بل أراد جيتي أن «يستشرق» ما استطاع في أثناء إظهاره لهذا الديوان، فكان يقرأ الأشعار الشرقية وينسخ الخطوط العربية، كأنه يلاقي بذلك بين الروح وجثمانه واللفظ وفحواه، فكان في هجرة إلى الشرق كما قال، أو كان الديوان «سلاما» من الغرب إلى الشرق كما قال هيني، وهو على كلتا الحالتين هجرة مبرورة وسلام نرده بأحسن منه.
مؤلفات أخرى
تلك أشهر مؤلفات جيتي وأدلها عليه، ولجيتي مؤلفات أخرى معظمها من قبيل المقطوعات المبتورة وقليل منها الذي تم وانتظم في عداد المؤلفات الكاملة، وله فصول في صحف اشترك في إصدارها مع غيره ورسائل إلى الأصدقاء والصديقات وله أحاديث مروية مع أكرمان وولف ومولر وسوريه وريمر وغيرهم لا تقل هي ورسائله الخاصة عن طبقة كتبه في الإصابة والامتناع.
ولعل أتم مؤلفاته بناء وأحسنها تنسيقا رواية «هرمان ودوروثي» التي بدأها في أواخر سنة 1796 وفرغ منها في مارس من السنة التالية، وكان شيلر يحضه على إتمامها ويواليه بالسؤال عنها، فجاءت على نظام حسن لكتابتها في فترة واحدة واطلاع شيلر عليها. وهي حكاية ألمانية نظمها جيتي على مثال رواية لويز للشاعر فوس واتخذ لها بطلة إحدى الخدم المهاجرات الهاربات من الجنود الفرنسية، وجعلها تتزوج بالفتى هرمان وهو من طبقة الموسرين، ووصف فيها عادات الألمان وأخلاقهم وآدابهم في أسرتهم، وضمنها نزعة وطنية لا تصادفها كثيرا في روايات جيتي الأخرى؛ فهي لهذا محبوبة عند الألمان، وهي «ورتر» الخامسة والأربعين من العمر، ففيها عواطف «ورتر» الأولى كلها ولكنها هنا صاحية مقررة أقرب إلى العمل منها إلى الخيال.
وله رواية أخرى عن ثورة هولندة في طلب الحرية الدينية والسياسية أسماها باسم الكونت «أجمونت» وأطال مراجعتها على عادته، فبدأها سنة 1775 بتشجيع من أبيه ولم يفرغ منها إلا في سنة 1788 بعد رحلة في سويسرة وأخرى في إيطاليا.
جيتي في الحادية والأربعين.
وهي - كما قال لويس الكاتب الإنجليزي - حوار وليست برواية تمثيلية، وكانت نثرا فنظمها شعرا، وقد قال في ترجمة حياته: إنه شرع فيها ولما يبرأ من وجده على صاحبته «ليلي»، فكأن بطلتها كلارسن مرسومة على نموذج تلك الحبيبة، وإن خالفتها في بعض الأوصاف.
وله رواية «إفيجيني» وهي التي تختار في مناسبات الذكرى من بين رواياته التمثيلية، وكان جيتي يمثل أحد أدوارها في حياته، ومدار الرواية على أسطورة يونانية قديمة ترجع إلى حرب طروادة، وخلاصتها أن «آغاممنون» قتل ظبيا لديانا آلهة الصيد فغضبت الآلهة وأرسلت الطاعون على جيشه وحبست الريح عن سفنه فوقفت في مكانها، فلما التمس الفتيا في شأن هذا البلاء قيل: إنه لا يدفع إلا بضحية ولا تكون هذه الضحية إلا بنته «إفيجيني»، فامتثل أمر الآلهة وجاء بابنته للفداء يزعم لها أنه سيزفها إلى البطل أشيل، فأشفقت ديانا عليها واتخذتها كاهنة لها في طوريد، وهناك جاءوها بأخيها «أورست» وصديقه بيلاد - وهي لا تعرفهما - لتضحي بهما إلى الآلهة، فلما عرفتهما احتالت على العود معهما إلى بلادها، فعادوا جميعا بسلام.
وقد نظم «يوربيدس» الشاعر اليوناني في هذه الأسطورة ونظمها جيتي في صيغة أخرى، إلا أن الفرق بينهما كالفرق بين ما يكتبه يوناني في عهد الجاهلية وما يكتبه ألماني في عهد الثقافة الحديثة، فجيتي بسيط في أدائه كالشاعر القديم، ولكن رواية «يوربيدس» قائمة على صراع الشهوات ، ورواية جيتي قائمة على صراع الأخلاق، وتلك مزدحمة بالمشوقات والمفاجآت وهذه لا تشويق فيها ولا مفاجأة، والقدر في الأولى صارم في أحكامه ولو عدل عنها، ولكنه في الثانية قدر واسع الرحمة غفور.
وأنت تخرج من هذه الكتب بالنتيجة التي خرجت بها من الكتب الأولى، فجيتي هنا وهناك شاعر الأجزاء والحالات الفردية يجيد فيها ولا يجيد في غيرها؛ فخذ منه ما شئت سردا للكلام المفرد ورسما للشخوص المعزولة، لأن ملكة الأجزاء تغني كل الغنى في هذه المقاصد، بيد أنها لا تغني في حبك الفصول المركبة ولا في ربط الوقائع المشعبة ولا في إحياء الحركة واشتباك العقدة، فحظه من الإجادة في هذه المقاصد غير جليل.
Неизвестная страница