الجزء الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق «١»
١- مؤلف الكتاب:
هو محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون المكنى بأبي المعالي؛ ويبدو أن لا علاقة له ولأسرته بأسرة حمدون النديم الذي كان هو وأبناؤه ندماء لعدد من خلفاء بني العباس «٢»؛ واشتهر من هذه الأسرة الثانية حمدون نفسه واسمه ابراهيم بن اسماعيل وكان نديما للمتوكل، وابنه أحمد أبو عبد الله وكان نديما للمتوكل ومن بعده من الخلفاء وله عدد من المؤلفات، وأبو محمد ابن حمدون الذي نادم المعتمد وتوفي سنة ٣٠٩، وأبو العنبس بن أحمد وابنه ابراهيم وكانا مشهورين بجودة الغناء. وقد أنكر هذه العلاقة بين الأسرتين ابن صاحب التذكرة حين سأله ياقوت قائلا: حمدون الذي تنسبون إليه: أهو حمدون نديم المتوكل ومن بعده من الخلفاء؟ فقال: لا، نحن من آل سيف الدولة بن حمدان بن حمدون من بني تغلب «٣»، وسواء أصحّ هذا الذي يقوله ابن صاحب التذكرة من حيث الصلة بالحمدانيين أم لم يصح فليس في سلسلة نسب صاحب التذكرة ما يصله بأسرة بني حمدون الندماء.
1 / 5
وقد اتفقت المصادر على أن أسرة صاحب التذكرة كانت مشهورة بالرياسة والفضل «١»؛ وتفرد المنذري بقوله: «بالرياسة والرواية والكتابة» «٢» ويبدو أن الفضل في تأثيل الرياسة لهذه الأسرة لا يعود إلى أبعد من والد صاحب التذكرة أعني الحسن بن محمد بن علي، إذ لا تذكر المصادر شيئا عن الجدّ؛ وإنما تعزو إلى الحسن المكنى بأبي سعد بداية تلك السيادة حين تتحدث كيف أنه كان من شيوخ الكتاب والعارفين بقواعد التصرّف والحساب، وأنه ألّف كتابا في معرفة (أو تصريف) الأعمال، مما يدلّ على رسوخ قدم في شؤون الدواوين، ويوم توفي أبو سعد في جمادى الأولى سنة ٥٤٦، أي في خلافة المقتفي لأمر الله (٥٣٠- ٥٥٥) كان طاعنا في السن «٣» .
وقد عرّفتنا المصادر بثلاثة من أبناء أبي سعد أكبرهم يسمى أيضا محمدا ويفترق عن أخيه بكنيته ولقبه؛ فهو أبو نصر غرس الدولة، ولد سنة ٤٨٨ «وكان من العمّال» وكتاب الدواوين، كتب في الديوان من سنة ٥١٣- ٥٤٥ ولم يثبت كثيرا من رسائله لأنه كان يمليها ارتجالا، وعرف بتقريبه ومصاحبته لأهل الصلاح والخير، وكانت وفاته سنة ٥٤٥ أي قبل وفاة أبيه بنحو خمسة أشهر، وله من المؤلفات كتاب رسائل، وتاريخ الحوادث «٤»؛ وأوسط الإخوة- فيما أقدّر- هو أبو المظفر، ولعله كان يسمى محمدا أيضا، ولكن المصادر لا تتحدث عنه بشيء؛ وثالث الإخوة هو محمد أبو المعالي الذي شهر بكتاب «التذكرة» .
ولد محمد أبو المعالي في رجب سنة ٤٩٥ أي في خلافة المستظهر بالله (٤٨٧- ٥١٢) وكان في حوالي الثامنة عشرة من عمره يوم توفي هذا الخليفة،
1 / 6
وعاصر خلافة المسترشد (٥١٢- ٥٢٩) والراشد (٥٢٩- ٥٣٠) والمقتفي (٥٣٠- ٥٥٥) وجانبا من خلافة المستنجد (٥٥٥- ٥٦٦) .
