بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأيده بأصحاب كالنجوم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وبهم أصحاب الضلالة يهتدون، وأتبعهم بعلماء كأنبياء بني إسرائيل يُعلمون الناس من شريعة نبيهم ما يجهلون، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، عدد ما كان، وما يكون صلاة وسلامًا دائمين مُتلازمين إلى يوم يُبعثون.
وبعد؛ فإن من أراد النجاة في الدارين، والسعادة في الحالين، والاتباع بالإحسان، والإحسان باتباع الأعيان، فعليه بسلوك طريقة من سلف من الأئمة المهتدين، والعلماء العاملين، والفضلاء المحققين الفاضلين، ممن لم يُرد بالعلم مُماراة ولا مباهاة، ولا مُجادلة ولا مُضاهاة، بل قصر ليله على العبادة، ونهاره على الإفادة يقول الحق ويعمل به، ويفعل الخير ويُرشد إليه، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يصده عن الحق رهبة ظالم.
ولا سبيل إلى هذا السبيل إلا بعد مَعرفتهم، والوقوف على جليتهم، والإحاطة بأوصاف أخيارهم، والاطلاع على جُملة أخبارهم.
ولما كان هذا أمرًا يتعذر، وعملاُ يتعسر، بل لا يدخل تحت مقدور البشرية، ولا يُمكن إدراكه بالكلية، وقد قيل: مالا يُدرك كله لا يُترك كله، وواجب علينا أن نبدأ بالأهم، والأولى فالأولى.
وكان من أهم المهمات أن يعرف الشخص أولًا من جعله وسيلة الهداية بينه وبين الله، وقلده فيما يراه، وتبعه فيما يتحراه، اقتضى الحال على أن نقتصر على ذكر أئمتنا الذين نهتدي، وبأقوالهم وأفعالهم نقتدي.
وهم إمام الأئمة، وسراج الأمة " وأمين الله تعالى على حفظ شريعته في أرضه، والمُميز لعباده بين واجبه وفرضه "، أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، تغمده الله بالرحمة والرضوان، وأسكنه فسيح الجنان، وأصحابه الذين أخذوا عنه، واقتدوا به، واتبعوه بإحسان، إلى زمننا هذا، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فإن فيهم كفاية، لمن أراد الهداية، ونهاية، لمن أراد الدراية، وليس في أصحاب المذاهب أجل منهم، ولا أحد عاصرهم أو جاء بعدهم يستغنى عنهم، فالناس خصوصًا في الفقه عيال عليهم، وفي الرحلة أجل من تضرب أكباد الإبل إليهم، ما تركوا علمًا يُمكن تعلمه إلا حصلوه، ولا فعلًا محمودًا إلا فعلوه.
وقد صنف في مناقبهم وفضائلهم وطبقاتهم، كتب كثيرة، ومجلدات كبيرة، غير أن تقادم الزمان أخلق جِدَّتها، وأنقض عُلتها؛ فإن غالبها كان بالعراقين مقره، وبدار السلام مثواه ومُستقره، وكان منها أيضًا بما وراء النهر، مالا يدخل تحت الحصر، مِما حال بيننا وبينه بُعدُ المراحل، وانقطاع القوافل، وتداول الفِتَّن، وتناوب صُروف الزمن، وضاعت الكتب، بعضها بالإغراق، وبعضها بالإحراق، واندرست الآثار، ونُسيت الأخبار وأصيب الإسلام وأهله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فخطر في خلدي أن أجمع كتابًا مُفردًا، جامعًا لتراجم السادة الحنفية، مُستوفيًا لأخبارهم وفضائلهم ومناقبهم، وذكر مؤلفاتهم ومُصنفاتهم، ومحاسن أشعارهم، ونوادر أخبارهم، وغير ذلك، بحسب الطاقة، ونهاية القدرة، وإلا فهم مِمن لا يُمكن حَصره، ولا يطمع في الإحاطة به، ولا في الوصول إليه.
فانتخبت ذلك من الكتب المعتبرة، التي يرجع في النقل إليها، ويعول في الرواية عليها؛ من ذلك: " تاريخ الخطيب البغدادي ".
" تاريخ ابن خلكان ".
" تاريخ ابن كثير ".
" الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة "، للحافظ ابن حجر.
" انباء الغُمر بأنباء العمر " له أيضًا.
" رفع الإصر عن قضاة مصر " له أيضًا.
ذيله، المسمى ب " بُغية العُلماء والرواة " لتلديذه الشيخ شمس الدين السخاوي.
" طبقات الغويين والنحاة "، للحافظ جلال الدين السيوطي.
" طبقات المفسرين "، له أيضًا.
" نُظم العقيان في أعيان الأعيان "، وله أيضًا.
" الروض البسام في من ولى قضاء الشام "، لأحمد بن اللبودي.
" الجواهر المُضية في طبقات الحنفية "، للشيخ عبد القادر القُرشي، وهي أكبر طبقات وقفت عليها لأئمتنا السادة الحنفية، مع أنها مختصرة بالنسبة إلى شأن من صُنفت في حقهم.
" طبقات الحنفية "، للشهاب المقريزي.
" طبقات الحنفية "، للشيخ قاسم قطلوبغا الحنفي.
1 / 1
" طبقات الفهاء "، لأبي إسحاق الشيرازي، وهي شاملة لسائر الفقهاء الكبار، والمجتهدين الأخيار، من أصحاب المذاهب المتبعة، وغير المتبعة، من الصحابة والتابعين وغيرهم، إلى الزمن الذي كان فيه، رحمه الله تعالى.
" يتيمة الدهر " للثعالبي.
" تتمة اليتيمة "، له أيضًا.
" دُمية القصر "، للباخرزي.
" الخريدة " للعماد الكاتب.
" تاريخ قزوين " لأبي القاسم الرافعي.
" تاريخ جُرجان "، للحافظ السهمي.
" تاريخ آل رسول " بغير ألف ولام، للخزرجي.
" معجم البلدان " لياقوت الحموي.
" طبقات المحدثين "، للحافظ الذهبي.
" تاريخ الإسلام " له أيضًا.
" العِبر " له أيضًا.
" ذيل العبر " للحافظ زين الدين العراقي.
" طبقات النحاة "، لأبن قاضي شهبة.
" الوافي بالوفيات "، للصلاح الصفدي.
" أعيان العصر وأعوان النصر " له أيضًا.
" الشقائق "، لابن طاش كبرى.
" تهذيب الأسماء واللغات "، للإمام النووي.
" تاريخ الصعيد " للأذفوي.
" تاريخ اليافعي ".
" أسماء شيوخ ابن حجر ".
" أسماء شيوخ السيوطي ".
" مرآة الزمان "، لسبط ابن الجوزي.
" الذيل على مرآة الزمان "، لليونيني.
" المنتظم " لابن الجوزي.
وغير ذلك من التواريخ، والطبقات والتراجم، وأسماء الرجال ودواوين الشعراء، ومجاميع الأدباء، ومن أفواه الثقات، وأعيان الرواة، ولا أنقل شيئًا إلا بعد أن يشهد له العقل والنقْل، وغلبة الظن بالصحة.
وقد صدرت هذا الكتاب بمقدمة، تشتمل على بيان من ألفته باسمه، وعملته برسمه، وعلى فوائد مُهمة، تتعلق بفن التاريخ، لا يسع المؤرخ جهلها، وعلى بيان ما اصطلحت عليه في هذا الكتاب، وهي مقدمة تحتوي على أبواب وفصول، جعلها الله تعالى منتجة لكل خير، مُوصلة لكل مأمول، بمنه وكرمه.
وسميته " الطبقات السنية في تراجم الحنفية ".
نفع الله تعالى به، وأثاب عليه، بمنه وكرمه؛ إنه على كل ما يشاءُ قدير، وبالإجابة قَمِنٌ وجدير.
باب
في بيان من ألَّفته باسمه، وعلمته برسْمِه
وهو صاحب القران السعيد، وسلطان الأوان المديد، وإسكندر الزمان، وفخر آل عثمان، متى تفتخر الملوك بتقبيل أعتابه، وتتباهى السلاطين بخدمة أبوابه، ومن أنان الأنام في ظل عدله، وأحيى موات العدم بوافر إحسانه وفضله، ونصر الدين المحمدي وأقام مناره، وخفض كلمة الباطل وأذهب شعاره، وشمل الكُفر بعزته كل خزي ونكال، وتسلط على ذويه كل قهر وبال.
فلم يبق غُراب إلا غربت شمسه، ولا مقاتل إلا وسالت على الصوارم نفسه، ولا ذهب إلا ذهب خزائنه المعمورة، ولا حريم لهم إلا وقد هُتكت حُرمته المستورة، ولا قلعة إلا قُلعت من أصولها، ولا قافلة إلا قطعت عن قفولها.
وأطلق سيوفه الباترة، في أعناق طغاة الروافض الفاجرة، فما أبقى لهم شملًا إلا بدده، ولا جمعًا إلا أفرده ولا قوة إلا أضعفها، ولا مهجة إلا أتلفها.
وَأصبحَ الرّفضُ وَناصرُهُ ... في ذلةٍ وإمامُ الحَقِّ قاهرُهُ
وشَوكة السُّنة الغَرَّاءِ قد قّوِيَتْ ... فكلُّ قُطْرٍ بها تُزهى مَنابرُهُ
وهو السلطان الأعظم، والخاقان الأكرم؛ سيفُ الله القاطع، وشِهابه اللامع، والمُحامي عن دينه والمدافع، والذاب عن حرمه والممانع، السلطان مُراد خان، أدام الله دولته إلى آخر الزمان، ابن السلطان سليم خان، ابن السلطان سُليمان خان، ابن السلطان سليم خان ابن السلطان بايزيد خان، ابن السلطان محمد خان - فاتح قُسطَنطينية، حماها الله عن كل آفة وبلية - ابن السلطان مُراد خان، ابن السلطان محمد خان، ابن السلطان بايزيد خان، ابن السلطان مُراد خان الغازي، ابن السلطان أورخان، ابن السلطان عثمان الغازي، الذي تُنسب إليه هذه السلاطين. أدام الله أيام دولتهم، وخلد أوقات سعادتهم، ورحم أولهم، ونصر آخرهم، ولا ردَّ لهم راية عن غاية، ولا حُسامًا عن نهاية.
ولا زالت أيام هذا السلطان في سعادة وإقبال، وعظمةٍ وإجلال؛ فإنه ما زال يُقرب أهل العلم من ساحة إحسانه، ويأويهم إلى كنف جوده وامتنانه، ويقابل محسنهم بالإحسان، ومسيئهم بالغفران، وفاضلهم بالإفضال، وكبيرهم بالإكرام والإجلال.
1 / 2
فرغب في تحصيل العلوم من لم تكن له رغبة، وتأهب للاشتغال من لم يكن عنده الهبة، وصار كل منهم يظهر بالتأليف مقدوره، ويبذل في التصنيف ميسوره، ويُشرف ما ألفه وصنفه، بخدمة سُدته السنية، وأبوابه العلية، ويبلغ به من إحسانه أقصى المرام والأمنية.
فأحببت أن أدخل نفسي في عدادهم وإن لم أكن لذلك أهلًا، وأضرب معهم في الخدمة بسهمٍ وإن لم أكن ممن يعرف الضرب أصلًا.
فالكريم يغض عن الزلة، والحليم يعفو عن الذنب؛ والخيار يستر العوار، والكلام يُشرف فيمن قيل فيه.
وقد شرفت نظمي بمديحه، وقلت فيه قصيدة، أحببت أن أجعلها في هذه المقدمة مُقدمة، وفي هذه الترجمة مُفخمة.
