وقال لأكرمان في عام وفاته: «دع من يشاء يبدع إن استطاع بمحض العزيمة الإنسانية - أي بغير مدد إلهي - شيئا يضارع ما أبدعه موزار أو رفائيل أو شكسبير!»
فالجمال هو معجزة الكون الإلهية عند جيتي، وهذا هو إيمان الشاعر الفنان. •••
وإيمان جيتي بخلود الإنسان ضرب من التسليم بالقدرة الكبرى والإنابة إليها، فما دام الإنسان في كفالة تلك القدرة فهي تمضي به إلى الذي هو أقوم، وهي لا تصنع العبث ولا تبطل ما تصنع، وقد قال بلسان برومثيوس : «لا أذكر بدايتي ولا أحس نهايتي، ولا أدرك الختام وإنما أنا خالد لأنني أنا موجود.» وكل يحمل برهان خلوده في نفسه فمن لم يجده هناك فما هو بواجده في شيء!
ولما سأله فولك عقيب وفاة صديقهما فيلاند: «ما تظن فيلاند صانعا في هذه الساعة؟» قال: «إنه لا يصنع شيئا حقيرا، ولا شيئا يغض منه، ولا شيئا يناقض عظمة الأخلاق التي أثبتها في حياته.» وهذا أمر لا خلاف فيه، أما عدا ذلك فليختلف فيه المختلفون.
ثم استطرد إلى ذكر «الوحدات» المعروفة في مذهب الفيلسوف ليبنتز، وقال: إنها خالدة لا يمسها الفناء، وإنها على وفاق مع القدرة الإلهية لا شذوذ فيه.
ولا طاقة لجيتي بالفلسفات العويصة التي تخوض فيما وراء الطبيعة وتقيم الدليل على خلود النفس بالمقدمات الطويلة والنتائج المعضلة، فإيمانه بالخلود لا شأن له بهذه الفلسفات ولا مرجع فيه إلى البحث الذي يكد الذهن ويثقل على الخاطر، ولكنه يستريح من الفلاسفة إلى اثنين في المحدثين وهما «سبنوزا» و«ليبنتز» الذي تقدم ذكره، وهو في إيثاره هذين الفيلسوفين وفي للعبقرية التي عرفناها وعرفنا جنوحها إلى التسليم واستحسان ما هو حاضر، فإن سبنوزا هو فيلسوف «وحدة الوجود» القائل بأن الله هو الكل والكل هو الله، وأن الإلهية ظاهرة في كل جزء من أجزاء هذا العالم، فالإنسان لا يذهب بعيدا في طلب الإله والكشف عن الأسرار وجيتي لا يأبى أن يمشي مع هذا الفيلسوف في طريقه الدمث المريح.
وسبنوزا كذلك هو القائل إن الدنيا تتغير ما تتغير ويبقى في كل تغيير شيء دائم خالد هو عنصر الكمال والجمال الذي يتجلى فيه الإله. وهنا أيضا لا يتعب جيتي من مصاحبة هذا الفيسلوف؛ لأنه يطمئن معه إلى نفسه ويرضى عن كل حالة تمر به أو تصيبه. «أما ليبنتز» فهو فيلسوف الفردية والإجزاء والرضى عن الوجود لأنه خير ما في الإمكان، وهل أحب إلى جيتي من الفردية والأجزاء والرضى عن الوجود؟ فالعالم عند ليبنتز وحدات منعزلة يعكف كل منها على نفسه ويترقى على حسب قوانينه المكنونة فيه ، فلا سلطان عليه للوحدات الأخرى ولا يلوح لنا نحن أنه يتأثر بتلك الوحدات إلا لأنها كلها معدن واحد قديم مرتب منسوق منذ أزل الآزال، وكل وحدة هي مرآة القدرة الإلهية تتجلى فيها هذه القدرة على حسب حظها من الترقي والكمال، فلا هيمنة لإحداها على سائرها وإنما تستقل كل منها بإظهار قدرة الله على منوالها، مثلها في ذلك مثل ألوف الساعات التي تدلك على الوقت وتتفق كلها في الدلالة عليه ثم أنت لا تفهم من هذا أن إحداها أثرت في سائرها ولو كانت أدق وأنفس منها، وكل وحدة خالدة تترقى وتظهر جمال الله على درجات في الإظهار، فالفردية المعزولة في هذا العالم السعيد على أتمها هنا، وجيتي يأوي من هذا المذهب إلى بيته الأمين.
وقد تلمح في جيتي أثرا من آثار أفلاطون في كلامه عن المثل التي تسبق الموجودات، فذلك إلماعه في الجزء الثاني من رواية فوست إلى عالم السكون المجهول الذي لا مكان ولا زمان فيه ولا تتقيد فيه الأشكال بقيود، ولكنها عبارة شعرية لا أكثر ولا أقل، وليس جيتي بعد هذا بالذي يعنت ذهنه في استقصاء هذه الأسرار إلى غاياتها البعيدة؛ لأن مذاهب الفلاسفة في شرح خلود النفس كما قال في أخريات أيامه: «هي شغل المتبطلين من السراة الخالين أو النساء اللواتي لا يشغلهن شاغل.»
ومن ثم إنكاره على السلطان الذي كان يدعيه رجال الكنيسة لأنفسهم في الوساطة بين الله والناس، فهو ينحو فيه نحو الفردية ونحو «وحدة الوجود» في وقت واحد؛ إذ «كل الحقائق تأتي من عند الله، وهؤلاء الناس - يعني رجال الدين - يزعمون أن الله لا يتكلم إلا بوساطة الكنيسة، فهم لا يرون كيف يتكلم الله بلسان جميع الأشياء، فما من حشرة تدب على الأرض وما من ورقة على شجرة إلا ولها نبأ تقوله من عند الله»، وجيتي يعني الكنيسة الكاثوليكية بذلك الكلام، وهي غير كنيسته البروتستانتية التي نشأ عليها هو وأهله، فليس في كلامه هذا تمرد جديد على سلطان وطيد!
ولا يخفى أن جيتي قد خامرته الشكوك في كل مذهب وكل ملة واتخذ لنفسه عقيدة تخالف عقائد الشعائر والمراسم في الجملة والتفصيل، وعرف الله في نفسه وفيما حوله بغير هداية من ذي كهانة إلا من كان يقرأ لهم ويحادثهم في أمور الدين، وله مثل ظريف في استقلال الفرد بعقيدته يقول فيه إن عقيدة الإنسان ينبغي أن تكون كالذخيرة التي يدخرها في بيته ليعتمد عليها وقت الحاجة، أما ذخائر المصارف فأرباحها لأصحاب المصارف، وقلما يربح منها المستعيرون.
Неизвестная страница