Природа и сверхъестественное: Материя. Жизнь. Бог
الطبيعة وما بعد الطبيعة: المادة . الحياة . الله
Жанры
تلك شهادة الوجدان، وذلك تأويلها البديهي، تؤيدهما الإنسانية جمعاء، حتى الفلاسفة المنكرون للحرية يعترفون بها عمليا، فإنهم في إنكارهم منقادون لأسباب مذهبية بعيدة عن هذه المسألة بالذات، أولها الآلية الكلية في الطبيعة وضرورتها لقيام العلم. ولكن الناس بلا استثناء يمدحون ويذمون، يثيبون ويعاقبون، يبذلون النصائح والوعد والوعيد، يسنون القواعد والقوانين، فيدلون بكل أولئك على أنهم يعتبرون بني الإنسان أحرارا. أجل قد تفيد بعض هذه الأمور في رياضة الحيوان، ولكنه لا يفقه لها من معنى سوى الرغبة الحسية في لذة حسية، أو الخوف الحسي من ألم حسي، فإننا برياضته نكون فيه تداعيا مجبرا، لكنا لا نثني عليه ولا نذمه. وشتان بين هذا التداعي وبين المعاني الأخلاقية المتعارفة بين الناس. هذه الشهادة المجموعية ليست برهانا جديدا على الحرية، وإنما هي تسجيل للواقع، وتأييد لشهادة الوجدان الفردي، يستمد قوته من استحالة تكرار الخطأ لدى جميع الناس في أمر يمسهم بمثل هذا القرب.
إلى هذه الشهادة الصريحة وجهت اعتراضات، منها ما ينكرها في ذاتها، ومنها ما يزعم بطلانها استتباعا لحجة عقلية أو علمية. فمن الناحية الأولى يقول جون ستوارث مل: «للوجدان أن ينبئني عما أفعل» لا بما أستطيع أن أفعل دون أن أفعله، من حيث إنه غير مفعول، فالوجدان لا ينبئني بالحرية. وجوابنا أن هذا حق؛ من الحق أن الوجدان لا يدرك الفعل الممكن غير الموجود بعد، ولكنه يدرك القوة الحاضرة فيه المترددة بين جهة وأخرى، ويدرك أن الإرادة غير معينة إلى إحداهما، وأن الاختيار موكول إلينا، وأننا نستطيع أن نرجئه ونستطيل المشورة، وهذا شعور بالحرية.
ومن هذا القبيل اعتراض آخر هو اعتبار الشعور بالحرية وهما ناشئا من شعورنا بحركاتنا النفسية يصحبه جهلنا بالأسباب الدافعة إلى الفعل، بحيث تكون هناك ضرورة غير موعية لا حرية موعية. فيقول سبينوزا: أليس الحالم والمستهوي والسكران يتوهمون أنهم يفعلون بحرية؟ ويقول بيل
Bayle
وهوبس
Hobbes : لو كانت الإبرة الممغنطة أو دوارة الهواء أو دوامة الماء مفكرة واعية وشعرت بدورانها وهي تجهل سببه، أليست تتوهم أنها تدور من تلقاء نفسها حرة مختارة؟ ونحن نقول: إن توهم الحرية يستلزم مزاولة سابقة للحرية، فإن المضطر بطبعه لا يشعر بالحرية ولا يتوهمها. كما أن الأكمه لا يتوهم الألوان، والأصم الأبكم لا يتوهم الأصوات. ثم لو صح رأيهم للزم منه أن شعورنا بالحرية يزداد بازدياد جهلنا بالمؤثرات، والواقع أننا لا نضيف الحرية إلا للأفعال التي فكرنا فيها مليا وأتيناها ونحن على بينة من الأمر.