وهي هذه:
دَانتْ لهَيْبَتِك الأيَّامُ والأُمَمُ ... وقد أطَاعَكَ فيها السَيفُ والقلمُ
وليسَ يخرُجُ عن أمرٍ أمَرْتَ به ... إلا شقيٌّ بهِ قدْ زَلتِ القدَمُ
وَأصْبحَ الجَوْرُ لا يُجارُ ولا ... يُلْفي له في جميع الأرض مُعْتَصَمُ
والعدلُ في كفِّه مَاضٍ أشَمُّ به ... من عُصْبَةِ الظلمِ والعدوان ينتقمُ
لا يظلمُ الذئبُ شاةَ البَرِّ ليس لها ... رَاعٍ سواهُ وقد أوْدَى به النَّهَمُ
هذا الذي قِيل في أمْثالِ مَن سَلفوا ... مِن كَثْرِة الأمْنِ يمشي الذئبُ والغنمُ
يُحْصَى الحَصَا قبلَ أن تُحْصَى مَآثرُه ... والغيْثُ يفْنَى ولا تفنىَ لهُ نِعَمُ
يُكاثِر الرَّملَ في الهَيْجَاء عَسْكرُهُ ... وَكلُّ مَن شئتَ منهُم وَحْدَهُ أممُ
هو المرادُ الذي رَبُّ العبَادِ قَضَى ... في عَالم الذَّرِّ أن يَحْيَى به العَدَمُ
وَأن تَعُدَ به الدنيا كما بُدِئتْ ... عِلْمًا وعَدْلًا وجُودًا دُونَه الدِّيَمُ
أما ترى العلمَ ينمُو كُلَّ آونةٍ ... والجَهْل يَزدَادُ نقصًا ليس يَنكتمُ
أمَا ترى عَلَمَ الإسْلامِ مُرْتفعًا ... والكفرُّ أصبَحَ لاَ بَنْدٌ ولا عَلَمُ
والمالُ فاضَ وفاض البَاذِلُونَ له ... وكلُّ أرْضٍ على مَن حَلَّهَا حَرَمُ
يَا آلَ عُثمانَ يا مَن لا نظيرَ لهُمْ ... بين الملُوك وهل يُرجَى نظيرُهُمُ
يا مَن بأعْتابهمْ مِن حين مَا نُصِبَتْ ... شِفاهُ كلِّ مُلُوكِ الأرْض تستلمُ
لم تصْفُ للناس أيَّامٌ ولا سَلمتْ ... من التكدُّرِ إلا في زَمَانِكمُ
فاللهُ يُبْقِي لأهْلِ الأرض دَوْلَتَكم ... فإنِّها دَوْلةٌ يحيى بهَا النَّسَمُ
واللهُ يُعْطيكُمُ مَالا يُحيطُ بِهِ ... وَصْفٌ وَلا عَن مَدَاهُ تُفْصِحُ الكَلِمُ
ولا تزال الوَرَى في ظلِّ دَوْلتكمْ ... بخَفْضِ عَيشٍ وَثغْرُ الدَّهْر يَبْتسمُ
باب
يشتمل على فوائد مهمة، تتعلق بفن التاريخ،
لا يسع المؤرخ جهلها وهو باب يشتمل على فصول:
الفصل الأول
كانت العرب تؤرخ في بني كنانة من موت كعب بن لؤي، فلما كان عام الفيل أرخت منه، وكانت المدة بينهما مائة وعشرين سنة.
قال أبو الفرج الأصبهاني، صاحب " الأغاني ": إنه لما مات الوليد بن المغيرة بن عبد الله ابن عمرو ابن مخزوم، أرخت قريش بوفاته مُدة؛ لإعظامها إياه، حتى إذا كان عام الفيل جعلوه تاريخا. هكذا ذكره ابن دأب.
وأما الزبير بن بكار فذكر أنها كانت تؤرخ بوفاة هشام بن المغيرة تسع سنين، إلى أن كانت السنة التي بنو فيها الكعبة، فأرخوا بها. انتهى.
وأرخ بنو إسماعيل ﵊ من نار إبراهيم ﵊ إلى بنائه البيت، ومن بنائه البيت إلى تفرق معد ومن تفرق مَعَدِّ إلى موت كعب بن لؤي؛ ومن عادة الناس أن يؤرخوا بالواقع المشهور، والأمر العظيم، فأرخ بعض العرب بأيام الخُنان لشُهرتها.
قال النابغة الجعدي:
فَمَنْ يَكُ سائلًا عني فإني ... مِن الفِتيْان أيامَ الخُنَان
مَضَتْ مائةٌ وُلدتُ فيه ... وعامٌ بعد ذاك وحجتان
1 / 3
وَقد أبْقَتْ صُرُوفُ الدَّهر مني ... كما أبقتْ من السَّيْفِ اليَمَاني
قال الشريف المرتضى، في كتابه " غُرر الفوائد، ودُرر القلائد ": إن أيام الخُنان أيام كانت للعرب قديمة، هاج بهم مرض في انوفهم وحلوقهم.
قلت: وهو بضم الخاء وفتح النون، وقد يشتبه بالخِتان، بكسر الخاء والتاء المثناة من فوق.
وكانت العرب تؤرخ بالنجوم، وهو أصل قولك: نَجَّمتُ على فلان كذا حتى يُؤديه في نجوم. وأول من أرخ الكتب من الهجرة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، في شهر ربيع الأول، سنة ست عشرة، وكان سبب ذلك، أن أبا موسى الأشعري ﵁، كتب إلى عمر ﵁: إنه يأتينا من قبل أمير المؤمنين كتب لا ندري على أيها نعمل، قد قرأنا صكًا منها محلة شعبان فما ندري أي الشعبانين، الماضي أو الآتي. فعل عمر رضي الله تعالى عنه على كتب التاريخ، فأراد أن يجعل أوله رمضان، فرأى أن الأشهر الحرم تقع حينئذ في سنتين، فجعله من المُحرم، وهو آخرها، فصيره أولًا لتجتمع في سنة واحدة.
وكان قد هاجر ﷺ يوم الخميس، لأيام من المحرم، فمكث مُهاجرًا بين سير ومقام مُدة شهرين وثمانية أيام.
فصل
تقول العرب: أرخت وورخت، فيقلبون الهمزة واوًا، لأن الهمزة نظير الواو في المخرج، فالهمزة من أقصى الحلق، والواو من آخر الفم، فهي تحاذيها، ولذلك قالوا في وعد: أعد، وفي وجوه: أجُوه، وفي أثؤب: أثوب، وفي أحد: وحد. فعلى ذلك يكون المصدر تاريخاوتوريخا بمعنى.
وقاعدة التاريخ عند أهل العربية أن يؤرخوا بالليالي دون الأيام؛ لأن الهلال إنما يُرى ليلًا، ثم إنهم يُؤنثون المذكر ويذكرون المؤنث، على قاعدة العدد؛ لأنك تقول: ثلاثة غلمان، وأربع جواري.
إذا عرفت ذلك، فإنك تقول في الليالي ما بين الثلاث إلى العشر: ثلاث ليالي، وأربع ليالي، إلى بابه.
وتقول في الأيام ما بين الثلاثة إلى العشرة: ثلاثة أيام، وأربعة أيام، إلى بابه.
وأما واحد واثنان، فلم يُضيفوها إلى مميز، فأما ما جاء من قول الشاعر:
كأنَّ خُصْيَيْه مِن التَّدَلدُلِ ... ظَرف عجُوزٍ فيه ثِنتا حَنظَلِ
فبابهُ الشعر، وضرورة الشعر لا تكون قاعدة، وإنما امتنعوا من ذلك؛ لأنه يكون من باب إضافة الشيء إلى نفسه؛ فإنك إذا قلت: اثنا يومين، أو واحد رجل، فاليومان هما الاثنان، والواحد هو الرجل، وإذا قلت: يومٌ ورجلان. فقد دللن على الكمية والجنس، وليس كذلك في أيام ورجال، فيما فوق الثلاثة؛ لأن ذلك يصح على القليل والكثير، فيُضاف العدد إليه لتعلم الكمية.
وأضافوا العدد من الثلاثة إلى العشرة إلى جموع القِلة، فقالوا: ثلاثة أيام، وأربعة أحمال، وخمسة أشهر، وستة أرغفة، ولا يورد هاهنا قوله تعالى: (ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ)، لأنه ميز الثلاثة بجمع الكثرة؛ لأن المعنى كل واحد من المطلقات تتربص للعدة ثلاثة أقراء، فلما كان مجموع الأقراء من المطلقات كثيرًا ميز الثلاثة، بجمع الكثرة، ولا يُضاف عدد أقل من ستة إلى مُميزين؛ ذكرٍ وأنثى؛ لأن كل واحدٍ من المميزين جمع، وأقل الجمع ثلاثة.
وقالوا في العدد المركب من بعد العشرة إلى العشرين، وهو أحد عشر وبابه: إحدى عشرة ليلة، وما بعده إلى العشرين، بإثبات التأنيث في الجُزءين من إحدى عشرة، واثنتي عشرة، وحذف التأنيث من الجزء الأول في الباقي للمؤنث. وأحد عشر يومًا، واثنا عشر يوما، وثلاثة عشر يوما، وما بعده إلى العشرين، بخلو الجزءين الأولين من التأنيث وإثباته في الجزء الأول لما بعده في المذكر، والحجازيون يسكنون الشين في عشرة، وبنو تميم يكسرونها.
وميزوا ما بعد العشرة إلى العشرين وما بعدها من العُقود إلى التسعين، بمنصوب فقالوا: أحد عشر كوكبًا وأربعين ليلة، وأتوا بواو العطف بعد العشرين، ومنعوها بعد العشرة إلى العشرين، فقالوا: أحد وعشرون، وأحد عشرة، وقالوا: مائة يوم، ومائتا يوم؛ فجعلوا المميز من المائة إلى الألف وما بعده مُضافًا، ولم يُجروه مُجرى ما بعد العشرة إلى التسعين.
وقالوا: ثلاثمائة وأربعمائة. وبابه، فميزوه بالمفرد، ولم يميزوا بالجمع، وقالوا: ألف ليلة. فأجروا ذلك في التمييز مُجرى المائة.
فائدة
1 / 4
لفظ " ألف " مُذكر، والدليل عليه قوله تعالى: (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ)، وقد تقرر أن المعدود المذكر يؤنث، والمؤنث يذكر.
ولا يورد قولهم: " هذه ألف درهم "؛ فإن الإشارة إنما هي إلى الدراهم، لا إلى الألف، وتقديره: هذه الدّراهم ألف.
فائدة أخرى
إذا أردت تعريف العدد المُضاف، أدخلت الأداة على الاسم الثاني، فتعرف به، نحو " ثلاثة الرجال "، " ومائة الدراهم " كقولك: " غُلام الرجُل ". قال ذو الرمة:
وهل يَرْجعُ التسليمَ أو يكشِف العَمَى ... ثلاثُ الأثافي والرِّسُومُ البَلاقِعُ
ولا يجوز " الخمسة دراهم "؛ لأن الإضافة للتخصيص، وتخصيص الأول باللام يُغنيه عن ذلك، فأما ما لم يُضف، فأداة التعريف في الأول نحو " الخمسة عشر درهمًا "؛ إذ لا تخصيص بغير اللام، وقد جاء شيء على خلاف ذلك.
تنبيه
الفصيح أن تقول: " عندي ثماني نسوة " و" ثماني عشرة جارية " و" وثماني مائة درهم "؛ أن الياء هُنا ياء المنقوص، وهي ثابتة في حالة الإضافة والنصب، كياء قاضي وأما قول الأعشى:
وَلقد شربتُ ثمانيًا وَثمانيًا ... وَثَمانِ عشرَةَ واثْنتَين وأربَعَا
فبابه ضرورة الشعر، كما قال الآخر:
وطرْتُ بمُنْصُلِى في يَعْمَلاتٍ ... دَوَامِى الأيدِ يَخْبِطْنَ السرِيحَا
يريد " الأيدي " على أنه قد قُرِئ: (وَلَهُ الْجَوارُ المُنْشَآتُ) . بضمِّ الرَاء.
فصل في كيفية كتابة التاريخ
تقول للعشرة وما دونها: خَلَون؛ لأن المميز جمع، والجمع مؤنث.
وقالوا لما فوق العشرة: خَلَت، ومَضت؛ لأنهم يريدون أن مميزه واحد.
وتقول من بعد العشرين: لتسع إن بقين، وثمان إن بقين، تأتي بلفظ الشك؛ لاحتمال أن يكون الشهر ناقصًا أو كاملًا.
وقد منع أبو على الفارسي: لمُستَهَل؛ لأن الاستهلال قد مضى، ونص على أن يؤرخ بأول الشهر في اليوم، أو بليلة خَلت منه.
قال: ولهم اختيار آخر، وهو أن تجعل ضمير الجمع كثير الهاء والألف، وضمير الجمع القليل الهاء والنون المشددة، كما نطق القرآن به، قال الله تعالى: (إنَّ عِدَّة الشُّهُورِ عنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا في كِتاب الله يَوْمَ خَلَقَ السَّموَاتِ والأرْضَ مِنها أربعةٌ حُرُمٌ ذلك الدّينُ القَيِّمُ فلا تَظْلِمُوا فِيهنَّ أنْفُسَكُمْ) . فجعل ضمير الأشهر الحرم بالهاء والنون لقلتهن، وضمير شهور السنة الهاء والألف لكثرتها.
وكذلك اختاروا أيضًا أن ألحقوا لصفة الجمع الكثير الهاء، فقالوا: أعطيته دراهم كثيرة، وأقمت أيامًا معدودة. وألحقوا لصفة الجمع القليل الألف والتاء فقالوا: أقمت أيامًا معدودات، وكسوته أثوابًا رفيعات.