ولا نسمع بشيء عنه قبل خلافة المقتفي، ولكنا لا نستطيع أن نقدر أنه ظلّ حتى بداية عهد المقتفي، وسنّه يومئذ تناهز السادسة والثلاثين، عاطلا عن العمل وقد كان أبوه وأخواه قد مهّدوا له الطريق إلى وظائف الدولة؛ ولا بد من أن تكون وظيفة «عارض الجيش» التي تولاها في عهد المقتفي «١» درجة من درجات الترقي في وظائف الدولة. وفي سنة ٥٥٨ وفي خلافة المستنجد خلت وظيفة صاحب ديوان الزمام بعد عزل أبي المظفر محمد بن عبد الله، فخلفه عليها أبو المعالي «٢»، ولعله لم يدم فيها أكثر من ثلاث سنوات، فقد تغيرت نفس الخليفة عليه، وكان كتابه التذكرة، فيما يقال، سببا في ذلك. وكل ما يقوله العماد الأصفهاني في هذا الصدد- وعنه ينقل سائر المصادر- أن الإمام المستنجد وقف في الكتاب «على حكايات ذكرها نقلا عن التواريخ توهم في الدولة غضاضة، ويعتقد للتعرض فيها عراضة، فأخذ من دست منصبه وحبس، ولم يزل في نصبه إلى أن رمس» «٣» . وليس في مقدورنا اليوم أن نحدّد- على وجه الدقة- طبيعة التهمة الموجهة إلى ابن حمدون، ولا تعيين النصوص التي ظنها المستنجد غمزا وتعريضا، وربما لم نستطع ذلك حتى بعد رؤية جميع أجزاء التذكرة محققة والقيام بدراسة محتوياتها ودلالاتها، فقد كانت هذه الأسرة تعيش في كنف العباسيين، وتنعم بعطفهم، وإن أظهر الجزء الأول من التذكرة بعض ميل إلى العلويين؛ فأكبر الظنّ أن هذا الميل كان معروفا لدى الخلفاء الذين عمل لهم بنو حمدون، وهو شيء موروث من بني حمدان إن صحت النسبة إليهم، وذلك لم يكن أمرا يحاسب
1 / 7
عليه أصحابه، ويودعون في غياهب السجون؛ وربما افترضنا أنّ الخليفة المستنجد الذي جعل لابن حمدون مكانة خاصة وكفل له تقدما في حضرته واختصاصا بخدمته «١» أخذ عليه بعض التقصير في شؤون العمل أو الاستخفاف ببعض الآيين، فأخرج غضبه في صورة أخرى، حرّضه عليها بعض الحاسدين، حين نبهه إلى أن ذلك «الموظف» غير المخلص يغمز من الدولة التي يعمل في ظلها، فيما جمعه من أخبار وقصص في كتابه، فأمر بحبسه؛ أما مدة ذلك الحبس فلا تتحدث عنها المصادر، ولعلها صادفت لديه مرضا وقهرا نفسيا فقضى نحبه في أوائل سنة ٥٦٢ (حسب قول العماد وابن خلكان) أو في الحادي عشر من ذي القعدة سنة ٥٦٢ (حسب قول ابن الدبيثي)، ودفن في مقابر قريش «٢»؛ وفي ظلّ خدمته للدولة كان يلقب بكافي الكفاة أو كافي الدولة كما كان يلقب ببهاء الدين «٣» .
عرف ابن حمدون بالفصاحة «٤» والمعرفة التامة بالكتابة والأدب، كما وصف بأنه كان كريم الأخلاق حسن العشرة وأنه «كلف باقتناء الحمد وابتناء المجد» «٥» ويستفاد من كلمة للعماد أنه كان يقرب أهل الأدب ويشملهم بعطفه «٦»؛ وتدلّ التذكرة على أنه كان شغوفا بالأدب والتاريخ إلى جانب ما يحتاج إليه «الكاتب» من فروع الثقافة الأخرى؛ ولا بدّ لمن يؤلف مثل التذكرة أن يكون شغوفا بجمع الكتب، فالتذكرة إنما هي في نهاية الأمر ثمرة المطالعة والتقييد لما يستحسنه المطالع، وقد نقدر أن هذا النحو من النشاط كان مجالا لارتياح ابن حمدون من أعباء الوظيفة، كلما خلا إلى نفسه، كما أن الحكايات في التذكرة
1 / 8
كانت زادا له في صحبته للخلفاء وبرهانا على حسن اطلاعه واتساع حدوده.
ولا تذكر المصادر من الشيوخ الذين أخذ عنهم أبو المعالي سوى اسماعيل بن الفضل الجرجاني، وقد أخذ عنه الحديث، وذكر ابن الدبيثي أنه روى عنه بسند ينتهي إلى ابن عباس «أمرنا رسول الله- ﷺ باسباغ الوضوء، ونهانا- ولا أقول نهاكم- أن نأكل الصدقة ولا ننزي حمارا على فرس» «١» . أما الذين سمعوا منه ففيهم: أحمد بن طارق القرشي وأبو المعالي أحمد بن يحيى بن هبة الله وأبو العباس أحمد بن الحسن العاقولي وابن صاحب التذكرة أبو سعد الحسن (الذي حمل اسم جده وكنيته) .
وقد كان أبو المعالي يحاول شيئا من النظم، وأورد له العماد في الخريدة ثلاث مقطعات: احداها في وصف مروحة الخيش (على طريقة اللغز) والثانية في المدح، والثالثة في الهجاء، وهذه المقطوعة الثالثة تدلّ على خفة روح وميل إلى الدعابة، وفيها يقول «٢»: [من الرمل]
يا خفيف الرأس والعقل معا ... وثقيل الروح أيضا والبدن
تدعي أنك مثلي طيب؟ ... طيب أنت ولكن بلبن
واعتمدت المصادر على ما أورده العماد فلم يرد فيها شيء من الشعر زيادة عما أورده.
