والذي يريد أن يسير نحو القوة عن طريق «العائلة»، يتناسى أن ليس في بلادنا عائلة واحدة غير منقسمة على نفسها، وأشهى ما عند الواحد منها أن يفنى قريبه، وأن العشيرة كذلك لم تعد موجودة. وأن «القرية» لا تجمع على أمر عظيم، إلا إذا كان هذا الأمر العظيم من منافع العيش كطريق أو إعانة لبلدية؛ فليس في لبنان اليوم ضيعة تثور إذا احتل اليهود جبل عامل مثلا.
والذين لا يزالون يتطلعون نحو الغرب هم كذلك يحومون على جزيرة غرقى؛ ففي الماضي جسدت الدول الغربية أحلامنا للانعتاق من الاستعمار التركي، ولكن الأجانب خدعونا مرتين: الأولى حين استعمرونا بعد تحررنا من الأتراك، والثانية حين سلموا بعض بلادنا لليهود؛ فكل تطلع اليوم نحو أية دولة أجنبية هو - في أبسط مظاهره - تحويم فوق جزيرة غرقى، بعض الروم الأرثوذكس، في بعض المناطق، ينشدون العون الروسي، متوهمين أن روسيا هي حصن الطائفة الأرثوذكسية.
إن بلادنا في سيرها الحضاري انسلخت عن شيء، ولا تزال تفتش عن شيء. هي اليوم في هوة؛ لأنها في فجوة.
إن أنطون سعادة لم يكتشف شيئا جديدا حين بشر بالقومية، كل ما فعل أنه نادى بها عارية عن الأوهام؛ لذلك اصطدمت الحقيقة بالأوهام، والأوهام هي لذة عقلية وخدر لا يريد الضعيف ويصعب عليه، أن يتخلى عنه؛ وإنها لحقيقة علمية أن الإقلاع عن المخدرات يتحدى قوة جبارة في النفس، ويعرض المقلع عنه - في بادئ الأمر - إلى صداع في الرأس شديد.
والمواطنون في بلادنا إن لم يعزموا على التخلص من الأوهام، وينشدوا التعسكر في النظام الجديد؛ فسيستمرون يحومون فوق الجزيرة الغرقى، عصائب طير بعضها يزقزق، وبعضها ينعب، وهي في تجمعها واستعراض أسرابها وألوانها تحسب القوة في مجرد تجمعها وضجيجها، وعددها، وتتوهم الاقتدار في الظل الذي ترميه على المياه.
وضعفنا اليوم هو في أننا ضجة وأظلة على مياه طمرت شيئا إلى الأبد اختفى؛ لأن الحضارة فيما تبني الأشياء هي تطمر الأشياء.
Неизвестная страница