وعلى هذا جاء في سورة البقرة: (وَقَالوا لَنْ تَمَسَّنا النَّارُ إلا أيامًا مَعْدُودَةً) . وفي سورة آل عمران (إلاَّ أيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) . كأنهم قالوا أولا بِطُول المدّة، ثن إنهم رجعوا عنه فقصروا المدة انتهى.
والواجب أن تقول في أول الشهر: لليلة خلت منه، أو لغرته، أو لمُستهله.
فإذا تحققت آخره، قلت: انسلاخُهُ، أو سَلخُه، أو آخره.
قال ابن عصفور: والأحسن أن تؤرخ بالأقل فيما مضى وما بقى، فإذا أرخت بأيهما شئت.
وقال الصلاح الصفدي، بعد نقله كلام ابن عصفور هذا، قلتُ: بل إن كان في خامس عشر، قلت: منتصف، أو في خامس عشر، وهو أكثر تحقيقًا؛ لاحتمال أن يكون الشهر ناقصًا، وإن كان في الرابع عشر، ذكرته، أو السادس عشر ذكرته.
تنبيه
قال الصلاح الصفدي: رأيت الفضلاء قد كتبوا بعض الشهور بشهر كذا، وبعضها لم يذكروا معه شهرًا، وطلبت الخاصة في ذلك فلم أجدها أتوا بشهر إلا مع شهر يكون أوله حرف راء، مثل شهري ربيع، وشهر رجب، وشهر رمضان، ولم أدْرِ العلة في ذلك ما هي؟، ولا وجه المناسبة؟ لأنه كان ينبغي أن يُحذف لفظ شهر من هذه المواضع؛ لأنه يجتمع في ذلك راآن، وهم قد فروا من ذلك وكتبوا: داود، وناوس، وطاوس، بواو واحدة؛ كراهية الجمع بين المثلين. انتهى.
1 / 5
وقال الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه " نظم العقبان، في أعيان الأعيان "، بعد نقله كلام الصفدي هذا، قلت: قد تعرض للمسألة من المتقدمين ابن درستويه، في الكتاب " المتمم "، فقال: الشهور كلها مُذكرة إلا جمادى، وليس شيء منها يُضاف إليه شهرًا إلا شهرا ربيع، وشهر رمضان، قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فيه القُرآنُ) .
وقال الراعي:
شَهْرَيْ رَبيعٍ مَا تذُق لَبُونهُم ... إلا حُمُضًا وَخْمَة ودَوِيلًا
فما كان من أسمائها أسمًا للشهر، أو صفة قامت مقام الاسم، فهو الذي لم يَجُزْ أن يضاف الشهر إليه، ولا يُذكر معه، كالمحرم، إنما معناه الشهر المحرم؛ وهو من الأشهر الحرم، وكصفر، وهو اسم معرفة كزيد، من قولهم: صفر الإناء يُصفر صفرًا، إذا خلا، وجُمادى، وهي معرفة، وليست بصفة، وهي من جمود الماء، ورجب وهو معرف، مثل صفر، وهو من قولهم: رجبت الشيء. أي عَظمته؛ لأنه أيضًا من الأشهر الحرم، وشعبان؛ وهو صفة بمنزلة عطشان، من التشعب والتفرق، وشوال، وهو صفة جَرَت مجرى الاسم، وصارت معرفة، وفيها تشول الإبل، وذي القعدة، وهي صفة قامت مقام الشهر والقعود عن التصرف، كقولك، هذا الرجل ذو الجلسة، فإذا حذفت الرجل قلت: ذو الجلسة، وذي الحِجة مثله، مأخوذ من الحج.
وأما الربيعان، ورمضان، فليست بأسماء للشهر، ولا صفات له، فلا بد من إضافة شهر إليها، كقولك شهر ربيع، وشهر رمضان، ويدُلُك على ذلك أن رمضان فعلان من الرمضاء، كقولك الغليان، وليس الغليان بالشهر ولكن الشهر شهر الغليان، وجعل رمضان اسمًا معرفة للرمضاء، فلم يُصرف لذلك، فأما رواة الحديث فيرون أن اسم من أسماء الله تعالى. وربيع إنما هو اسم للغيث، وليس الغيث بالشهر، ولكن الشهر شهر غيث، فصار ربيع اسمًا للغيث معرفة كزيد، فإذا قلت: شهر ربيع الأول والآخر، فهما صفتان لشهرٍ، وإعرابهما كإعرابه، ولا يكونان صفة لربيع، وإن كان معرفة، لأنه ليس هنا ربيعان، وإنما هو ربيع واحد، وشهرا ربيع، ولو كان كذلك لكانا نكرتين، ولكانا مُضافين إلى معرفة، وصارا به معرفة.
انتهى كلام ابن درستويه كما نقله السيوطي.
ويؤخذ منه أن رجب لا يُضاف إليه لفظ شهر. كما ذكر الصفدي، فليتأمل.
وجرت العادة بأن يقولوا في شهر المحرم: شهر الله. وفي شهر رجب: شهر رجب الفرد، أو الأصم، أو الأصب، وفي شعبان: المُكرم، وفي رمضان: رمضان المعظم. وفي شوال: شوال المبارك، ويؤرخوا أول شوال بعيد الفطر، وثامن الحجة، بيوم التروية، وتاسعه، بيوم عرفة، وعاشره بعيد النحر، وتاسع المحرم بيوم تاسوعاء، وعاشره بيوم عاشوراء. فلا يحتاجون أن يذكروا الشهر، ولكن لا بد من ذكر السنة.
فائدة
قد يجئ في بعض المواضع " نيف " و" بضع "، مثل قولهم: نيف وعشرون، وهو بتشديد الياء ومن قال: نيف. بسكونها، فذاك لحن. وهذا اللفظ مُشق من أناف على الشيء، إذا أشرف عليه، فكأنه لما زاد على العشرين كان بمثابة المُشرف عليها، ومنه قول الشاعر:
حَلَلْتُ برَابِيةٍ رَأسُهَا ... على كُلِّ رابِيَةٍ نَيَّفُ
واختلف في مقداره، فذكر أبو زيد أنه ما بين العقدين، وقال غيره: هو الواحد إلى الثلاثة.
قال الصفدي: ولعل هذا الأقرب إلى الصحيح.
1 / 6
وقولهم: بِضع عشر سنة. البضع أكثر ما يستعمل فيما بين الثلاث إلى العشر. وقيل: بل هو ما دون نصف العقد. وقد انزوى القول الأول إلى النبي ﷺ، في تفسير قوله تعالى: (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهمْ سَيَغْلِبُونَ* في بِضْعِ سِنِينَ)، وذلك أن المسلمين كانوا يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يميلون إلى أهل فارس؛ لأنهم أهل أوثان، فلما بشر الله تعالى المسلمين بأن الروم سيغلبون في بضع سنين، سُر المسلمون بذلك، ثم إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه بادر إلى مشركي قريش، فأخبرهم بما له مُدة الثلاث سنين، ثم أتى النبي ﷺ، فسأله كم البضع، فقال، ما بين الثلاث إلى العشر. فأخبره بما خاطر به أبي بن خلف. فقال: " ما حملك على تقريب المدة؟ "، فقال: الثقة بالله ورسوله ﷺ. فقال النبي ﷺ: " عُدْ إليهِمْ فَزِدْهُمْ في الخَطْرِ وَازْدَدْ في الأجَلِ ". فزادهم قلوصين، وازداد منهم في الأجل سنتين، فأظفر الله تعالى الروم بفارس قبل انقضاء الأجل الثاني، تصديقًا لتقدير أبي بكر ﵁.
وكان أُبَيٌّ قد مات من جرح رسول الله ﷺ، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أُبي، فقال النبي ﷺ: " تَصدَّق بِهِ " وكانت المُخاطرة بينهما قبل تحريم القِمار.
وقيل: الذي خاطر أبا بكر ﵁ إنما هو أبو سفيان، والأول أصح.
كذا في " الوافي بالوفيات " للصلاح الصفدي، رحمه الله تعالى.
باب
في بيان العلم، والكُنية، واللقب، وكيفية ترتيب
ذلك مع النسبة على اختلافها المتنوع
اعلم أن الدال على مُعين مطلقا إما أن ييكون مُصدرًا باب أو أم كأبي بكر، وأم كلثوم، وأم سلمة، وإما أن يشعر برفعة المسمى، كمُلاعب الأسنة، وعروة الصعاليك، وزيد الخيل، والرشيد، والمأمون، والواثق، والمكتفي، والظاهر، والنصر، وسيف الدولة، وعضد الدولة، وجمال الدين، وعز الدين، وإمام الحرمين، وصدر الشريعة، وتاج الشريعة، وفخر الإسلام، وملك النحاة، وإما أن يشعر بضعة المسمى كجُحى، وشيطان الطاق، وأبي العبر، وجحظة، وقد لا يشعر بواحد منهما، بل أجرى عليه ذلك بواقعة جرت، مثل: غسيل الملائكة، وحمى الدَّبر، ومُطين، وصالح جزرة، والمُبرد، وثابت قُطنة، وذي الرمة، والصعق، وصردر، وحيص بيص.
فهذه الأقسام الثلاثة تسمى الألقاب.
وإلا فهو الاسم الخاص، كزيد وعمرو، وهذا هو العلم، وقد يكون مفردًا كما تقدم، وقد يكون مركبًا، إما من فعل وفاعل كتأبط شرًا، وبرق نحره، وإما من مُضاف ومضاف إليه كعبد الله، أو من اسمين قد رُكبا وجُعلا بمنزلة اسم واحد كسيبويه، والمفرد قد يكون مُرتجلًا، وهو الذي ما استعمل في غير العلمية، كمذحج وأدد، وقد يكون منقولًا، إما من مصدرٍ؛ كسعد، وفضل، أو من اسم فاعل؛ كعامر، وصالح، أو من اسم مفعول؛ كمحمد، ومسعود، أو من أفعل تفضيل؛ كأحمد، وأسعد، أو من صفة؛ كثقيف وهو الدرب بالأمور الظافر بالمطلوب، وسلول، وهو الكثير السل، وقد يكون منقولًا من اسم عين؛ كأسد، وصقر، وقد يكون منقولًا من فعل ماض؛ كأبان وشمَّر، أو من فعل مضارع؛ كيزيد، ويشكر.
وإذ قد عرفت العلم، والكنية، واللقب، فسردها يكون على الترتيب: تُقدم اللقب على الكنية، والكنية على العلم، ثم النسبة إلى البلد، ثم الأصل، ثم إلى المذهب في الفروع، ثم إلى المذهب في الاعتقاد، ثم إلى العلم، أو الصناعة، أو الخلافة، أو السلطنة، أو الوزارة، أو القضاء، أو الإمرة، أو المشيخة، أو الحج، أو الحرفة، كلها مقدم على الجميع.
فتقول في الخلافة: أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبو العباس أحمد السامري، إن كان بسر من رأى، البغدادي، فرقًا بينه وبين الناصر الأموي صاحب الأندلس، الحنفي الأشعري، إن كان يتمذهب في الفروع بفقه أبي حنيفة، ويميل في الاعتقاد إلى أبي الحسن الأشعري، ثم تقول: القُرشي، الهاشمي، العباسي.
وتقول في السلطنة: السلطان الملك الظاهر ركن الدين أبو الفتح بيبرس الصالحي - نسبة إلى أستاذه الملك الصالح - التُركي الحنفي البندقدار، أو السلاح دار.
وتقول في الوزراء: الوزير فلان الدين أبو كذا، وتسرد الجميع كما تقدم، ثم تقول: وزير فلان.
1 / 7
وتقول في القضاة كذلك: القاضي فلان الدين، وتسرد الباقي، كما تقدم.
وتقول في الأمراء كذلك: الأمير فلان الدين، وتسرد الباقي، إلى أن تجعل الآخر وظيفته التي كان يُعرف بها قبل الإمرة، مثل الجاشكير، أو الساقي، أو غيرهما.
وتقول في أشياخ العلم: العلامة، أو الحافظ، أو المسند، فيمن عُمِّر وأكثر الرواية، أو الإمام، أو الفقيه، وتسرد الباقي إلى أن تختم الجميع بالأصُولي، أو النحوي، أو المنطقي.
وتقول في أصحاب الحرف: فلان الدين، وتسرد الجميع إلى أن تقول الحرفة إما البزاز، أو العطار، أو الخياط.
فإن كان النسب إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قلت: القُرشي، التيمي، البَكري؛ لأن القرشي أعم من أن يكون تيميًا، والتيمي أعم من أن يكون من ولد أبي بكر ﵁.
وإن كان النسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قلت: القرشي، العدوي، العُمري.