وقد ورث ابنه الحسن أبو سعد المولود في صفر سنة ٥٤٧ «٣»، الشغف بالكتب من أبيه أبي المعالي، يقول فيه ياقوت: «وكان من المحبين للكتب واقتنائها، والمبالغين في تحصيلها وشرائها، وحصل له من أصولها العتيقة وأمهاتها المعينة ما لم يحصل أحد للكثير» «٤» . وبعد أن تولى هذا الابن عدة ولايات مثل
1 / 9
النظر في البيمارستان العضدي، وكتابة السكة بالديوان العزيز، قعد به الدهر، وأخذ يبيع كتبه لينفق من ثمنها على معيشته، ويصف ياقوت مبلغ حزنه عليها وبكائه لفراقها وصفا مؤثرا؛ وقد كان أبو سعد هذا ذا خط رائق كتب به كثيرا من الكتب الكبار والصغار وصححها على المشايخ الذين لقيهم «١»، وأحدثت له حادثة السجن التي تعرض لها أبوه «عقدة نفسية» فقد صنّف عددا من الكتب لم يجرؤ على إظهارها «خوفا مما طرق أباه» «٢» . وهذا يدل على أن ما رواه العماد عن سبب سجن صاحب التذكرة كان مما اعتقده أهله، وراج بين الناس. وقد توفي أبو سعد تاج الدولة هذا في سنة ٦٠٨ ودفن بمقبرة موسى بن جعفر بباب التبن من بغداد؛ وبه وبأبيه يصحّ القول بأن تلك الأسرة شهرت بالرواية مثلما شهرت بسائر أفرادها بالرياسة وبالكتابة.
٢- كتاب التذكرة الحمدونية:
لا ريب في أن جامع هذا الكتاب هو أبو المعالي محمد بن الحسن، وإن وهم في ذلك أبو شامة فنسب جمعه إلى ابنه «٣» وكذلك فعل الذهبي «٤»، وهو كتاب ضخم ذكر الصفدي (وعنه الكتبي) أنه في اثني عشر مجلدا «٥»، وقد ذكر العماد أنه كتاب كبير «جمع فيه الغث والسمين والمعرفة والنكرة»، كما ذكر المنذري أنه مشهور وأنه أجاد فيه وأحسن، وقال الدبيثي يحتوي على فنون أجاد فيه وأحسن في جمعه، وقال ابن خلكان: «من أحسن المجاميع يشتمل على التاريخ والأدب والنوادر والأشعار لم يجمع أحد من المتأخرين مثله وهو مشهور بأيدي الناس كثير الوجود، وهو من الكتب الممتعة» . وليس بين هذه الأقوال فروق، فهي تترادف أو يكمّل بعضها بعضا، وقد يكون قول العماد «جمع فيه
1 / 10
الغث والسمين والمعرفة والنكرة» موهما بمناقضته لقول غيره: أحسن فيه أو أجاد فيه، ولكن لا تناقض هنالك، والأمر في ذلك نسبي، بحسب الزاوية التي ينظر الناظر منها إلى ذلك الكتاب؛ وابن حمدون لم يزعم أنه يجمع- في كل الأحوال- أجود المختارات من الشعر والنثر، وإنما كان يقيد ما يظنه متصل المعنى بالباب الذي يعقده، وإن قال في مقدمته: «ونظمت فيه فريد النثر ودرره، وضمنته مختار النظم ومحبره، وأودعته غرر البلاغة وعيونها، وأبكار القرائح وعونها، وبدائع الحكم وفنونها، وغرائب الأحاديث وشجونها»، فهذا يعني أن الكتاب يحتوي من ذلك الكثير، ولكنه لا ينفي أن المخشلبة قد تقع أحيانا إلى جانب الدرة لتظهر الأولى مدى تفرد الثانية.
وربما لمس المرء في مقدمة التذكرة أن ابن حمدون كان يعاني نوعا من العزلة حين أخذ في جمع مادتها، مؤثرا عشرة الكتب على عشرة الآدميين، فهو يقول إنه أخذ في وضع كتابه حين «فسد الزمان وخان الاخوان، وأوحش الأنيس، وخيف الجليس، وصار مكروه العزلة مندوبا، ومأثور الخلطة محذورا»، وكانت غايته من وراء ذلك- بعد التسلية الذاتية- أن يقدم للناس أمثالا وحكما وحكايات وأخبارا ونوادر، لعلهم يجدون في كل ذلك الترويح والمتعة والعبرة والتأدب والتثقف.
ولفظة «التذكرة» أقرب إلى أن تدل على مقيدات مرسلة لا يضبطها ضابط، تقف فيها الموعظة إلى جانب النادرة، إلى جانب الفائدة العلمية، إلى جانب التجربة الذاتية، ولكن ابن حمدون شاء لتذكرته التبويب، فقسمها في خمسين بابا وجعل كلّ باب يحتوي على فصول، فاخضاع التذكرة لهذا التنظيم الواعي قد جعل لها منهجا ومخططا شأنها شأن معظم كتب «الأدب» من أمثال عيون الأخبار والعقد الفريد ونثر الدرّ وبهجة المجالس ولباب الآداب ومحاضرات الراغب وربيع الأبرار والمستطرف؛ فكلها قائم على التقسيم إلى فصول، ولكنها تتفاوت فيما بينها في شيئين: في طبيعة ما تركّز عليه من توجّه، كالتوجّه الأخلاقي أو الأدبي مثلا، وفي طبيعة ما تنفرد به رجاء الخروج من دائرة النقل
1 / 11
المستمرّ عن عدد محدد من المصادر السابقة. ويكاد كتاب البصائر والذخائر لأبي حيان- من دون غيره من كتب الأدب- أن يستحق اسم التذكرة لأنه لا يخضع لأي تبويب منظم أو خطة تصنيفية؛ ولكن دين تذكرة ابن حمدون للبصائر ولنثر الدرّ واضح تماما، فعن الأول أخذ ناحية البدء بالأدعية في مطلع كل باب، ولكن شتان ما بين تلك الأدعية الأدبية الجميلة التي يصدر بها أبو حيان كل جزء من البصائر وبين الأدعية العادية التي يجعلها ابن حمدون دلالة على محتوى الباب؛ هذا عدا عما استمده ابن حمدون من نقول عن البصائر، وربما كانت نقوله عن نثر الدر (وهو مدين للبصائر بالكثير) أكثر من نقله عن البصائر، ولكن اتفاق المؤلفين الآبي وابن حمدون في الميل الشيعي جعلهما يتحدان في طبيعة الترتيب للأبواب الأولى. فبعد البدء بالقرآن والحديث النبوي عند كليهما نجد المؤلفين يقدمان كلام علي والعترة النبوية على كلام سائر الصحابة والتابعين، ثم يفترقان بعد ذلك في طبيعة الترتيب العام، فبينا يعمد الآبي إلى قسمة كل كتاب من كتبه السبعة «١» إلى جزءين متوازيين من الجد والهزل؛ نجد الهزل يأتي في ذيل كل باب من الأبواب الخمسين عند ابن حمدون، (ما عدا الباب الثامن والأربعين فهو في النوادر والمجون)؛ وبما أن عدد الأبواب أكثر فإن كمية الهزل في التذكرة قد توازي كمية الهزل عند الآبي، ولكنها لا تستطيع أن ترجح بكمية الجد نفسه في التذكرة، ولهذا سبب واضح هو أنّ ابن حمدون يستغل الشعر في مؤلفه بقدر ما يستغل النثر أو أكثر، بينما لم يحفل الآبي بإيراد الأشعار.
