الْقَاضِي نَاظِرًا: هَذِهِ الْمَسَائِلُ تَكَلَّمَ عَنْهَا الْعُلَمَاءُ الْمَاضُونَ لَمَّا كَانَ الْعِلْمُ فِي أَعْصَارِهِمْ كَثِيرًا مُنْتَشِرًا، وَشُغِلَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالْمُنَاظَرَةِ عَلَى الْمَذَاهِبِ، وَأَمَّا عَصْرُنَا هَذَا فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْإِقْلِيمِ الْوَاسِعِ الْعَظِيمِ مُفْتٍ نَظَّارٌ قَدْ حَصَّلَ آلَةَ الِاجْتِهَادِ، وَاسْتَبْحَرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَعْرِفَةِ اللِّسَانِ وَالسُّنَنِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَالِاقْتِدَارِ عَلَى تَأْوِيلِ مَا يَجِبُ تَأْوِيلُهُ، وَبِنَاءِ مَا تَعَارَضَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَتَرْجِيحِ ظَاهِرٍ عَلَى ظَاهِرٍ، وَمَعْرِفَةِ الْأَقْيِسَةِ وَحُدُودِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَطُرُقِ اسْتِخْرَاجِهَا، وَتَرْجِيحِ الْعِلَلِ وَالْأَقْيِسَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، هَذَا الْأَمْرُ زَمَانُنَا عَارٍ مِنْهُ فِي أَقَالِيمِ الْمَغْرِبِ كُلِّهِ، فَضْلًا عَمَّنْ يَكُونُ قَاضِيًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَالْمَنْعُ مِنْ وِلَايَةِ الْمُقَلِّدِ الْقَضَاءَ فِي هَذَا الزَّمَانِ تَعْطِيلٌ لِلْأَحْكَامِ، وَإِيقَاعٌ فِي الْهَرْجِ وَالْفِتَنِ وَالنِّزَاعِ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ، وَلَكِنْ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ الْمُقَلِّدِينَ فَرُبَّمَا وَلَّى وُلَاةُ الْأَمْرِ عَامِّيًّا لِغِنَاهُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَتَحَلِّيهِ بِاسْمِ الْعَدَالَةِ وَسَمْتِ الْوَقَارِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ التَّخْصِيصِ وَمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُطَالَبَةِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ وَالْجَهْلِ وَيُلْحِقُهُ بِطَبَقَةِ مَنْ يَفْهَمُ مَا تَقُولُ الْخُصُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَلَّى قَضَاءً وَلَا يُوثَقَ بِهِ فِيهِ انْتَهَى
وَكَانَتْ وَفَاةُ الْمَازِرِيِّ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وَحَكَى ابْنُ رَاشِدٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَجَازَ تَوْلِيَةَ الْجَاهِلِ وَرَأَى كَوْنَهُ عَالِمًا مُسْتَحَبًّا لَا شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ وَلَا مُوجِبًا لِلْعَزْلِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ بَعِيدٌ عَنْ الصَّوَابِ، وَالْقَاضِي أَحْوَجُ النَّاسِ إلَى الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَيَحْكُمُ بِمَا يُجْمِعُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَسْتَشِيرَ وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا، فَإِذَا اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ اجْتَهَدَ فِي اخْتِلَافِهِمْ وَتَوَخَّى أَحْسَنَ أَقَاوِيلِهِمْ، فَإِذَا كَانَ جَاهِلًا الْتَبَسَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِمَاذَا يَأْخُذُ، وَرُبَّمَا وُلِّيَ الْجَاهِلُ بَلَدًا لَا فُقَهَاءَ فِيهِ فَيَحْكُمُ بِهَوَاهُ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى بِلَادِنَا وَزَمَانِنَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْعِلْمُ وَكَثُرَ الْجَهْلُ وَقُدِّمَتْ الْجُهَّالُ وَاطَّرَحَتْ الْعُلَمَاءُ - فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ - وَأَمَّا سَلَامَةُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضَ حَكَى فِيهِ الْإِجْمَاعَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ إلَّا مَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ قَضَاءُ الْأَعْمَى وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ مَالِكٍ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى قَضَاءٌ وَلَا ضَبْطٌ وَلَا مَيْزُ مُحِقٍّ مِنْ مُبْطِلٍ وَلَا تَعْيِينُ طَالِبٍ مِنْ مَطْلُوبٍ وَلَا شَاهِدٍ مِنْ مَشْهُودٍ عَلَيْهِ مِنْ
1 / 27