وإن كان النسب إلى عثمان رضي الله تعالى عنه، قلت: القرشي، الأموي، العُثماني.
وإن كان النسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قلت: القُرشي، الهاشمي، العلوي.
وإن كان النسب إلى طلحة رضي الله تعالى عنه، قلت: القرشي، التيمي، الطلحي.
وإن كان النسب إلى الزبير رضي الله تعالى عنه، قلت: القرشي، الأسدي، الزبيري.
وإن كان النسب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، قلت القرشي، الزهري، السعدي.
وإن كان النسب إلى سعيد رضي الله تعالى عنه، قلت: القرشي، العدوي، السعيدي، إلا أنه ما نُسب إليه فيما عُلم.
وإن كان النسب إلى عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قلت، القرشي، الزهري، العوفي، من ولد عبد الرحمن بن عوف.
وإن كان النسب إلى أبي عبيدة بن الجراح، قلت: القرشي، من ولد أبي عبيدة، على أنه ما أعقب.
هذا الذي ذكرته هنا هو القاعدة المعروفة، والجادة المسلوكة المألوفة، عند أهل العلم.
وإن جاء في الكتاب في بعض التراجم ما يُخالف ذلك من تقديم وتأخير، فإنما هو سبق من القلم، وذهول من الفكر، وما خالف الأصل يُرد إليه، ولا يعترض بعد وضوح الاعتذار عليه. والله أعلم.
تنبيه
كلما رفعت في أسماء الآباء والنسب وزدت انتفعت بذلك، وحصل لك الفرق. فقد حكى أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني، قال: حججت في سنةٍ، وكنت بمنى أيام التشريق، فسمعت مُناديًا يُنادي: يا أبا الفرج. فقلت: لعله يريدني، ثم قلت: في الناس كثير ممن يُكنى أبا الفرج، فلم أجبه، فنادى: يا أبا الفرج المُعافى. فهممت بإجابته، ثم قلت: قد يكون من اسمه المعافى وكنيته أبو الفرج. فلم أجبه. فنادى يا أبا الفرج المُعافى بن زكريا النهرواني. فقلت: لم يبق شك في مناداته إياي؛ إذ ذكر كنيتي، وأسمي، وأسم أبي، وبلدي، فقلت: ها أنا ذا، فما تريد؟ فقال: لعلك من نهروان الشرق؟ فقلت: نعم.
فقال: نحن نريد نهروان الغرب.
فعجبت من اتفاق ذلك. انتهى.
وكذلك الحسن بن عبد الله العسكري أبو هلال، صاحب كتاب " الأوائل "؛ والحسن بن عبد الله العسكري أبو أحمد اللغوي صاحب كتاب " التصحيف " كلاهما الحسن بن عبد الله العَسكري، الأول موجودًا في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، والثاني توفي سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، فاتفقا في الاسم، واسم الأب، والنسبة، والعلم، وتقاربا في الزمان، ولم يُفرق بينهما إلا بالكنية؛ لأن الأول أبو هلال؛ والثاني أبو أحمد، والأول ابن عبد الله بن سهل ابن سعيد والثاني ابن عبد الله بن سعيد بن إسماعيل؛ ولهذا كثير من أهل العلم بالتاريخ لا يفرقون بينهما، ويظنون أنهما واحد.
ومثل هذا كثير جدًا. وفي هذا القدر كفاية. والله تعالى أعلم.
فصل
في معرفة أصل الوفاة من حيث اللغة
وفي ذكر فائدتها في التواريخ
1 / 8
فنقول: أصلها وَفَيَة، بتحريك الواو والفاء والياء، على وزن بقرة، ولما كانت الياء حرف علة سكنوها فصارت وَفَيْة، فلما سُكنت الياء وانفتح ما قبلها قُلبت ألفا، فقالوا: وَفَاة، ولهذا لما جمعوه رجعوا إلى أصله، فقالوا: وَفَيات، بفتح الواو والفاء والياء، كما قالوا شجرة وشجرات. وقالوا في الفعل منه: تُوفِّي زيد، بضم التاء والواو وكسر الفاء وفتح الياء، فبنوه على مال يُسم فاعله؛ لأن الإنسان لا يتوفى نفسه، فعلى هذا المتوفى، بكسر الفاء هو الله، أو أحد الملائكة بأمره تعالى، وزيد المتوفى، بفتح الفاء.
وقد حُكي أن بعضهم حضر جنازة فسأل بعض الفضلاء، وقال من المتوفِّي؟ بكسر الفاء. فقال: الله تعالى. فأنكر ذلك. إلى أن بين لع الغلط، فقال: قُل المُتوفَّى بفتح الفاء. ذكر ذلك الصفدي في مقدمة تاريخه " الوَافي بالوفيات ".
وذكر فيه أيضًا فوائد للتاريخ، وقال: منها واقعة رئيس الرؤساء مع اليهودي الذي أظهر كتابًا فيه أن رسول الله ﷺ أمر بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، منهم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فحمل الكتاب إلى رئيس الرؤساء، ووقع الناس منه في حيرة، فعرضه على الحافظ أبي بكر، خطيب بغداد، فتأمله، وقال: إن هذا مزور. فقيل له: من أين لك ذلك؟. فقال: فيه شهادة معاوية رضي الله تعالى عنه، وهو أسلم عام الفتح، وفتوح خيبر سنة سبع، وفيه سعد ابن معاذ رضي الله تعالى عنه، ومات سعد يوم بني قريظة قبل خيبر بسنتين. ففرج ذلك على المسلمين غمًا.
قال الصلاح الصفدي: وروي عن إسماعيل بن عياش، أنه قال: كنت بالعراق، فأتاني أهل الحديث، فقالوا ها هنا رجل يحدث عن خالد بن معدان، فأتيته، فقلت: أي سنة كتبت عن خالد بن معدان؟.
فقال: سنة ثلاثة عشرة، يعني: ومائة.
فقلت: أنت تزعم أنك سمعت منه بعد موته بسبع سنين، لأن خالدًا مات سنة ست ومائة.
وروي عن الحاكم أبي عبد الله، أنه قال: لما قدم أبو جعفر محمد بن حاتم الكشي - بالشين والسين معًا - وحدث عن عبد الله بن حميد، سألته عن مولده، فذكر أنه ولد سنة ستين ومائتين. فقلت لأصحابنا: هذا سمع من عبد بن حميد بعد موته بثلاث عشرة سنة.
وفوائد تاريخ الوفاة لا تنحصر، وهذا القدر كافٍ منها، والله أعلم.
باب
في تعريف التاريخ
بيان معناه وفضيلته، في أدب المؤرخ أقول وبالله التوفيق: قد كثرت الأقوال في تعريف التاريخ، وبيان فضيلته، وأحسن ما وقفت عليه من ذلك، ما نقله صاحب كتاب " غرر المحاضرة، ودُرر المكاثرة "، وهو الشيخ الإمام المؤرخ تاج الدين علي بن أنجب المعروف بابن الخازن، فإنه قال في كتابه المذكور: قال العلماء: التاريخ مَعادٌ معنوي؛ لأنه يعيد الأعصار وقد سلفت، وينشر أهلها وقد ذهبت آثارهم وعفت، وبه يستفيد عقول التجارب من كان غرًا، ويلقى آدم ومن بعده من الأمم وهلم جرا، فهم لديه أحياء وقد تظمنهم بطون القبور، وغياب وهم عنده في عداد الحضور، ولولا التاريخ لجُهلت الأنساب، ونسيت الأحساب، ولم يعلم الإنسان أن أصله من تُراب، وكذلك لولاه لماتت الدول بموت زعمائها، وعمي على الأواخر حال قُدمائها.
ولمكان العناية به لم يخل منه كتاب من كتب الله المُنزلة، فمنهم ما أتى بأخباره المُجملة، ومنا ما أتى بأخباره المفصلة. وقد ورد في التوراة سفر من أسفارها، يتضمن أحوال الأمم السالفة ومُدد أعمارها.
وكانت العرب على جهلها بالقلم وخطه، والكتاب وضبطه، تصرف إلى التواريخ جُل دواعيها، وتجعل لها أوفر حظ من مساعيها، وتستغني بحفظ قلوبها عن حفظ مَكتوبها، وتعتاض برقم صدورها، عن رقم مسطورها، كل ذلك عناية بأخبار أوائلها، وأيام فضائلها، فهل للإنسان إلا ما أسسه وبناه، وهل البقاء لصورة لحمه ودمه لولا بقاء معناه. انتهى.
وأما أدب المؤرخ، فقد ذكر أبن السُبكي في " طبقاته الكبرى " له قاعدة حسنة، فقال: قاعدة في المؤرخين نافعة جدًا، فإن أهل التاريخ ربما وضعوا من أناس، أو رفعوا أتاسًا، إما لتعصب، أو لجهل، أو لمجرد اعتماد على نقل من لا يوثق به، أو غير ذلك من الأسباب، والجهل في المؤرخين أكثر منه في أه الجرح والتعديل، وكذلك التعصب، قل أن رأيت تاريخًا خاليًا من ذلك.
1 / 9
وأما تاريخ " شيخنا الذهبي " غفر الله له، فإته على حسنه وجمعه، مشحون بالتعصب المُفرط، لا واخذه الله، فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين، أعني الفقراء، الذين هم صفوة الخلق، واستطال بلسانه على كثير من أئمة الشافعيين والحنفيين، ومال فأفرط على الأشاعرة، ومدح فزاد في المُجسمة. هذا وهو الحافظ المِدره، والإمام المبجل، فما ظنك بعوام المؤرخين.
فالرأي عندنا لا يقبل مدح ولا ذم من المؤرخين، إلا بما اشترطه إمام الأئمة، وحبر الأمة، وهو الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى، حيث قال، ونقلته من خطه في مجاميعه: يُشترط في المؤرخ الصدق، وإذا نقل يعتمد اللفظ دون المعنى، وأن لا يكون ذلك الذي نقله أخذه في المذاكرة، وكتبه بعد ذلك، وأن يسمي المنقول عنه؛ فهذه شروط أربعة فيما ينقله.
ويُشترط فيه أيضًا لما يُترجمه من عند نفسه، ولما عساه يطول في التراجم من المنقول ويقصر، أن يكون عارفًا بحال صاحب الترجمة، علمًا، ودينًا، وغيرهما من الصفات، وهذا عزيز جدًا، وأن يكون حسن العبارة، عارفًا بمدلولات الألفاظ، وأن يكون حسن التصور، حتى يتصور حال ترجمته جميع حال ذلك الشخص، ويعبر عنه بعبارة لا تزيد عليه ولا تنقص عنه، وأن لا يغلبه الهوى، فيخيل إليه هواه الإطناب في مدح من يحبه، والتقصير في غيره، بل يكون مجردًا عن الهوى، وهو عزيز جدًا وإما أن يكون عنده من العدل ما يقهر به هواه، ويسلك طريق الإنصاف. فهذه أربعة شروط أخرى، ولك أن تجعلها خمسة؛ لأن حسن تصوره وعلمه، قد لا يحصل معهما الاستحضار حين التصنيف، فتجعل حضور التصور زائدًا على حسن التصور، والعلم. فهذه تسعة شروط في المؤرخ. وأصعبها الاطلاع على حال الشخص في اعلم؛ فإنه يحتاج إلى المشاركة في علمه، والقرب منه حتى يعرف مرتبته. انتهى.
ثم ذكر أن كتابته لهذه الشروط بعد أن وقف على كلام ابن معين في الشافعي، وقول أحمد ابن حنبل: إنه لا يعرف الشافعي، ولا يعرف ما يقول.
قلت: وما أحسن قوله " ولما عساه يطول في التراجم من المنقول، ويقصر " فإنه أشار به إلى فائدة جليلة، يغفل عنها كثيرون؛ ويحترز منها الموفقون، وهي تطويل التراجم وتقصيرها؛ فرب محتاط لنفسه لا يذكر إلا ما وجده منقولًا، ثم يأتي إلى من يُبغضه فينقل جميع ما ذكر من مذامه، ويحذف كثيرًا مما نقل من ممادحه، ويجئ إلى من يُحبه فيعكس الحال فيه، يظن المسكين أنه لم يأت بذنبٍ؛ لأنه ليس يجب عليه تطويل ترجمة أحدٍ ولا استيفاء. ما ذكر من ممادحه، وما يظن المغتر أن تقصيره لترجمته بهذه النية استزراء به، وخيانة لله، ولرسوله ﷺ، وللمؤمنين، في تأدية ما قيل في حقه؛ من مدح وذم، فهو كمن يُذكر بين يديه بعض الناس فيقول: دعونا منه، أو: إنه عجيب، أو: الله يصلحه. فيظن أنه لم يعتبهُ بشئٍ من ذلك، وما يظن أن ذلك من أقبح الغيبة.