وقد اختار ابن حمدون بداية وخاتمة طبيعيتين حين ابتدأ كتابه بالمواعظ والآداب الدينية وختمه بالأدعية، ثم وزع المادة على أبواب معينة، كلها يمكن أن ينتظمها اسم «الأدب» ما عدا الباب التاسع والأربعين المخصص للتاريخ؛ ومن يقرأ أسماء هذه الأبواب الباقية يجدها تقع تحت العنوانات الآتية:
1 / 12
١- الأبواب التي تتحدث عن الأخلاق كالسخاء والبخل والشجاعة والجبن والوفاء والغدر والصدق والكذب والتواضع والكبر والقناعة والحرص ...
الخ (الباب الرابع حتى الباب: ١٦) .
٢- الأبواب ذات النزعة الأدبية الشعرية: كالمدح والتهنئة والرثاء والهجاء والعتاب والوصف والغزل (الباب ١٧- الباب ٢٩) .
٣- الأبواب القائمة على فنون النثر: كالخطابة والكتابة والأمثال والأجوبة المسكتة (الباب ٣٠ حتى الباب ٣٣) .
٤- وبعد ذلك أبواب لا يربطها رابط وكان يمكن أن يدرج بعضها فيما تقدّم كالباب في الخمر (رقم: ٤٤) فإنه كان يمكن أن يلحق بالأبواب ذات النزعة الشعرية.
ومن الواضح أن هذا التنظيم كان شكليا في معظمه وذلك لتباعد الأبواب التي كان من الممكن أن تجيء متعاقبة، ولهذا لم تنج تقسيمات ابن حمدون من التداخل؛ خذ مثالا على ذلك الباب الثاني في الآداب والسياسة الدنيوية ورسوم الملوك، فإن هذا الباب لا يمكن أن ينفصل عن العدل والجور (وهو الباب الثاني عشر) وعن المشورة والرأي (وهو الباب الرابع عشر) وعن الحجاب (وهو الباب الحادي والأربعون) فكل هذه الأبواب تتصل بالسياسة (كما تتصل بغيرها) ولهذا عمد ابن قتيبة في عيون الأخبار إلى إيرادها متتابعة، وحذا حذوه في ذلك ابن عبد ربه في العقد.
ويمكن أن يقال إن التذكرة الحمدونية حيادية لا تنم عن ميل صاحبها، فليس فيها من ذاته إلا الاختيار- وهذا كثيرا ما يحكمه الموضوع- وظهور الميل الشيعي دون إسراف، وبعض الأدعية في فواتح الأبواب وهي من إنشائه؛ ولكن ابن حمدون لا يسجل فيها تجاربه ومشاهداته وقضايا عصره، ومن الجور أن نقرنه هنا بالبصائر الذي جعله أبو حيان معرضا لآراء أهل عصره ومشاكله وخصوماته ونزعاته، ولتجاربه الذاتية وآرائه فضلا عن ذوقه وجميل إنشائه؛ وقد قرأت كثيرا من أبواب التذكرة التي قد تحصلت لديّ مخطوطاتها فلم أجد ابن
1 / 13
حمدون يستشهد بشيء من هذه الأمور أو يتوقف كثيرا عندها؛ نعم وجدته يقول في بعض المواطن وهو يتحدث عن السخاء «١»: «وشاهدت اثنين أحدهما من أوساط الناس والآخر من فقرائهم، أما الأول فكان يجوع ويطعم، ويعرى ويكسو، ويتكسب بالتصرف، فيلبس القميص المرقوع، ويركب الدابة الضعيفة، لا زوجة له ولا ولد ولا عبد؛ وأما الثاني فرجل ضعيف يجتدي الناس في الأسواق، ويسألهم، ويجمع ذلك ينفقه على المحبوسين ويطعمهم ويسقيهم ويداوي مرضاهم، ويضع الأجاجين على الطرق يملأها ثريدا ويدعو الفقراء إليها وهو بقميص منخرق مكشوف الرأس، لا يعود على نفسه مما يحصله إلا ببلغته، فهذان يستحقان اسم الكرم»؛ ولكن أشباه هذا النصّ قليلة فيما أعتقد، أستثني من ذلك مؤقتا قسم التاريخ لأني لم أحصل عليه بعد. ولهذا يمكن أن يقال إن التذكرة في معظمها تمثل جهدا في النقل عن مصادر الأدب والتاريخ.
