن خضوع الإعلام - بوجه عام - للأغراض التجارية أو السياسية؛ وذلك لكي نستخلص من هذا العرض السريع نتيجة ربما كانت مؤلمة، ولكنها للأسف ضرورية، وأعني بها أن الإعلام الذي اتخذ في عصرنا الحاضر أبعادا هائلة، وأصبح تأثيره فعالا على كل عقل، يتجه أكثر فأكثر إلى الابتعاد عن الموضوعية والنزاهة اللازمة لكل تفكير علمي؛ ومن ثم فإن هذه القوة الضخمة التي كان الناس يأملون منها أن تنشر الوعي وترعى القيم الفكرية الصحيحة؛ قد أصبحت تستخدم في معظم الأحيان بطريقة لا تساعد على تأكيد روح التفكير العلمي بين البشر.
Неизвестная страница