ولقد وقفت في " تاريخ الذهبي " على ترجمة الشيخ الموفق ابن قدامة الحنبلي، والشيخ فخر الدين ابن عساكر، وقد أطال تلك، وقصر هذه، وأتى بما لا يشك الثبت أنه لم يحمله على ذلك إلا أن هذا أشعري، وذلك حنبلي، وسيقفون بين يدي رب العالمين.
وكذلك ما أحسن قول الشيخ الإمام: " وأن لا يغلبه الهوى "؛ فإن الهوى غلاب إلا من عصمه الله تعالى.
وقوله: " فإما أن يتجرد عن الهوى، أو يكون عنده العدل ما يقهر به هواه " عندنا فيه زيادة، فنقول: قد لا يتجرد من الهوى، ولكنه لا يظنه هوى، بل يظنه لجهله، أو لبدعته حقًا؛ ولذلك لا يتطلب ما يقهر به هواه؛ لأن المستقر في ذهنه أن محق، وهذا كما يفعل كثير من المتخالفين في العقائد بعضهم في بعض، فلا ينبغي أن يقبل قول مُخالف في العقيدة على الإطلاق، إلا أن يكون ثقة، وقد روى شيئًا مضبوطًا عاينه أو حققه.
وقولنا: " مضبوطًا " احترزنا به عن رواية مالا ينضبط، من الترهات التي لا يترتب عليها عند التأمل والتحقق شيء.
وقولنا: " عاينه أو حققه " ليخرج ما يرويه عن من غلا أو رخص ترويجًا لعقيدته.
1 / 10
وما احسن اشتراطه العلم، ومعرفة مدلولات الألفاظ، فلقد وقع كثيرون بجهلهم في جرح جماعة بالفلسفة، ظنًا منهم أن علم الكلام فلسفة، إلى أمثال ذلك مما يطول عَدُهُ. فقد قيل في أحمد بن صالح، الذي نحن في ترجمته: إنه يتفلسف. والذي قال هذا لا يعرف الفلسفة. وكذلك قيل في أبي حاتم الرازي، وإنما كان رجلًا مُتكلمًا. وقريب من هذا قول الذهبي في المُزني: إنه يعرف مضايق المعقول. ولم يكن الذهبي ولا المزني يدريان شيئًا من المعقول.
والذي أفتى به، أنه لا يجوز الاعتماد على كلام شيخنا الذهبي في ذم أشعري، ولا شكر حنبلي. والله المستعان.
انتهى كلام ابن السبكي بحروفه.
قلت: أكثر هذه الشروط مفقودة في أكثر المؤرخين، في غالب التواريخ، خصوصًا تواريخ المتأخرين، وقلما تراها مجتمعة، حتى إن ابن السبكي نفسه يخالفهم في كثير من المواضع، ومن تأمل " طبقاته " حق التأمل، ووقف على كلامه في حق بعض المعاصرين له، ظهر له صحة ما ذكرنا، ونحن نسأل الله تعالى أن يوفقنا للعمل بجميعها، وأن يعيننا عليه، ويسامحنا بما طغى به القلم، وحصل فيه الذهول، وكل عنه الفكر، وقصر في التعبير عنه اللسام، بمنه وكرمه.
فصل
في كيفية ضبط حروف المعجم
قالوا: الياء الموحدة، وبعضهم يقول: الباء ثاني الحروف، والتاء المثناة من فوق، لئلا يحصل الشبه بالياء، لأنها مثناة، ولكنها من تحت، وبعضهم قال: ثالثة الحروف، والتاء المثلثة، والجيم، والحاء المهملة، والخاء المعجمة، والذال المهملة، والذال المعجمة، والراء والزاي. وبعضهم يقول: الراء المهملة، والزاي المعجمة، والسين المهملة، والشين المعجمة، والصاد المهملة، والضاد المعجمة، والطاء المهملة، والظاء المعجمة والعين المهملة، والغين المعجمة، والفاء، والقاف، والكاف، واللام، والهاء، والواو، والياء المثناة، وبعضهم يقول: آخر الحروف.
هكذا يقولون إذا أرادوا ضبط كلمة؛ فإن أرادوا زيادة قالوا: على وزن كذا. فيذكرون كلمة توازنها، وهي أشهر منها، كما إذا قيدوا فلوا، وهو المهر، قالوا فيه: بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، على وزن عَدو، فحينئذ يكون الحال قد اتضح، والإشكال قد زال.
فائدة مهمة
يُعرف منها فضيلة بيان طبقات الفقهاء، ومراتبهم والاحتياجات إلى ذلك.
رأيتها في آخر " رسالة " ألفها الإمام العلامة أحمد بن سليمان الشهير بابن كمال باشا. تتعلق الرسالة بالكلام على مسألة دخول ولدِ البنت في الموقوف على أولاد الأولاد.
قال رحمه الله تعالى: " لا بد للمفتي المقلد أن يَعلم حال من يُفتى بقوله، ولا نعني بذلك معرفته باسمه ونسبه إلى بلد من البلاد، إذ لا يُسمن ذلك من جوع ولا يغني، بل نعني معرفته في الرواية، ودرجته في الدراية، وطبقته من طبقات الفقهاء، ليكون على بصيرة وافية في التمييز بين القائلين المتخالفين، وقدرة كافية في الترجيح بين القولين المتعارضين.
فنقول وبالله التوفيق: أعلم أن الفقهاء على سبع طبقات: الأولى، طبقة المجتهدين في الشرع، كالأئمة الأربعة، ﵃، ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول، واستنباط أحكام الفروع عن الأدلة الأربعة؛ الكتاب والسنة والإجماع والقياس، على حسب تلك القواعد، من غير تقليد لأحدٍ لا في الفروع، ولا في الأصول.
والثانية: طبقة المجتهدين في المذهب، كأبي يوسف ومحمد، وسائر أصحاب أبي حنيفة، القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلة المذكورة على مقتضى القواعد التي قررها أستاذهم أبو حنيفة، وإن خالفوه في بعض الأحكام الفروع، لكن يُقلدونه في قواعد الأصول، وبه يمتازون عن المُعارضين في المذهب، ويُفارقونهم، كالشافعي ونظرائه، المخالفين لأبي حنيفة في الأحكام، غير مقلدين له في الأصول.
والثالثة: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن أصحاب المذهب، كالخصاف، وأبي جعفر الطحاوي، وأبي الحسن الكرخي، وشمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة السرخسي، وفخر الإسلام البزدوي، وفخر الدين قاضي خان، وأمثالهم؛ فإنهم لا يقدرون على المخالفة لشيخ، لا في الأصول، ولا في الفروع، ولكنهم يستنبطون الأحكام في المسائل التي لا نص عنه فيها حسب أصول قررها، ومقتضى قواعد بسيطة.
1 / 11
والرابعة: طبقة أصحاب التخريج من المقلدين، كالرازي، وأضرابه، فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلًا، لكنهم لإحاطتهم بالأصول، وضبطهم للمأخذ، يقدرون على تفصيل قول مُجمل في وجهين، وحكم مهم مُحتمل لأمرين، منقول عن صاحب المذهب، أو عن واحد من أصحابه المجتهدين، برأيهم ونظرهم في الأصول، والمُقايسة على أمثاله ونظرائه من الفروع، وما وقع في بعض المواضع من " الهداية " من قوله: " كذا في تخرج الكرخي وتخريج الرازي "، من هذا القبيل.
والخامسة: طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين، كأبي الحسين القدوري، وصاحب " الهداية "، وأمثالهما، وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض آخر، بقولهم: هذا أوْلى، وهذا أصح رواية، وهذا أرفق للناس.
والسادسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوى، والقوي، والضعيف، وظاهر المذهب، وظاهر الرواية، والرواية النادرة، كأصحاب العقول المعتبرة من المتأخرين، مثل صاحب " الكنز "، وصاحب " المختار "، وصاحب " الوقاية "، وصاحب " المجمع "، وشأنهم أن لا ينقلوا في كتبهم الأقوال المردودة، والروايات الضعيفة.
والسابعة: طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذُكر، ولا يفرقون بين الغث والسمين، ولا يميزون الشمال عن اليمين، بل يجمعون ما يجدون، كحاطب الليل، فالويل لهم ولمن قلدهم كل الويل ".
انتهى ما قاله ابن كمال باشا بحروفه، وهو تقسيم حين جدًا.
فائدة مهمة
يتعين إيرادها، ولا يستغنى عنها، نقلتها من خط المولى العلامة علي جلبي بن أمر الله الشهير بقنالي زاده، رحمه الله تعالى.
اعلم، وفقك الله تعالى، أن مسائل أصحابنا الحنفية، رحمهم الله تعالى، على ثلاث طبقات: الأولى: مسائل الأصول، وتُسمى ظاهر الرواية أيضًا، وهي مسائل رُويت عن أصحاب المذاهب، وهم أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد رحمهم الله تعالى، لكن الغالب الشائع في ظاهر الرواية، أن يكون قول الثلاثة، أو قول بعضهم.
ثم هذه المسائل التي تُسمى بظاهر الرواية والأصول، هي ما وجد في كتب محمد التي هي: " المبسوط "؛ " والزيادات "، " والجامع الصغير "، " والجامع الكبير "، " والسِّيَر ".
وإنما سميت بظاهر الرواية، لأنها رويت عن محمد بروايات الثقات، فهي ثابةٌ عنه؛ إما متواترة، أو مشهورة.
الثانية: مسائل النوادر، وهي مسائل مروية عن أصحاب المذاهب المذكورين، لكن لا في الكتب المذكورة؛ إما في كتب أخر لمحمد وغيرها، ك " الكَيْسانيَّات "، و" الهارونيات "، و" الجرجانيات "، و" الرقيات ".
و'نما قيل لها غير ظاهرة الرواية؛ لأنها لم ترد عن محمد بروايات ظاهرة ثابتة صحيحة كالكتب الأولى، وإما في كتب غير كتب محمد ككتاب " المجرد " للحسن بن زياد، وغيره.
ومنها كتب " الأمالي " المروية عن أبي يوسف، والإملاء أن يقعد العالم وحوله تلامذته بالمحابر والقراطيس، فيقول بما فتحه الله عليه من ظهر قلبه، وتكتبه التلامذة، ثم يجمعون ما يكتبونه في المجالس، ويصير كتابًا فيسمونه الإملاء والأمالي.
وكان ذلك عادة العُلماء السلف من الفقهاء، والمحدثين، وأصحاب العربية، فاندرست لذهاب العلم وأهله، وإلى الله تعالى المصير.
وإما بروايات مُفردة، مثل رواية أبن سماعة، ومعلى بن منصور، وغيرها، في مسائل مُعينة.
والثالثة: الفتاوي، وتسمى الواقعات أيضًا، وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئل منهم، ولم يجدوا فيها رواية عن أصحاب المذهب، وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد، وأصحاب أصحابهما، وهلم جرا، وهم كثيرون، موضع ضبطهم كتاب " الطبقات " لأصحابنا.
وغالب من يُنقل عنهم المسائل أصحاب أبي يوسف ومحمد، كمحمد بن سلمة، ونصير ابن يحيى، وأبي القاسم الصفار.
ومن أصحاب أبي يوسف، مثل عصام بن يوسف، وأبن رستم.
ومن أصحاب محمد، مثل أبي حفص البخاري، وكثيرين.
وقد يتفق لهؤلاء العلماء أن يخالفوا أصحاب المذاهب، لدلائل وأسباب ظهرت لهم بعدهم.
وأول كتاب جُمع في فتاويهم كتاب " النوازل " للفقيه أبي الليث السمرقندي، وكذلك " العُيون " له؛ فإنه جمع صور فتاوي جماعة من المشايخ، ممن أدركهم بقوله: سئل أبو القاسم في رجل كذا أو كذا، فقال: كذا وكذا. سئل محمد بن سلمة عن رجل كذا وكذا، فقال: كذا أو كذا. وهكذا.
1 / 12
ثم جمع المشايخ بعده كتبًا أخر في الفتاوى ك " مجموع النوازل والواقعات " للناطفي، و" الواقعات " للصدر الشهيد، رحمه الله تعالى.
ثم جمع المتأخرون هذه المسائل في فتاواهم وكتبهم مختلطة، غير متميزة، كما في " جامع قاضي خان "، " الخلاصة "، وغيرهما.
وميز بعضهم كما في كتاب " المحيط " لرضي الدين السرخسي؛ فإنه ذكر أولًا مسائل الأصول، ثم النوادر، ثم الفتاوى، ونعم ما فعل.
واعلم أن من كتب الأصول، كتاب " الكافي " للحاكم الشهيد، وهو كتاب معتمد في نقل المذهب.