٣- النسخ المعتمدة في التحقيق:
للتذكرة الحمدونية نسخ عديدة تمثل أجزاء كثيرة منها مبثوثة في المكتبات في أرجاء العالم، وقد حصلت على عدة نسخ منها، (سأصف كلّا منها في مطلع كل جزء بحسب الحاجة) . ولما رتبت النسخ التي يمكن أن تعتمد لتحقيق الجزء الأول وجدتها ثلاثا، وهي:
١- نسخة أحمد الثالث رقم: ٢٩٤٨ (ورمزها ح)، وتقع هذه النسخة في ١٧٢ ورقة في كل ورقة ١٧ سطرا ومعدل الكلمات في السطر الواحد ١٢ كلمة، وقد كتب على الورقة الأولى منها: الجزء الأول من كتاب التذكرة تأليف الشيخ الصدر الأجل الأمجد محمد بن حمدون ﵀، اللهم كما أنعمت فزد، ثم بعض تملكات يدل أحدها أنها كانت برسم خزانة السلطان الأعظم سليمان بن السلطان شهاب الدين غازي بن محمد الأيوبي؛ وفي
1 / 14
آخرها: «تم الجزء الأول من تذكرة ابن حمدون، ولله الحمد والنعمة وبه التوفيق والعصمة وصلواته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه وعترته الطيبين الطاهرين، ويتلوه في الجزء الثاني/ الباب الثاني/ (صوابه: الثالث) في الشرف والرياسة والسيادة وما هو من خصائصها ومعانيها» . وهي مكتوبة بخط نسخي واضح جميل، وتكاد تكون إلى جانب الضبط أقرب منها إلى جانب الخطأ لولا بعض الأوهام والجمل التي سقطت، ولولا اضطراب وقع فيه الناسخ أثناء النقل فاضطرب بذلك ترتيب بعض الأوراق، وعند مقارنتها ببعض النسخ أمكن إعادة الترتيب على حسب ما كان في الأصل.
٢- نسخة رئيس الكتاب رقم: ٧٦٦ (ورمزها: ر) وقد كتب عليها أنها تمثل «الجزء الأول من التذكرة الحمدونية» وتقع في ٩٨ ورقة؛ وفي كل صفحة منها ٢١ سطرا ومعدل الكلمات في السطر الواحد ١٢ كلمة، وخطها نسخي واضح؛ ولكنها تقف عند آخر الفصل الرابع من الباب الثاني، فهي ليست كل الجزء الأول الذي تضمنته النسخة السابقة؛ كما أن ما سقط منها من النصوص يمثل نسبة كبيرة.
٣- نسخة مكتبة عمومية رقم ٥٣٦٣ (ورمزها: ع) وقد كتب على الورقة الأولى منها: الجزء الأول من تذكرة المحاضرة وتبصرة المحاورة «١»، جمع العالم المحقق الشيخ محمد بن الحسن بن حمدون رحمه الله تعالى؛ وعلى هذه الورقة تملكات؛ وتقع النسخة في ٢٤٤ ورقة؛ وهي في الحقيقة تتجاوز ما جعلناه الجزء الأول، وفي داخلها قسمة تدلّ على أنها ثلاثة أجزاء، وتنتهي عند آخر الباب الرابع عشر من التذكرة، أي الباب الخاص بالمشورة والرأي؛ وقد جاء على الورقة الأخيرة منها أن الفراغ منها تم يوم الجمعة ثاني عشر المحرم سنة ثمان وأربعين وثمانمائة، ولم يذكر اسم الناسخ؛ وعيبها فيما يتعلق بالجزء الأول (الذي تقع نهايته في الورقة ٥١/أ) وجود سقط فيها ليس من قبيل الخرم بل
1 / 15
هو من قبيل الاضطراب في النسخ.
٤- تجدر الاشارة إلى أنّ قسما من الجزء الأول من التذكرة (يشمل الباب الثاني) كان قد نشر بمصر سنة ١٣٤٥ ١٩٢٧ بعناية مكتبة الخانجي، في سلسلة «الرسائل النادرة» . وقد جاء هذا القسم من التذكرة ثالثا في تلك السلسلة، ويؤخذ من مقدمة الناشر أنه اعتمد على مخطوطة خاصة كانت لدى السيد نور الدين بك مصطفى مكتوبة بخط محمد بن أركماس الطويل اليشبكي [البشتكي] وأنها قد نسخت سنة ٨٦٨.
وقد أفدت من هذه الطبعة وأشرت اليها في الحواشي باسم «المطبوع من التذكرة» أو «المطبوعة»، معتبرا أنها تقوم مقام نسخة رابعة.
