ولا بد أن نذكر أن طبيعة التفكير التي واجه بها تلك الآفاق الواسعة هي طبيعة واحدة على تعدد الموضوعات، فهي طبيعة الفني المتذوق المتملي الذي يستمتع بتكوين عواطفه ومعارفه كما يستمتع الفنان بتكوين تمثاله، وسبيلنا إلى فهم هذه العبقرية أن نقرن بينها وبين عبقرية أخرى متعددة الجوانب واسعة الآفاق يذكر اسم صاحبها مع اسم جيتي في هذه الأيام، ونعني بها عبقرية «ليوناردو دافنشي» المصور الموسيقي المهندس الفيلسوف الدارس للأحياء وظواهر الطبيعة في كل شيء، فهذه العبقرية قد جمعت طبيعة الفنان المأخوذ بجمال الظواهر وتعبيراتها إلى طبيعة العالم المدرب على التجربة وربط الأسباب إلى طبيعة الرياضي القادر على الفروض والتقديرات. أما جيتي فقد كان فنيا في أدبه فنيا في عمله فنيا في فروضه، وكان محروما من ملكة الفرض الرياضي لأنه يناقض عبقريته المطبوعة على فهم ما بين يديه وترك البعيد المقدر حتى يجيء إليه، ولا ندري ماذا كان يصنع جيتي لو كان كليوناردو فقيرا يضطره البحث إلى إهمال عمله الذي يعيش منه، ولكننا ندري أن ليوناردو كان خليقا أن يصنع أضعاف ما صنع لو رزق سعة الوقت ويسر الوسيلة. •••
فمباحث جيتي على تعددها تمت بنسبها إلى طبيعة واحدة، وهي طبيعة العبقرية الفنية الذواقة التي تلتذ جمال الحاضر وتحيله إلى رياضة متزنة ومحصول جميل.
وإذا ذكرت العبقرية الذواقة في صدد الكلام على جيتي فلك أن تفهم كلمة الذوق بأعم المعاني وأخصها في آن واحد، فقد كان الرجل جيد الذوق في حسه كما كان جيد الذوق في تفكيره، والروايات التي تنقل عن جودة حسه تدهش السامع وتعيد إلى الذاكرة غرائب الأقدمين في بعض الأحيان. فمن ذاك ما رواه «شواب» عن تمييزه لطعوم النبيذ حيث قال: «إن جيتي لخبير بالنبيذ لا يجارى، وقد شهدنا على ذلك مثلا رائعا في وليمة عند الأمير كارل أوغست حضرها بعض الأخصاء، فبعد الفراغ من الطعام وارتشاف كئوس النبيذ الفاخر استأذن قائد البلاط مسيو دي سبييجل في إحضار صنف من النبيذ دون التصريح باسمه، فجاء بنبيذ أحمر وعرضه على الحاضرين فترشفوه فإذا هو جد فاخر، وزعم أكثرهم أنه خمرة برغونية ولكنهم لم يتفقوا على رأي في بادئ الأمر، ثم عادوا إلى الإجماع على هذا الرأي لما رأوا كثيرا من ذوي الأذواق في القصر يجنحون إليه بينهم الأمير. إلا أن جيتي ما فتئ وحده يترشف كأسه ويعيد ترشفها ويومئ برأسه إيماءة إنكار، ثم وضع الكأس فارغة على المائدة وهو يراجع نفسه، فقال قائد البلاط: يلوح لي أن صاحب السعادة يرى غير هذا فهل أجسر على سؤاله من أي الأصناف هذا النبيذ؟ فأجاب جيتي: إنني أجهله، ولكني لا أحسبه من خمر بورغونية، إنما أرجح أنه من خمر يينا معصورة من أعناب شتى منتقاة لبثت زمنا في دن خمرة مديرية. وكان هذه هي الحقيقة.»
والروايات الأخرى التي تروى عن جودة سمعه منذ طفولته تدل كذلك على تمييز نادر للأصوات والأنغام، فقد كان في صباه الباكر يحكي أصوات الممثلين والمغنين ويدرك بحور الشعر ويقيم أوزانه، وكانت قدرته على الصياغة العذبة في جميع أيامه فوق كل قدرة عرفت بين شعراء الألمان إلا من ندر، حتى قال شيلر قرينه ورصيفه: إننا نعني أنفسنا بصوغ الأناشيد وجيتي لا يتكلف لها إلا كما تهز الشجرة فتساقط الرطب الجني.
فهذه الطبيعة الذواقة التي تتملى ما بين يديها لحظة لحظة هي طبيعة جيتي الشاعر وجيتي المفكر وجيتي العالم وجيتي الفيلسوف، وهي التي تتجلى في كشوفه العلمية كما تتجلى في أناشيده وأغانيه، فليس ها هنا إلا ملكة واحدة تدير نفسها على نواح كثيرة، وهي نعم ملكة نادرة في قدرتها ونفاذها واتساعها ولكنها بعد ملكة واحدة تتجلى بعينها في كل مقام.
وإلا فما هو تحور النبات وتطور العظام إن لم يكن هو العناية بالجزء بعد الجزء والقول بأن المجموع لا يدرس إلا في الأجزاء وإن دراسة الجزء المحدود تلهمنا العلم بالكل الذي لا حد له من حيث نريد أو لا نريد؟
وما هو الإصرار على بساطة النور وكراهة الآلات التي تدخل بين العين والمرئيات إن لم يكن هو تقديس الفنان للنور وحبه لاستجلاء الجمال في مشهد العين بغير وساطة من منظار أو موشور؟
لقد كان جيتي لا يمل القول بكفاية «الظواهر الطبيعية» وقلة الحاجة إلى التعمق فيما وراءها، فكان يقول: «أعلى تجارب الإنسان الروعة، فإذا كانت الظواهر الطبيعية تروعه فدعه يقنع بها، فهو لن يسمو عليها ولا ينبغي أن يذهب وراء هذه التجربة.» وكان يقول: «يجب ألا نحاول النفاذ إلى ما وراء الظواهر فهي في ذاتها الدرس المطلوب.» وكان أبدا يعجب للذين ينقبون عن الأسرار الخفية والظواهر المكشوفة كلها أسرار تناديهم فلا يلتفتون، فهل هذا إلا كلام فنان يأبى أن يزاول العلم والفلسفة إلا مزاولة طلاب الروعة والجمال؟
أحد تماثيل جيتي في شيخوخته.
بلى! وخلاصة درسه كله ما قال في هذه الأبيات: «كأي من سنة أطلقت فيها فكري بين الاستجلاء والدرس يتعمق ويتفقه كيف تعيش الطبيعة في خلائقها! فهي الواحد الخالد يتكرر في الكثرة المفرقة، فصغير ما هو عظيم، وعظيم ما هو صغير، وكل شيء على منواله يتبدل أبدا ولا يني أبدا يزاوج بين البعيد والقريب وبين القريب والبعيد، ويتخذ له صورة ثم ينسخ هذه الصورة، ما أحسبني أصنع هنا إلا أن أراع وأعجب بما أراه!»
Неизвестная страница