وشرحه جماعة من المشايخ منهم: الإمام شمس الأئمة السرخسي وهو " مبسوط " السرخسي، والإمام القاضي الأسبيجابي، وغيرهما.
ومن كتب المذهب " المنتقى " له أيضًا، إلا أن فيه بعض النوادر؛ ولهذا يذكره صاحب " المحيط " بعد ذكره النوادر معنونًا بالمنتقى، ولا يوجد " المنتقى " في هذه الأعصار.
واعلم أيضًا أن نسخ " المبسوط " المروى عن محمد متعددة، وأظهرها مبسوط أبي سليمان الجُوزجاني.
وشرح " المبسوط " المتأخرون، مثل شيخ الإسلام أبي بكر المعروف بخواهر زاده، ويسمى " المبسوط البكري " والصدر الشهيد وغيرهما، ومبسوطهم شروح في الحقيقة، ذكرها مختلطة بمبسوط محمد، كما فعل شُرَّاح " الجامع الصغير "، مثل فخر الإسلام، وشيخ الإسلام، وقاضي خان، وغيرهم.
وقد يقال: ذكره قاضي خان، في " الجامع الصغير "، مثل فخر الإسلام، وشيخ الإسلام، وقاضي خان، وغيرهم.
وقد يقال: ذكره قاضي خان، في " الجامع الصغير "، والمراد شرحه، وكذا غيره، فاعلم ذلك، والله أعلم.
فصل
يتضمن بيان ماصطلحت عليه في هذا الكتاب،
من ترتيب وتقديم وتأخير، وغير ذلك؛ ليَسْهُل كَشْفُه، ولا تتعَسَّر مُراجعته فأقول وبالله التوفيق: قد رتب هذا التأليف على حروف المعجم كترتيب أكثر المؤرخين.
فأبتدى أولًا من الأسماء بما أوله همزة وثانيه همزة، ثم بما أوله همزة وثانيه ألف ساكنة، ثم بما أوله همزة وثانيه باء موحدة، ثم بما ثانيه تاء مُثناة من فوق، ثم بما ثانية ثاء مُثلثة، وهكذا إلى آخر الحروف.
ثم بما أوله باء موحدة وثانيه همزة أو ألف ساكنة، ثم بما ثانيه باء أيضًا، ثم بما ثانيه تاء مُثناة، وهكذا إلى آخر الحروف.
ثم أذكر في أواخر الكتاب أصحاب الكُنى جميعًا في حروف الهمزة، أقدم من لم يعرف له أسمٌ سوى الكنية، ثم من له اسم واشتهر بكنيته وله ترجمة في حرف من الحروف، أذكره باختصار، ولا أعيد له ترجمة، وأذكر اسمه واسم أبيه ليسهل كشفه في محله.
وأذكر جميع هذه الكُنى مُرتبة ترتيب الأسماء وبالنظر إلى ما بعد ذكر الأب، كأبي إبراهيم، أذكره مُقدمًا على أبي أحمد، وأبي داود مُقدمًا على أبي ذر، وهكذا إلى آخر الحروف.
وأذكر في آخر الكتاب بابًا للألقاب، وبابًا فيمن اشتهر بابن فلان، وبابًا في الأنساب.
أقدم في كل من البابين الأولين من اشتهر بلقبه، واشتهر بأبيه ولم يعرف له اسم، ثم من له اسم منهما اذكره باختصار، كما فعلته في الكنى.
وأما الأنساب فأقدم فيها من لا يعرف إلا بالنسبة ولم يذكر له في الكتاب ترجمة، وأما من ذكر له في الكتاب ترجمة، فقد أذكره في نسبته، وقد لا أذكره، لأن ذكر جميع من انتسب في الكتاب إلى الموصل أو الشام أو حماة مثلًا في تلك النسبة، مما يطول شرحه، ويُمل ذكره، بلا كبير فائدة.
هذا ولما كان رسول الله ﷺ هو الذي أظهر هذا الدين القويم، وأنار هذا السراط المستقيم، وكان كل فضل منسوبًا إلى فضله، وكل علم مستفادًا من علمه، ولولاه ما كان عالم يذكر، ولا فاضل علمه يُنشر، وكانت سائر الأفاضل، والعلماء الأماثل، والأولياء المخلصين، والصلحاء السابقين، يغترفون من ذلك البحر، ويستنيرون بذلك البد.
وكانوا كما قال صاحب البردة، رحمه الله تعالى:
وكُلُهُمْ مِن رَسُولِ اللهِ مُلتمِسٌ ... غَرْفًا من البَحْر أو رَشْفًا من الَّيَمِ
تعين أن نبدأ بذكر شيء يسير من سيرته الشريفة، وأوصافه المُنيفة، لتكون لهذا الكتاب مشرفة، وعلى غيره من الطبقات التي خلت عنها مُفضلة، ويكون لهم في الذكر إمامًا، كما كان لهم في الدين هاديًا وهُمامًا.
1 / 13
ثم نتلوه بذكر ترجمة الإمام الأعظم، والحبر البحر المُكرم، أحد أفراد الزمان، وإنسان عين الأعيان، الذي سارت بفضله الركبان، وعمت فواضله سائر البلدان، واعترف بمعروفه الشامل كل قاص ودان، وأجمعت الأمة، أنه قدوة الأئمة، وهو أبو حنيفة النعمان، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه، وفي ذلك المحل المقدس جمعنا وإياه.
فإنه صاحب المذهب الذي به يأخذون، وعليه يعتمدون، وله يقلدون، ومن بحر علمه يغترفون، تغمده الله برحمته ورضوانه، وأباحه بحبوحة جنانه، ونفعنا ببركات عُلومه في الدنيا والآخرة، أنه جواد كريم، رؤوف رحيم.
واعْلم أيها الواقف على كتابي هذا أني ربما أكثرت في بعض التراجم، من إيراد نفائس الأشعار، ومحاسن الأخبار، ولطائف النوادر، ونوادر اللطائف، وربما ذكرت في الأنساب شيئًا من أوصاف البُلدان، وخصائصها، وما قيل فيها من الأشعار، وورد في حقها من الأخبار والآثار، ومقصودي بذلك أن يكون مُطالعه متنزهًا في رياض من الآداب، لا يذوى زهرها، ولا يمنع ثمرها، حتى لا يمل مطالعه، ولا يصادف الضجر سامعه. وهذا أوان الشروع في المقصود، بعون الملك المعبود، فنقول وبالله التوفيق، ومنه التيسير.
سيرته
ﷺ مُحمَّدٌ رسول الله ﷺ، وحبيبه وصفيه وخيرته من خلقه، وأفضل الأولين والآخرين، أبو القاسم بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، الذي قيل فيه:
وكم أبٍ قد عَلا بابنٍ ذُرَى شرَفٍ ... كما عَلاَ برَسولِ الله عَدْنانُ
هذا هو المتفق على صحته. ومن هنا إلى آدم ﵊ مختلف فيه، ومذكور في كتب السيرة المطولة، فمن أراد الوقوف عليه فليراجعها.
ولد ﷺ يوم الاثنين، في شهر ربيع الأول من عام الفيل، قيل: ثانيه، وقيل: ثالثه، وقيل ثاني عشره، وقيل غير ذلك.
يَوْمٌ أضاء به الزمانُ وفتَّحتْ ... فيه الهدَايةُ زَهْرةَ الآمالِ
ومات أبوه وله من العمر ثمانيةٌ وعشرون شهرًا، وقيل شهران، وقيل: سبع، وقيل: وهو حَمْل، وكفله جَدُّه عبد المطلب، ثم توفي عبد المطلب وله ﷺ من العمر إذ ذاك ثمان سنين وشهران وعشرة أيام، فكفله عمُّه أَبو طالب.
وماتت أمه آمنة، وهو ابن أربع سنين، وقيل: ست.
وأرضعته حَليمة السعدية، وثويبة الأسلمية، وحضنته أم أيمن.
ولما بلغ اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام، خرج مع عمِّه أَبي طالب إلى الشام، فلما بلغ بُصرى رآه بحيرى الراهب، فعرفه، بصفته، فجاءهُ وأخذ بيده، وقال: هذا رسول ربِّ العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين، إنكم حين أقبلتم من العقبة لم يبق حجرٌ ولا شجر إلا خَرَّ ساجدًا، ولا يسجد إلا لنبي، وإنا نجده في كُتبنا.
وقال لأبي طالب: لئن قدمت به إلى الشام لتقتله اليهود. فرده خوفًا عليه منهم.
ثم خرج مرة ثانية إلى الشام، مع ميسرة غلام خديجة بنت خويلد، في تجارة لها قبل أن يتزوجها، فلما قدم الشام، نزل تحت ظل شجرة قريبًا من صومعة راهب، فقال الراهب: ما نزل تحت ظل هذه الشجرة إلا نبي.
وكان ميسرة يقول: إذا كان الهاجرة، واشتد الحر، نزل ملكان يُظلانه.
ولما رجع من سفره تزوج خديجة بنت خويلد، وعمره خمس وعشرون سنة وشهران وعشرة أيام، وقيل غير ذلك.
ولما بَلغ خمسًا وثلاثين سنة شهد بنيان الكعبة، ووضع الحجر الأسود بيده.
ونشأ رسول الله ﷺ في قومه، وقد طهره الله تعالى من دنس الجاهلية ومن كل عيب، ومنحه كل خُلُق جميل، حتى لم يكن يُعرف من بينهم إلا بالأمين؛ لما رأوه من أمانته، وصدق لسانه، وطهارته.
ولما بلغ أربعين سنة ويمًا بعثه الله بشيرًا ونذيرًا، وأتاه جبريل ﵇ بغار حراء، فقال: اقرأ.
فقال: ما أنا بقارئ.
قال رسول الله ﷺ: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ.
فقلت: ما أنا بقارئ.
فقال في الثالثة: (اقْرَأ باسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ) إلى قوله تعالى: (عَلّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) .
1 / 14
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أول ما بُدئ به رسول الله ﷺ من الوحي، الرؤيا الصادقة في النوم، وكان لا يرى رُؤيا إلا جاءت مثل فلق الصُبح، وحُبِّب إليه الخَلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع لخديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحقُّ. رواه البخاري ومسلم.
وكان مبدأ النبوة فيما ذُكر يوم الاثنين ثامن شهر ربيع الأول.
ثم حصره أهل مكة هو وأهل بيته في الشعب ثلاث سنين، ثم خرج من الشعب وله تسع وأربعون سنة.
وبعد ذلك بثمانية أشهر وأحد وعشرين يومًا، مات عمُّه أبُو طالب.
وماتت خديجة، رضي الله تعالى عنها بعد أبي طالب بثلاثة أيام.
وكانت أول من آمن بما جاء به، ثم آمن أبو بكر، ثمّ علي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وبلال رضي الله تعالى عنهم، ثم بعد هؤلاء عمرو بن عبسة السلمي، وخالد بن سعيد ابن العاص، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عُبيد الله ابن عثمان، ثم كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه تمام الأربعين إسلامًا. ذكر ذلك ابنُ حَزْم في " مختصر السيرة ".
ولما بلغ خمسين سنة وثلاثة أشهر قدِم عليه جِنُّ نصيبين فأسلموا.
ولما بلغ 'حدى وخمسين سنة وتسعة أشهر، أسري به إلى بيت المقدس.
روى البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، أن نبي الله ﷺ حدثهم عن ليلة أُسري به، قال: " بينما أنا في الحطيم " - وربما قال: " في الحجر مضطجع " - ومنهم من قال: " بين النائم واليقظان "، " إذ أتاني آت "، قال: فَسمعته يقول: " فشق ما بين هذه إلى هذه ". فقيل للجارود: ما يَعنى به؟ قال: من ثغرة نحره إلى شِعرته. وسمعته يقول: من قصه إلى شِعرته. " فاستخرج قلبي ثم أُتيت بطشت من ذهب مملوءة إيمانًا، فغسل قلبي ثم حُشي، ثم دُعي بدابة دون البغل وفوق الحمار " فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ فقال أنس: نعم، يضع خطوة عند أقصى طرفه " فحملت عليه، فانطلق بي جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء " الحديث بطوله. ورأى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ورأى من آيات ربه الكبرى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، وأوحى إليه ما أوحى، وفرضت الصلاة تلك الليلة، ولما أصبح قص على قريش ما رأى.
وروى البخاري، ومسلم، والترمذي عن جابر، أنه سمع رسول الله ﷺ، يقول: " لما كذبني قريش قُمت إلى الحجر الأسود، فجلا الله لي بيت المقدس، فطفقت أُخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه ".