وثمة اعتراض منطقي مأخوذ من مبدأ العلية، فإن المنطق يعلمنا أن اختلاف قضيتين إيجابا وسلبا - وهذا هو التناقض - يقتضي صدق إحداهما وكذب الأخرى، وإذن فأفعالنا المستقبلة معينة في أنفسها، ولا سبيل إلى القول بالحرية. ولكنهم يخلطون من عدة وجوه: فقاعدة التناقض صحيحة في الضروريات كالقضايا الرياضية، لما بين حدودها من علائق لازمة؛ وصحيحة في القوانين الطبيعية لقيام هذه القوانين على ماهيات الموجودات وعلائقها الثابتة بعضها مع بعض؛ وصحيحة في الممكنات الحادثات الماضية والحاضرة، كما إذا قلنا: إن آدم عصى ربه وإن آدم لم يعص، أو إن المطر يسقط الآن في الهند وإن المطر لا يسقط الآن في الهند، فإن إحدى القضيتين المتقابلتين صادقة والأخرى كاذبة في نفسها؛ أما الممكنات المستقبلة الموجودة في عللها بالقوة البحتة دون أن تكون معينة قبل تحققها، كالأفعال الحرة، فليست مستقبلة بالتعيين، وليست القضايا المعبرة عنها صادقة ولا كاذبة لعدم تعين موضوعاتها في عللها، ولإمكان هذه الموضوعات جميعا على السواء.
ويترجمون عن مبدأ العلية بأن نفس العلل في نفس الظروف تحدث نفس المعلولات، ويستنتجون من هذه الترجمة أن لا مجال للحرية، وإلا كان الفعل الحر بلا علة. يقول ليبنتز: إن الإرادة إذ تختار تميل مع أقوى الدواعي أو البواعث أثرا في النفس كما يميل قب الميزان إلى جهة الثقل؛ ويقول سبينوزا: إن الفكرة الجلية تميل إلى التحقق بفضل جلائها وقوتها. ولكنا لا نسلم بصحة الترجمة؛ لأنها تقصر مبدأ العلية على عالم الجماد، أي على مبدأ القوانين الطبيعية أو العلل المعينة إلى معلولات بعينها، على حين أن مبدأ العلية أعم، إذ إن من العلل ما يفعل بالضرورة؛ لأنه معين إلى فعله، ومنها ما يعين فعله بنفسه، كالإرادة. فمن التعسف إرجاع كل علية إلى العلية الآلية المشاهدة في الكائنات غير العاقلة، لا سيما وأن المشاهدة تدل على أن وطأة الجبرية أو الضرورية تخف كلما ارتقينا في سلم الكائنات؛ وليس من المنطق في شيء أن تنكر الحرية اعتمادا على مبدأ هو قانون الكائنات غير الحرة.
نذكر أخيرا أن خصوم الحرية كثيرا ما يستشهدون بالإحصاءات الاجتماعية، ويرتبون عليها جبرية ناتجة من تأثير البيئة الطبيعية وتأثير الوراثة والتربية وما إلى ذلك، فإن الإحصاءات إذا تقاربت سنة بعد أخرى - وخصوصا إذا أمكن توقعها - دلت على أن أسبابا عامة تنتج الأفعال الجزئية. ولكنهم يغفلون عن أن الإحصاءات تقريبية دائما، ولا تلزم بردها إلى أسباب مضطرة، بل تبين فقط أنها تدخل في اعتبار الناس، فإذا قبلوها فإنما يقبلونها مختارين: مثال ذلك أن الإنسان قد يتردد في الزواج، فإذا تزوج فليس يعني هذا أنه تزوج مضطرا، وإنما يعني أنه أقدم مختارا على أمر كان في قدرته أن يحجم عنه. ثم إن الإحصاءات لا تتناول الأفعال الباطنة، فلا تذكر عدد الذين يقاومون تلك الأسباب، فلم لا يكون هذا العدد ممثلا للحرية؟ ويشهد التاريخ على أن مقاومة البيئة والتمرد على التقاليد حقيقة تكررت لدى الأفراد الممتازين، ولسنا نقصد أن جميع أفعالنا حرة، بل إن بعضها حر ولو كان قليلا.
والإحصاءات لا تجيء مضبوطة إلى حد ما إلا إذا امتدت على عدد عديد من السنين، فتتلاغى وتتركب ولا تبدي سوى نتائج الأسباب المطردة. وإذا سلمنا بصحتها كانت عبارة عن متوسطات يدخل فيها بعض الأفعال، ويشذ عنها البعض، فتدل فقط على التأثيرات العامة، ولا تعني أن هذه التأثيرات تضطر كل فاعل بمفرده، فإن «قانون المتوسطات صادق على العموم كاذب على الخصوص»، كما قال كلود برنار.
Неизвестная страница