من الواضح- بعد وصف النسخ، ومن الاحالة على تجارب سابقة- أن نصوص الكتب التي تعتمد على الاختيار يمكن أن يحذف منها الناسخ ما يشاء ويبقي ما يود إبقاءه، ولا يتم اكتشاف ذلك إلا عند مقارنة النسخ بعضها ببعض؛ بل إن المقارنة نفسها قد تظل ناقصة إذا لم يستطع المحقق أن يحصل على مسودة المؤلف نفسه؛ ولهذا أستطيع القول إنني مطمئن لضبط النصّ في هذا الجزء لأني قد قرأته على مختلف المصادر، ولم اكتف بالمقارنة بين النسخ، ولكني لا أستطيع الجزم إن كانت هناك نسخة أخرى لم أطلع عليها وفيها زيادة على ما جاءت به أكمل النسخ وهي نسخة أحمد الثالث؛ وإن كنت أرجح أن ذلك أمر مستبعد.
٤- ملاحظات حول التحقيق:
سيلحظ القارىء أنني تعمدت ردّ كل فقرة إلى مصادرها- بعد أن رقمت الفقرات- وذلك لعدة أمور منها:
١- ضبط النصّ على أتم وجه ممكن.
٢- تصوير مدى دوران هذه النصوص في كتب الأدب.
٣- صنع فهرسة أولية لكتب الأدب التي نقلت عنها نصوص التذكرة أو نقلت عن التذكرة.
1 / 16
٤- تبيان مصادر ابن حمدون على وجه يكاد يكون قطعيا.
وسيكتشف القارىء مدى اعتماد ابن حمدون على نهج البلاغة وحلية الأولياء والبيان والتبيين (وعيون الأخبار) ونثر الدر والبصائر والأدب الكبير لابن المقفع وكليلة ودمنة وكتاب النمر والثعلب لسهل بن هارون (في هذا الجزء الأول وحده) وغيرها من مصادر «١» . ولهذا الأمر أجدني قد تأنيت كثيرا في تخريج الأقوال وأوجزت كثيرا في تعريف الأعلام، فاكثر الأعلام التي يذكرها ابن حمدون مشهور، وما كان منها غير مشهور فقد عرفت به لفائدة القارىء بذكر مصدر أو مصدرين، غير ملتفت إلى الاستكثار من ذكر المصادر، إذ أن بعضها يهدي إلى بعض في يسر.
وقد ضبطت النصّ ببعض الشكل، ورجحت الصواب وأثبته في المتن، غير متخذ إحدى المخطوطات الثلاث أصلا معتمدا، وقسمت الحاشية في قسمين: واحد جعلته لاختلاف القراءات في المخطوطات والمصادر والثاني لتخريج النصوص والتعريف ببعض الأعلام، وما كان زيادة من المصادر جعلته بين معقفين مستطيلين []؛ وميزت الآيات القرآنية بوضعها بين قوسين مزهرين وأثبتّ في المتن اسم السورة ورقم الآية بين قوسين عاديين.
ولا بد لي من أن أوجه الانتباه إلى ما تكشفه المصادر من تعدد في نسبة القول إلى عدد كبير من الناس؛ حتى ليكون القول الواحد نفسه منسوبا إلى خمسة، وهذه مشكلة قد توقف عندها ابن حمدون نفسه حين قال في أول الفصل الثاني من الباب الأول؛ عند الحديث عن كلام علي والعترة النبوية:
«قد اختلفت الرواة فيما جاء من مثل هذه الآداب والمواعظ اختلافا شديدا ونسبوا الكلمة منها إلى جماعة من القرابة والصحابة، وكثيرا ما نسبوا فقرا يتداولها الناس تارة إلى رسول الله ﷺ وتارة إلى أهله وأصحابه» ... وذكر ابن ٢ ١ التذكرة
1 / 17
حمدون أن كثيرا مما رواه الرضي في نهج البلاغة لعلي تبين أنه للنبي، «وكذلك غيره فعل، نسب شطرا من كلامه إلى أولاده ﵃، ولعل أحدهم كان يذكر الكلمة رواية أو تمثلا عن آبائه فيغفل الراوي الاسناد، وقد يقع التوارد في الكلمة كما يتفق الإبطاء في الشعر» . وهذا القول قد يفسّر الأقوال التي تتردد نسبتها بين الرسول وعلي وأبنائه، ولكنه لا يستطيع أن يفسر كيف يمكن أن يكون كلام لعلي موجودا في الأدب الكبير لابن المقفع أو كلام في كليلة ودمنة وقد أدرج في نهج البلاغة أو حكمة لأرسطاطاليس تنسب إلى أبي حازم الأعرج- مثلا-. وربما كان السبب الأكبر في الاضطراب هنا هو الاهتمام بالقول نفسه وبمحتواه، أكثر من الاهتمام بمن قاله، أو كما يقول ابن حمدون: «إذ المقصود المذاكرة بمعانيه لا نسبته إلى قائليه»، وكما قال أبو حيان التوحيدي: «الحكمة نسبتها فيها، وأبوها نفسها، وحجتها معها، وإسنادها متنها، لا تفتقر إلى غيرها، ولا تستعين بشيء ويستعان بها» «١» .
وهذا إن كان لا يضرّ بأن تكون الحكمة منسوبة لسقراط أو لديوجانس أو لعمرو ابن العاص فإنه يضرّ كثيرا حين تكون الحكايات صالحة لخدمة التاريخ، ثم يفسدها أن تكون كذلك الاضطراب في نسبتها؛ ولهذا فإن كتب الأدب التي ذكرت عددا منها وضعت في مرتبة متواضعة جدا بالنسبة للمؤرخ الحديث، مع أن فيها أخبارا ربما عزّ أن نجدها في كتب التاريخ نفسها.