وقد اختلف الناس في كيفية الإسراء، فالأكثرون من طوائف المسلمين متفقون على أنه بجسده ﷺ، والأقلون قالوا بروحه.
حكى الطبري في " تفسيره " عن حذيفة، أنه قال: كل ذلك رؤيا. وحكى هذا القول أيضًا عن عائشة، وعن معاوية رضي الله تعالى عنهما.
ومنهم من قال بجسده إلى بيت المقدس، ومن هناك إلى السموات السبع بروحه.
قال الصلاح الصفدي، بعد أن نقل ما ذكرناه من الأقوال، قلت: والصحيح الأول؛ لأنه قد صح أن قريشًا كذبته، ولو قال رسول الله ﷺ: رأيت رُؤيا، لما كُذِّب، ولا أنكر ذلك على غيره، فضلًا عنه؛ لأن آحاد الناس يرون في منامهم أنهم ارتقوا إلى السموات. وما ذلك ببدع.
قال: أنشدني لنفسه الشيخ الإمام شهاب الدين أبو الثناء محمود بن سلمان بن فهد الحلبي الكاتب رحمه الله تعالى قراءة منى عليه، من جملة قصيدة طويلة، من جُملة مُجلدة فيها مدح النبي ﷺ:
أُسْرى إلى الأقْصَى بجسمِكَ يَقْظةً ... لا في المنام فَيقبلُ التَّأويلاَ
إذ أنْكرتْه قريشُ قبل ولم تكنْ ... لِترَى المَهُولَ من المنامِ مَهُولا
ولما بلغ ﷺ ثلاثًا وخمسين سنة هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ومولى أبي بكر عامر بن فُهيرة، ودليلهم عبد الله بن الأريقط الليثي.
قال الحافظ عبد الغني، وغيره: وهو كافر، ولم نعرف له إسلامًا.
1 / 15
فأقام بالمدينة عشر سنين. وكان يُصلى إلى بيت المقدس مُدة إقامته بمكة، ولا يستدبر الكعبة يجعلها بين يديه، وصلى إلى بيت المقدس بعد قدومه المدينة سبعة عشر شهرًا، أو سنة عشر شهرًا، ولما أكمل في المدينة عشر سنين سوا تُوفي وقد بلغ ثلاثًا وستين سنة، وقيل غير ذلك، وفيما تقدم من التواريخ خلاف، وكانت وفاته يوم الاثنين، حين اشتد الضُّحى، لثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، ومرض أربعة عشر يومًا، ودفن ليلة الأربعاء.
ولما حضره الموت كان عنده قدح فيه ماء، فجعل يدخل يده فيه ويمسح وجهه ويقول: " اللهم أعني على سكرات الموت ". وَسجي ببرد حبرة. وقيل: إن الملائكة سجته.
وكذب بعض أصحابه بموته دَهشة، يُحكى ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه، وأُرس عُثمان رضي الله تعالى عنه، وأقعد رضي الله تعالى عنه، ولم يكن فيهم أثبت من العباس، وأبي بكر رضي الله تعالى عنهما.
ثم إن الناس سمعوا من باب الحجرة: لا تغسلوه، فإنه طاهر مُطهر. ثم سمعوا بعد ذلك: اغسلوه؛ فإن هذا إبليس، وأنا الخضر، وعزاهم فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، وَدركًا من كل فائت، فبالله فثقوا، فإن المصاب من حُرم الثواب.
واختلفوا في غسله، هل يكون في ثيابه أو يجرد عنها؟ فوضع الله عليهم النوم، فقال قائل، لا يدري من هو: اغسلوه في ثيابه. فانتبهوا، وفعلوا ذلك.
والذين ولوا غسله عَليٌّ والعباس، ووالده الفضل، وقثم، وأسامة وشقران مَولياه، وحضرهم أوس بن خولي من الأنصار، ونفضه عليّ فلم يخرج منه شيء، فقال: صلى الله عليك وسلم، طِبت حيًا وميتًا.
وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة، بل لفائف من غير خياطة.
وصلى المسلمون عليه أفذاذًا، ولم يأمُهم أحد.
وفرش تحته في القبر قطيفة حمراء، كان يتغطى بها. ونزل شقران، وحفر له، وألحد وأطبق عليه تسعُ لِبنات.
واختلفوا: أيُلحد، أم يُضرح؟.
وكان بالمدينة حفاران، أحدهما يلحد، وهو أبو طلحة، والآخر يضرح وهو أبو عبيدة، فاتفقوا أن من جاء منهما أولًا عمل عليه، فجاء الذي يلحد، فلحد له. ونُحي فراشه، وحُفر له مكانه في بيت عائشة، رضي الله تعالى عنها.
وقال الحافظ عبد الغني: حول فراشه.
وكان ابتداء وجعه في بيت عائشة، واشتد أمره في بيت ميمونة، فطلب من نسائه أن يُمرض في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها، فأذن له في ذلك، وكان ما ابتدأ به من الوجع صُداع، وتمادى به، وكان ينفث في علته شيئًا يشبه أكل الزبيب، ومات بعد أن خيره الله تعالى بين البقاء في الدنيا ولقاء ربه، فاختار لقاء الله تعالى.
ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه سمع بعد وفاة النبي ﷺ يقول، وهو يبكي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد كان لك جذع تخطب عليه، فلما كثُر الناس اتخذت منبرًا تسمعهم، فحن الجذع لفراقك، حتى جعلت يدك عليه، فسكن، فأمتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك، أن جعل طاعتك طاعته، فقال تعالى: (مَن يُّطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاع الله) .
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده، أن أخبرك بالعفو عنك، قبل أن يخبرك بذنبك، فقال: (عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ) .
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن جعلك آخر الأنبياء، وذكرك في أولهم، فقال تعالى: (وإذْ أخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوحٍ وإبْراهيمَ ومُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) .
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون لو يكونوا أطاعوك، بين أطباقها يُعذبون، ويقولون: (يَا لَيْتَنَا أطَعْنا اللهَ وأطَعْنَا الرَّسُولاَ) .
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن كان موسى بن عمران ﵇، أعطاه الله حَجرًا تتفجر منه الأنهار، فماذا بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء صلى الله عليك وسلم.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لئن كان سُليمان بن داود أعطاه الله الريح غدوها شهر ورواحها شهر، فما ذلك بأعجب من البُراق حين سرت عليه إلى السماء السابعة، ثم صليت الصبح بالأبطح، صلى الله عليك وسلم.
1 / 16
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لئن كان عيسى ابن مريم ﵊، أعطاه الله تعالى إحياء الموتى، فما ذلك بأعجب من الشاة المسمومة حين كلمتك وهي مشوية، فقالت: لا تأكلني؛ فإني مسمومة.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه، فقال: (رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرضِ مِنَ الكَافِرينَ دَيَّارا)، ولو دَعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وطئ ظهرك، وأدمي وجهك، وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرًا، فقلت: " الَّلهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمي فَإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ".
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد اتبعك في قلة سنك، وقصر عمرك، ما لم يتبع نُوحًا في كبر سنه، وطول عمره، فلقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لو لم تجلس إلا كفوًا ما جالستنا، ولو لم تنكح إلا كفوًا ما آكلتنا، لَبست الصوف، وركبت الحمار، ووضعت طعامك بالأرض، ولعقت أصابعك تواضعًا منك صلى الله عليك وسلم.
صفته ﷺ
كان ربعة، بعيد ما بين المنكبين، أبيض اللون، مُشربًا حمرة، يبلغ شعره شحمة أذُنيه.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كنت أغتسل أنا ورسول الله ﷺ، وكان له شعر فوق الجمة ودون الوفرة.
رواه أبو داود، والترمذي.
وقالت أم هانئ، رضي الله تعالى عنها: قدم رسول الله ﷺ مكة، وله أربع غدائر.
روياه أيضًا.
كان سبط الشعر، في لحيته كثاثة، ومات ولم يبلغ الشيب رأسه ولحيته عشرين شعرة، ظاهر الوضاءة، يتلألأ وجهه كالقمر ليلة البدر.
وروى عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها وصفته، فقالت: كان والله كما قال شاعره حسان بن ثابت الأنصاري:
مَتى يَبْدُ في الدّاجي الْبَهيمِ جَبِينُه ... يَلُحْ مثلَ مِصْباحِ الدُّجَى المتوقِّدِ
فمَن كان أوْ مَن قد يَكونُ كأحمدٍ ... نِظامٌ لحقٍّ أوْ نَكَالٌ لِمُعْتَدِي
وروي عن أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إذا رأى النبي ﷺ يقول:
أمينٌ مُصطفىً بالخَيْرِ يَدعو ... كضَوْء البَدْرِ زايَلهُ الظلاَم
وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا رآه ينشد قول زهير في هرم بن سنان:
لو كنت من شيء سوى بشرٍ ... كُنت المضي لليلةِ البدرِ
أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم، أقنى العرنين، سهل الخدين، أزج الحاجبين، أقرن، أدعج العين، في بياض عينيه عروق حمر رقاق، حسن الخلق، معتدله، أطول من المربوع وأقصر من المشذب، دقيق المَسربة، كأن عنقه إبريق فضة، من لبته إلى سُرته شعر مُجرى كالقضيب، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، ششن الكف والقدم، ضليع الفم، أشنب، مُفلج الأسنان، بادنًا مُتماسكًا، سواء البطن والصدر، ضخم الكراديس، أنور المُتجرد، أشعر الذراعين والمنكبين، عريض الصدر، طويل الزند، رحب الراحة، سائل الأطراف، سبط القضيب، خمصان، بين كتفيه خاتم النبوة.
قال جابر بن سمرة: مثل بيضة الحمام يشبه جسده.
إذا مشى كأنما ينحدر من صبب، وإذا مشى كأنما ينقلع من صخر، إذا التفت جميعًا، كأن عرقه اللؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من ريح المسك الأذفر.
وقال عند أم سليم، فعرق، فجاءت بقارورة، فجلت تسكب العرق فيها، فاستيقظ النبي ﷺ؛ فقال: يا " أم سليم، ما هذا الذي تصنعين؟ ".
قالت: هذا عرقك، نجعله في طيبنا، وهو أطيب الطيب.
وفي وصف أم معبد له: وفي صوته صَهَل، وفي عنقه سطع، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البها، أحمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق.
وفي وصف هند بن أبي هالة: خافض الطرف، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام.
وفي وصف عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أجود الناس كفًا، وأرحب الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس بذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه، يقول ناعيته: لم أر قبله ولا بعده مثله، ﷺ.
شرح الغريب
مما في صفته ﷺ
الوضاءة: الحُسن والجمال.
1 / 17
والأزهر: الأبيض.
والأمهق: الشديد البياض، ليس بنيرٍ ولا تخالطه حُمرة.
والآدم من الناس: الأسمر.
والقنا: احديداب في الأنف.
والزجج: دقة في الحاجبين وطول.
والدعج: شدة سواد العينين.
والمشذب: الطويل.
والمسربة، بضم الراء: الشعر الذي يأخذ من الصدر إلى السرة، وهو مستدق.
واللبة: المنحر.
والشثن، بتحريك الثاء: مصدر شثنت كفه، إذا خشنت وغلظت.
وضليع الفم، قال أبو عبيد: أراد أنه كان واسع الفم.
قال القتيبي: ضليع الفم: عظيمه.
والشنب: حدة الأسنان.
والبادن السمين.
والمتماسك: المُستمسك اللحم.
والكراديس: جمع كُردوس، وهو كل عظيمين التقيا في مفضل.
وسواء البطن والصدر، يريد أن بطنه غير مُستفيض، فهو مُساوٍ لصدره.
أنور المتجرد، يعني شديد بياض ما جرد عنه الثوب.
رحب الراحة: واسع الكف.
والخمصان، الخمص: ما ارتفع عن الأرض من باطن القدم.
الصهل، والصحل في رواية: شِبه البحة، وهو غلظ في الصوت، لأنه مأخوذ من صهيل الفرس.
والسطع: طول العنق.
أسماؤه ﷺ
روى البخاري والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: " ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مُذمما، ويلعنون مُذمما، وأنا مُحمد ".
قال السخاوي في " سفر السعادة ": قيل لعبد المطلب: بم سميت ابنك؟ فقال: بمحمد.
فقالوا له: ما هذا من أسماء آبائك! قال: أردت أن يحمد في السماء والأرض.
قال الصفدي: وأحمد أبلغ من محمد، كما أن أحمر وأصفر أبلغ من مُحمر ومُصفر.
وروى البخاري، ومسلم، والترمذي، عن جبير بن مُطعم، قال: قال رسول الله ﷺ: " لي خمسة أسماء، أنا مُحمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحوا الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب ".
