ويجب أن نذكر كذلك في هذا الصدد أن مبادئ الديمقراطية حين وصلت إلى ألمانيا كانت مبادئ عدوها المغير عليها المذل لكبريائها، كانت مبادئ الجيش الفرنسي والدولة الفرنسية، فليس بعجيب أن يتلقاها فلاسفة الألمان بشيء من الفتور والإعراض، وأن تجنح بهم الوطنية إلى إنكار الديمقراطية في إبان المنافسة والملاحاة بين الشعبين، فهو روح شعبي ذلك الذي جنح بهم من حيث لا يشعرون إلى إنكار الدعوة «الشعبية» يوم جاءتهم على أسنة الرماح وأفواه المدافع من جانب الفرنسيين!
على أن السبب الذي يتصل بجميع هذه الأسباب ويكاد يدرجها كلها في أطوائه هو حرب «الثلاثين» المشهورة؛ فإن هذه الحرب الطحون قد دمرت ألمانيا في الشمال والجنوب تدميرا وعطلت البحث والأدب فيها جيلين متواليين ورزحت استقلال الفكر فيها خلال القرن السابع عشر الذي نشطت فيه دعوة الفكر الحر في الأمم الأوروبية الكبرى.
وهكذا اختلف الروح الألماني في مظاهر الحرية ومعاني الوطنية والعصبية اختلافا غير يسير، فكان له نمط فذ من الاستقلال والشعور بالحقوق.
ولسنا نفهم أمة الألمان وحدها حين نفهم هذه الحقائق ونلاحظ هذه الفروق، ولكننا نفهم شاعرهم جيتي حق فهمه حين ندرك الروح الألماني هذا الإدراك، ونلقي بالنا على هذا النحو إلى مزاج التدين والفلسفة والسحر والموسيقى والأناشيد والأحلام.
نبذة عن الحرية الفنية في الأمة الألمانية
لا تخلو الدنيا من فكرتين تتصارعان كما يقول هيجل فيلسوف الألمان الذي أشرنا إليه في كلمة البداءة، وإنما الغلبة الكاملة في هذا الصراع مستحيلة، فكل فكرة غالبة تفقد بعض الشيء وكل فكرة مغلوبة تغنم بعض الشيء. ثم ينتهي المطاف وفي الدنيا آثار مختلفات لجميع الأفكار غالبها ومغلوبها على السواء.
فإذا تحدثنا هنا عن تداول المدارس الفنية في الأمة الألمانية وجب أن نذكر هذه الحقيقة وألا ننسى أن الغالب منها لم يبق كل البقاء وأن المغلوب منها لم يزل كل الزوال؛ ففي العصر الحاضر أثارة من الأساليب الرومانية والمدرسية والفرنسية والمستقلة والزوبعية التي شاعت بعض الشيوع في جيل جيتي، وفيه كذلك أثارة من الرومانية الحديثة والطبيعية وما تجدد بعدهما من شتى الأساليب.
وهذه الأساليب كلها قد تتلخص على سبيل الإيجاز في أسلوبين اثنين يتداولان الغلب من أقدم عهود الفن في الأمة الألمانية، وهما الأسلوب اليوناني البسيط الصريح المعروف «بالكلاسيكي» والأسلوب المجازي المركب المعروف «بالرومانتيكي». فكان الأسلوب المجازي المركب يستولي على أذواق الألمان في القرون الوسطى إلى إبان عصر النهضة والإصلاح. ثم ضعف سلطانه رويدا رويدا بعد فتح الترك يحملون كتب الإغريق وبقايا آدابهم الخالصة من شوائب العصور المظلمة، فراح القوم يطلبون الرجعة إلى أسلوب اليونان القديم أو الأسلوب «الكلاسيكي» الصريح.
وخير ما نفرق به بين الأسلوبين أو المدرستين - ولا سيما في النحت والتصوير - أن نسمي إحداهما البسيطة والأخرى المجازية، وخير من ذاك أن نثبت هنا كلمة الشاعر الألماني المبدع «هنريك هيني» في الفرق بينهما كما وصفهما في كتابه الشائق النافع عن البلاد الألمانية، فهو يقول: «إن الفرق بينهما هو أن الصور والشخوص في الفن القديم تمثل أصحابها والفكرة التي عناها الفنان؛ فرحلات «الأوديسي» مثلا لا تعني شيئا آخر غير رحلات الرجل الذي هو ابن «لايرتس» وزوج «بنيلوب» والذي اسمه «أولس». وكذلك تمثال باكوس القائم في متحف اللوفر لا يدل على شيء آخر غير ابن سيميل الجميل يطل الحزن الجسور من عينيه وتبدر الشهوة الملهمة من نعومة ثغره وتقويس شفتيه، أما الأسلوب المجازي فغير ذلك في مغازيه؛ إذ رحلات الفارس تنطوي على كنايات خفية وتشير إلى ضلالات الحياة ومتاهاتها في جملتها. والتنين المقهور إنما هو الخطيئة! وشجرة اللوز التي تزجى برياها الشذي من بعيد إلى البطل الهائم إنما هي ثالوث الأب والابن والروح القدس: ثلاثة في واحد، كما أن القشر والليف والنواة ثلاثة في لوزة واحدة . وإذا وصف هومر درع ناضل فما هي في عرف الأسلوب القديم إلا درعا موضونة تساوي كذا من رءوس البقر، أما إذا وصف راهب القرون الوسطى ثياب العذراء في قصيدته فثق إذن أنه يعني بكل طية من طياتها فضيلة من الفضائل، وأن هناك سرا مكنونا في ثياب العذراء الطهور، وإنها هي لزهرة اللوز إذا كان ابنها نواتها، وهذه هي سنة ذلك الأسلوب من شعر القرون الوسطى التي نسميها المدرسة الرومانية.»
هذا هو تفريق هيني بين مدرستي القرون الوسطى، ولكنه يسري بعض السريان إلى فروعهما في العصور الحديثة؛ ففي المدرسة اليونانية حيث ظهرت بساطة وصراحة، وفي المدرسة المجازية حيث ظهرت لف ومجاز.
Неизвестная страница