إن كتاب التذكرة سيجيء في عدة أجزاء، ولذلك فإن هذا الجزء لا يصوّر تماما روح الكتاب، وقيمته واعتماد المصادر التالية عليه، وهذه أمور ستتضح تباعا وتستكمل صورتها بعد نشر سائر الأجزاء، وربما توضحت بالتالي صورة ابن حمدون نفسه، على ضوء ما يجدّ من معلومات.
هذا وقد بذلت في تحقيق هذا الجزء من الجهد ما يستدعي فهرسة عشرات الكتب ذات الأجزاء لاستخدامها في التخريج والتوثيق، وإني لأرجو أن يعينني
1 / 18
الله على إنجاز ما بقي- وهو كثير-؛ كما أرجو ألا أحرم من وجود النفر الذين لا يعملون ويسوءهم أن يعمل الناس، متمنيا على الله ان يمدّ في أعمارهم لكي يستمتعوا بلذة الغيظ والحقد والتنقص للآخرين.
وإذا كان لي من كلمة أقولها في ختام هذه المقدمة، فهي تقديم الشكر الجزيل للشاب اللامع المتوقد الذكاء صديقي الدكتور رضوان نايف السيد الذي أعانني على استكمال المصادر الضرورية في التحقيق، ورعى هذا العمل ببصيرته النافذة، واقتراحاته السديدة، حفظه الله ورعاه، ووفقني إلى الخير، وأقدرني على العمل المثمر في خدمة التراث العربي الاسلامي، إنه نعم المولى ونعم النصير.
بيروت في ١٠ كانون الأول (ديسمبر) ١٩٨٢.
إحسان عباس
1 / 19
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرّحيم ربّ يسّر بخير يا كريم «١» اللهم إنا نحمدك على ما أوليت من الآلاء والمنن، وأبليت من البلاء الحسن، وأفضلت علينا من إنعامك مبديا ومعيدا، وأفضت لنا من إحسانك مسديا ومفيدا، ونشكر لك على ما ألهمتنا من الشكر، وجعلته وهو منحة منك أوفى عدة لنا وذخر، ونسألك العصمة من الزيغ والزلل، ونعوذ بك من الخطأ والخطل، ونأمل منك توفيقا يقينا مزلّة العاثرين، ويحمينا من مذمّة العائبين.
اللهم وكما آتيتنا قلوبا واعية، فاجعلها إلى شكر نعمك داعية، وبما خصصتنا من فضيلة البيان، فاكفنا بلوى العجب والافتتان، واحرسنا من إساءة نتوهمها إحسانا، وعيّ فاضح نظنه بيانا، وأرنا ما خفي عنّا من عيوبنا، وواراه الهوى عن بصائرنا وعيوننا، وسلّمنا من معرّة الأقوال وهذرها، وجنبنا مضرّة الأفعال وكدرها، وصلّ على حبيبك مولانا وسيدنا «٢» محمد المختار، وعلى آله الأبرار وصحبه الأخيار «٣»، صلاة تعلي بها «٤» شريف درجته، وتنجز له «٥» بها وعده في أمته، حتى يسعهم عفوك السابغ، وتوردهم من تجاوزك وصفحك منهلك السائغ.
1 / 21
هذا كتاب جمعته من نتائج الأفكار، وطرف الأخبار والآثار، ونظمت فيه فريد النثر ودرره، وضمنته مختار الشعر «١» ومحبّره، وأودعته غرر البلاغة وعيونها، وأبكار القرائح وعونها، وبدائع الحكم وفنونها، وغرائب الأحاديث وشجونها، حين بدّل الصفو بالكدر، وغيّرت بني الأيام الغير، وفسد الزمان، وخان الإخوان، وأوحش الأنيس، وخيف «٢» الجليس، وصار مكروه العزلة مندوبا، ومأثور الخلطة محظورا، وأضاءت آثار الوحدة في القلوب فأنارتها، وحكمت العقول بفضيلة التخلّي فاختارتها، فوجدت الكتاب خير صاحب وقرين، وأفضل رفيق وخدين، لا يخون ولا يمين، ولا يماكر ولا يناكر، ولا يعصي ولا ينافر، المفضي إليه بسرّه مستظهر آمن، والمصاحب له وادع ساكن، مأمون الهفوة والزلة، محمود الخلوة والخلّة، فهو لمن وفّق للاعتزال أسلم خليل، وأكرم أخ برّ وصول، ولمن سلب الايثار، وحكمت عليه غلبة الاضطرار، تذكرة للناسي، وتبصرة للساهي، وكلّ منهما يجد في هذا الكتاب لمراده مستمتعا، ويسلك منه إلى مراده نهجا متسعا، فسيتخرج «٣» منه أدبا يقدح من زناده قبسا، ويكشف بضيائه لبسا، وحكمة يدعو إليها مرغّبا ومفيدا، ومثلا شرودا، يورده دليلا لما جوري فيه وشهيدا، وحكاية يتمثل بها، ويجعلها قياسا «٤» لما سئل عنه وشبها، وأخلاقا كريمة تحثّ على اقتفائها فالخير مأثور اتباعه، أو لئيمة تنفّر بقبحها عن احتذائها فالشرّ يكفيك منه سماعه «٥»، وسيرا وأخبارا تتمثّل «٦» بمعانيها، وتروّح القلوب لتعي الذكر بالتفكّر «٧» فيها، ونادرة يجلو بها صدأ القلوب، ويهزّ لها عطف السامع المكروب، وغير
1 / 22
ذلك مما هو مشروح في أبوابه وفصوله، ومغن بتمييزه «١» عن الدأب في تطلبه وتحصيله.