والعاقب: الذي ليس بعده نبي.
وقد سماه الله تعالى رءوفًا رحيما.
قال الصلاح الصفدي: أنشدني لنفسه قراءة منِّي عليه، الشيخ الإمام الحافظ فتح الدين ابن سيد الناس اليعمري، فيما وافق من أسماء الله الحسنى لأسماء رسول الله ﷺ، في قصيدة له في مدحه:
وَحلاَّهُ من حُسْنى أسَامِيه جُمْلةً ... أتى ذكرُها في الذِّكر ليس يبيدُ
وفي كُتب الله المُقدَس ذِكرُها ... وفي سُنَّةٍ تأتي بها وتُفِيدُ
رَءوفٌ رحيمٌ فاتحٌ ومُقدَّسٌ ... أمينٌ قويٌ عَالِمٌ وشهيدُ
وَليٌّ شكورٌ صادقٌ في مَقالِه ... عَفُوٌ كريمٌ بالنَّوَالِ يعودُ
ونُورٌ وجبارٌ وهَادي من اهتدَى ... ومولى عزيزٌ ليس عنه مَحيدُ
بَشيرٌ نذيرٌ مؤمنٌ ومُهَيْمِنٌ ... خَبيرٌ عَظيمٌ بالعَظيم يَجُودُ
وحقٌ مُبينٌ آخرٌ أول سما ... إلى ذِروة العلياء وهو وَليدُ
فآخِرُ أعْني آخِرَ الرُّسْل بَعْثُه ... وأولُ مَن ينشقُ عَنهُ صَعِيدُ
أسامٍ يَلَذُ السَّمعُ إن هي عُدِّدَتْ ... نعُوتُ ثَنَاءٍ والثناءُ عَديدُ
وقال حسان بن ثابت، رضي الله تعالى عنه:
فشقّ له إسْمهِ ليُجِلَّهُ ... فذُو الْعَرشِ محمودٌ وهذا مُحمَّدُ
ومن أسمائه: المُقفى، ونبي التوبة، ونبي الرحمة.
وفي صحيح مسلم: ونبي المرحمة.
ومن أسمائه: طه، ويس، والمزمل، وعبد الله، في قوله تعالى: (وأنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ)، وَمُذِّر في قوله تعالى: (إنَّمَا أنْتَ مُذَكِّرٌ) . وله من الأسماء غيرُ ذلك.
اصطفاؤه، وفضله على سائر الخلق
روى البخاري، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله ﷺ، قال: " بعثت من خير قرون بني آدم، قرنًا فقرنا، حتى كنت من خير قرن، كنت منه ".
وروى مسلم، والترمذي، عن واثلة بن الأسقع، قال: سمعت رسول الله ﷺ، يقول: " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كِنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ".
وروى الترمذي، عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله ﷺ يتذاكرون، وهم ينتظرون خروجه.
1 / 18
قال: فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، فقال بعضهم: عجبا، إن الله ﵎ اتخذ من خلقه خليلا، اتخذ إبراهيم خليلًا.
وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى، كلمه تكليما.
وقال آخر: ماذا بأعجب من جعله عيسى كلمة الله وروحه.
وقال آخر: ماذا بأعجب من آدم، اصطفاه الله عليهم - زاد رزين -: وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته - ثم اتفقا -.
فسلم رسول الله ﷺ، على أصحابه، وقال: " قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله، وهو كذلك، وأن موسى نجي الله، وهو كذلك، وأن عيسى روح الله وكلمته، وأن آدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة، ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله، ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مُشفع يوم القيامة، ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين، ولا فخر ".
أخلاقه ﷺ
سُئلت عائشة رضي الله تعالى عنها، عَنهُ، فقالت: كان خُلُقُه القرآن؛ يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، ولا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها، إلا أن تُنهك حُرمات الله فيغضب الله، وإذا غضب لم يقم لغضبه أحد.
وكان أشجع الناس، وأسخاهم، وأجودهم، ما سئل، فقال: لا، ولا يبت في بيته دينار ولا درهم، فإن فضل، ولم يجد من يأخذه، وفجأه الليل، لم يرجع إلى منزله حتى يبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت أهله عامًا فقط، من أيسر ما يجد من التمر والشعير، ثم يؤثر من قوت أهله حتى ربما احتاج قبل انقضاء العام.
وكان من أحلم الناس، وأشد حياء من العذراء في خدرها، خافض الطرف، نظرهُ الملاحظة.
وكان أكثر الناس تواضعًا، يجيب من دعاه من غنى أو فقير، أو حر أو عبد.
وكان أرحم الناس، الإناء للهرة، وما يرفعه حتى تروى، رحمة لها.
وكان أعف الناس، وأشدهم إكرامًا لأصحابه، لا يمد رجليه بينهم، ويوسع عليهم إذا ضاق المكان. ولم تكن ركبتاه تتقدم ركبة جليسه. له رفقاء يحفون به، وإن قال أنصتوا له، وإن أمر تبادروا لأمره، ويتحمل لأصحابه، ويتفقدهم، ويسأل عنهم، فمن مرض عاه، ومن غاب دعا له، ومن مات استرجع فيه، وأبعه الدعاء له، ومن تخوف أن يكون وجد في نفسه شيئًا، انطلق إليه حتى يأتيه في منزله. ويخرج إلى بساتين أصحابه، ويأكل ضيافتهم، ويتألف أهل الشرف، ويكرم أهل الفضل. ولا يطوى بشره عن أحد، ولا يجفو عليه، ويقبل معذرة المعتذر إليه، والضعيف والقوي عنده في الحق سواء، ولا يدع أحدًا يمشي خلفه، ويقول: " خلوا ظهري للملائكة ". ولا يدع أحد يمشي معه وهو راكب، حتى يحمله، فإن أبى قال: تقدمني إلى المكان الفلاني. ويخدم من خدمه، وله عبيد وإماء، ولا يرتفع عنهم في مأكل ولا ملبس. قال أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه: خدمته نحوا من عشر سنين، فوالله ما صحبته في حضر ولا سفر لأخدمه إلا كانت خدمته لي أكثر من خدمتي له، وما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلت كذا. ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلمفي سفرٍ، فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله، عليَّ ذبحها.
وقال آخر: عليَّ سلخها.
وقال آخر: عليَّ طبخها.
فقال رسول الله ﷺ: " وعَلَيَّ جمع الحطب ".
فقالوا يا رسول الله، نحن نكفيك.
فقال: " قد علمت انكم تكفونني، ولكن أكره أن أتميز عليكم؛ فإن الله يكره من عبده أن يراه مُتميزًا بين أصحابه ". وقام فجمع الحطب.
وكان في سفر، فنزل إلى الصلاة، ثم كر راجعًا.
فقيل: يا رسول الله، أين تريد؟ فقال: " أعقل ناقتي ".
فقالوا: نحن نعقلها.
قال: " لا يستعن أحدكم بالناس ولو في قضمة من سواك ".
وكان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، وإذا انتهى إلى القوم جلس حيث انتهى به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل أحد من جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه، وإذا جلس إليه أحدهم لم يقم ﷺ حتى يقوم الذي جلس إليه، إلا أن يستعجله أمر، فيستأذنه. ولا يقابل أحدًا بما يكره، ولا يجزي السيئة بمثلها، بل يعفو ويصفح.
وكان يعود المرضى، ويحب المساكين، ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيرًا لفقره، ولا يهاب ملكًا لملكه.
1 / 19
يُعظم النعمة وإن قلت، ولا يذم منها شيئًا، ما عاب طعامًا قط؛ إن اشتهاه أكله، وإلا تركه.
وكان يحفظ جاره، ويكرم ضيفه.
وكان أكثر الناس تبسمًا، وأحسنهم بشرًا. ولا يمضي له وقت في غير عمل لله، أو في مالًا بد منه، وما خير بين أمرين، إلا اختار أيسرهما، إلا أن يكون فيه قطيعة رحم، فيكون أبعد الناس منه.
يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويركب الفرس والبغل والحمار، ويردف خلفه عبده، أو غيره، ويمسح وجه فرسه بطرف كمه، أو بطرف ردائه.
وكان يحب الفأل، ويكره الطيرة، وإذا جاءه ما يحب، قال: " الحمد لله رب العالمين "، وإذا جاءه ما يكره، قال: " الحمد لله على كل حال ".
وإذا رفع الطعام من بين يديه قال: " الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا، وأوانا، وجعلنا مُسلمين ".
وأكثر جلوسه مستقبل القبلة.
ويكثر الذكر، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة.
ويستغفر في المجلس الواحد مائة مرة.
وكان يسمع لصدره وهو في الصلاة أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
وكان يقوم حتى ترم قدماه.
وكان يصوم الاثنين، والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وعاشوراء.
وقلما كان يفطر يوم الجمعة، وأكثر صيامه شعبان.
وفي الصحيحين، من رواية أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله ﷺ يصوم حتى نقول: لا يفطر. ويفطر حتى نقول: لا يصوم.
وكان ﵊ تنام عيناه ولا ينام قلبه، انتظارًا للوحي.
وإذا نام نفخ، ولا يغط.
وإذا رأى في منامه ما يكره قال: " هو الله لا شريك له ".
وإذا أخذ مضجعة قال: " ربِ قني عذابك يوم تبعث عبادك ".
وإذا استيقظ قال: " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ".
وكان لا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية، ويكافئ عليها، ولا يتأنق في مأكل، ويعصب على بطنه الحجر من الجوع. وآتاه الله مفاتيح خزائن الأرض فلم يقبلها، واختار الآخرة، وأكل الخبز بالخل، وقال: " نعم الإدام الخل ". وأكل لحم الدجاج، ولحم الحُبارى، وكان يأكل ما وجد، ولا يرد ما حضر، ولا يتكلف ما لم يحضر، ولا يتورع عن مطعم حلال؛ إن وجد تمرًا دون خبز أكله، وإن وجد حُلوًا أو عسلًا أكله.
وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد. وقال لأبي الهيثم بن التيهان " كأنك علمت حُبنا للحم ". وكان لا يأكل متكئًا، ولا على خوان. لم يشبع من خبز برُ ثلاثًا تباعًا، حتى لقي الله ﷿ إيثارًا على نفسه، لا فقرًا ولا بخلًا. ويجيب الوليمة، ويجيب دعوة العبد والحر. ويقبل الهدايا ولو أنها جرعة لبن أو فخذ أرنب. وكان يحب الدباء، والذراع من الشاة. وقال: " كلوا الزيت، وادهنوا به، فأنه من شجرة مباركة "، وكان يأكل بأصابعه الثلاث، ويلعقهن. منديله باطن قدميه. وأكل خبز الشعير بالتمر، والبطيخ بالرطب، والقثاء بالرطب، والتمر بالزبد، وكان يحب الحلواء والعسل.
ويشرب قاعدًا، وربما شرب قائمًا، ويتنفس ثلاثًا مبينًا للإناء، ويبدأ بمن عن يمينه إذا سقاه. وشرب لبنًا وقال: " من أطعمه الله طعامًا، فليقل: اللهم بارك فيه وأطعمنا خيرًا منه، ومن سقاه لبنًا فليقل: اللهم بارك لنا وزدنا منه ".
وقال: " ليس شيء يُجزى مكان الطعام والشراب غير اللبن ".
قال ابن حزم: وشرب النبيذ الحلو.
قال الصلاح الصفدي: تفسيره الماء الذي ينبذُ فيه التمرات اليسيرة ليحلو.
وكان يلبس الصوف، وينتعل المخصوف، ولا يتأنق في ملبس، وأحب اللباس إليه الحِبرة من اليمن، فيها حمرة وبياض. وأحب الثياب إليه القميص، ويقول إذا لبس ثوبًا استجده: " اللهم لك الحمد كما ألبستنيه أسألك خيره، وخير ما صنع، وأعوذ بك من شره، وشر ما صُنع ". وتعجبه الثياب الخضر، وربما لبس الإزار الواحد ليس عليه غيره، ويعقد طرفه بين كتفيه.
ويلبس يوم الجمعة برده الأحمر، ويعتم.
ويلبس خاتمًا من فضة، نقشه " محمد رسول الله " في خنصره الأيمن، وربما جعله في الأيسر.
ويحب الطيب، ويكره الرائحة الكريهة.
ويقول: " إن الله جعل لذتي في النساء الطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة ".
وكان يتطيب بالغالية والمسك، أو المسك وحده، ويتبخر بالعود والكافور، وكتحل بالإثمد، وربما أكتحل وهو صائم. ويُكثر دهن رأسه ولحيته، ويدهن غبا ويكتحل وترًا.
ويحب التيمن في ترجله، وفي ظهوره، وفي شأنه كله.
1 / 20