وشرّفت كلّ باب بأن بدأته بآي من كتاب الله ﷾، وأثر من رسوله ﷺ، وقدّمت أمامه تحميدا يكون مشيرا إلى معناه، وطليعة لمقصده ومغزاه، وختمته بطرف من نوادره، وملح من غرائبه، ليستريح إليها اللغب الطليح من كلال الحدّ، ويأمن معها الدئب الحريص من ملال الجدّ، خلا بابي الافتتاح والخاتمة فإنّهما لله خالصان، وللانقاذ من هفوات القلب واللسان مؤمّلان.
وهو مصروف عن الإسهاب المملّ إذ كان مطيّة العثار والإرداء، ومصدوف عن الاختصار المخلّ فانه مظنّة الخيبة والإكداء، وهما طرفان مذموم بهما الإفراط، وخير الأمور الأوساط «٢»، وما ألوت جهدا في الاختيار، ولا يلزمني أن يكون لكل الناس رضى فقد يروق للرجل لفظ وهو للآخر قذى، ويلذّ له معنى ويجده سواه أذى، والعالم في المقاصد شتّى الطرق أخياف «٣»، والاختيارات لها ائتلاف واختلاف.
وأفردت منه بابا يشتمل على جمل من التاريخ ليعرف منه أهل كلّ زمان، وأعيان كلّ أوان، فيسلم ممّا ابتلي به بعض الفضلاء وقد ذكر رؤيا رآها هارون الرشيد زعم أنه قصها على ابن سيرين، فصار بما جهل من تباعد عصريهما ضحكة للحاضرين، وودّ لو كان وفضله في الغابرين.
1 / 23
ورتبته في «١» خمسين بابا، يجمع كل باب فيها فصولا متقاربة، ومعاني متناسبة، ليقرب على متصفّحه ما يريد انتزاعه بمعرفة مكانه، ويسرع إلى ملتمسه بعلم مظانّه، وابتدأته بالمواعظ والآداب الدينية، وختمته بالأدعية المستحبّة المرويّة، رجاء أن يمحّص الله بهما ما بينهما من خائنة الأعين ويمحو، وينهض من كبّة حصائد الألسن ويعفو «٢»، وبالله المستعان «٣» .
فرحم الله امرءا وقف من كتابي هذا على خلل فأصلحه وزلل فاستدركه، فإني نقلته والقلب عليل، والخاطر كليل، والأثر قد قوّض خيمه وارتحل، والنذير قد حلّ مزعجا للزيال ونزل، والأحباب قد دلفوا، والأتراب قد سلفوا، وهم لنا فرط سابق، وأنا لظعنهم مشيّع لاحق، فلم أكد أعاود لحظه ولا تتبعت غلط الوهم واليد، وغفر له ولنا من وسعت «٤» رحمته سهو الأعمال وعمدها، ولغو النيّات وقصدها، إنه جواد كريم، غفور رحيم، وهو حسبي «٥» .
الباب الأول: في المواعظ والآداب الدينية وهو بعد الآيات المستخرجة من الكتاب العزيز أربعة فصول:
الفصل الأول: في كلام الرسول ﷺ فيما ورد موعظة وأدبا يتعلّق بالورع والزهد، وأتبعته بشيء من كلام الأنبياء قبله «٦» صلى الله عليهم أجمعين.
الفصل الثاني: من كلام آل الرسول صلى الله عليه وعليهم والعترة الهاشمية وأخبارهم فيما يناسب الباب «٧» .
1 / 24
الفصل الثالث: من كلام الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين «١» .
الفصل الرابع: من كلام التابعين وسائر طبقات الصالحين وأخبارهم.
الباب الثاني: في «٢» الآداب والسياسة الدنيوية ورسوم الملوك والرعية وهو ستة فصول الفصل الأول: الحكم «٣» والآداب التي تهذّب بها النفوس ويشترك في احتذائها السائس والمسوس.
الفصل الثاني: السياسة الملكية وما يجب للولاة وعليهم والرعية «٤»، وما يلزمهم من تقيّل «٥» الأخلاق المرضيّة.
الفصل الثالث: سياسة الوزراء والكتاب وأتباع الملوك في خدمة ولاتهم.
الفصل الرابع: الآداب والسياسة التي تصلح للجمهور.
الفصل الخامس: أخبار في السياسة والآداب يقتدى بها وتكون مثالا لطالبها.
الفصل السادس: نوادر تتعلق بهذا الباب مع بعده عنها وعلى قلّتها فيه.
الباب الثالث: في الشرف والرئاسة.
ويتضمّن هذا الباب ما جاء في شرف النفس وعلوّ الهمة والسؤدد والحلم وحمل المغارم وحفظ الجوار وحمي الذمار.
الباب الرابع: في محاسن الأخلاق ومساوئها.
1 / 25